الجزيرة تنهار .. مدارس خاوية

ومستشفيات مدمرة وحقول بالمزارعين

في ظل الحرب المستمرة في السودان، تحولت ولاية الجزيرة من رمز للزراعة والتعليم إلى مسرح للفوضى والانفلات الأمني. 

يروي التقرير حادثة لتلميذة صغيرة فرت من مدرستها خوفًا من اندلاع مواجهات مسلحة داخلها، وهو مشهد يعكس التغير الجذري الذي طال البيئة التعليمية حيث سيطر “المستنفرون” على المدارس، وحوّلوها إلى ساحات عسكرية تُدار بالأناشيد الحماسية ومنطق القوة.

امتد هذا التدهور إلى كل مناحي الحياة، مع تصاعد نفوذ المليشيات القبلية، مثل “درع البطانة” بقيادة أبو عاقلة كيكل، وسط خطاب تعبوي واستقطاب قبلي عنيف. 

 مشروع الجزيرة الزراعي، الذي شكّل لقرن من الزمان عصب الاقتصاد السوداني ووجدان إنسان المنطقة، فقد أصبح أطلالًا مهجورة. آلاف الأفدنة صارت غير صالحة للزراعة بعد نهب المحاصيل وتخريب البنية التحتية من قنوات ري ومخازن وآليات،ويُقدّر حجم الخسائر بعشرين مليار دولار، في وقتٍ ينتشر فيه الفقر والمرض نتيجة تلوث المياه وتدهور القطاع الصحي.

=‫====‬

الجزيرة.. مدرسة تتحول إلى ثكنة ومشروع إلى أطلال

أفق جديد

قبل انتهاء اليوم الدراسي، عادت التلميذة “نورا” التي تدرس بالمرحلة المتوسطة إلى منزلها وهي في حالة رعب وهلع، مشدوهة العينين، متلاحقة الأنفاس، تروي لأمها “الحرب قامت في مدرسة الثانوي..”!

 نقلت التلميذة “نورا” هذا الخبر الخطير ببساطة طفولية لوالدتها، التي لم تستوعب ما يجري، حاولت معرفة الأمر من معارفها القريبين. ومن المصادفات أن كاتب هذا التقرير كان حاضرًا وقتها في منزل تلك التلميذة الهاربة من المدرسة، وشهد بنفسه آثار الفزع الذي حملته معها.

في سودان بعد الحرب، تغير شكل الحياة العامة بشكل لافت، كأحد إفرازات الحرب وتداعياتها على المدنيين، التغيير أصبح محسوسًا بوضوح عندما تصطدم بدواوين ومرافق الخدمة المدنية التي باتت تحت سيطرة” المستنفرين”، الذين يمسكون بكل تفاصيلها، وقلميها الأخضر والأحمر.

شهد محرر “أفق جديد” العديد من الوقائع التي حدثت خلال الأشهر القليلة الماضية، وهي الفترة التي أعقبت دخول الجيش السوداني إلى مدينة ود مدني حاضرة ولاية الجزيرة، وبقية المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع.

 تغيرت البيئة التعليمية وأصبحت بلا لون ولا طعم، لم يكن الخراب قد طال المباني فقط، بل تكسر العمود الفقري لهذه العملية واندمج كثير من الطلاب والتلاميذ في حملة “بل بس”، وتحولوا إلى “مستنفرين” يحاججون مُدرسيهم في قاعات الدراسة بمنطق السلاح وقوته، وأصبحت المدرسة مثل قلعة عسكرية تتصدرها أصوات الأناشيد العسكرية والجهادية في طابور الصباح.

في إحدى المدارس الثانوية بغرب ولاية الجزيرة دخل المعلم مع أحد الطلاب في نقاش من صميم واجبه الأكاديمي البحت، غير أن الطالب المستنفر اعتبر النقاش إهانة لكرامته، وأبت نفسه إلا أن يرد “كرامته”، فعاد في اليوم التالي مرتديًا زيًا عسكريًا وبمعية آخرين، وشرع يتحرش لفظيًا مع معلمه، وكاد أن يحدث ما لا يُحمد عقباه بالمدرسة.

 وكان المنظر العسكري مثيرًا لحفيظة تلاميذ مرحلتي الأساس والمتوسطة بالمدارس المجاورة، ومنهم من فرّ هاربًا إلى منزله لينقل الرعب إلى أسرته التي لم تتعافى بعد من تداعيات الحرب، مثلما ما نقلت التلميذة “نورا” ووصفت ما رأته.

هذا النموذج من تمدد ونفوذ المسلحين الجدد يتكرر يوميًا في الحياة العامة، الشارع، السوق، المدرسة، المستشفى، وعلى خلفية ذلك تتزايد في ولاية الجزيرة حدة الاستقطاب والاصطفافات القبلية داخل الولاية، وتتنوع فيها التشكيلات العسكرية والمسميات ذات الأيدولوجيا المختلفة “مقاومة شعبية، براؤون، درّاعة…”. وعقب سقوط الولاية في ديسمبر 2023 تحت سيطرة قوات الدعم السريع بقيادة أبو عاقلة كيكل، وما صاحب ذلك من انتهاكات عنيفة، تعيش الولاية في صفيح ساخن وقوده التحشيد القبلي وخطاب الكراهية والتعبئة العنصرية، وبرزت مليشيا “درع البطانة” مجددًا وبغطاء جديد بعد التصالح مع قائدها المتمرد سابقًا أبو عاقلة كيكل، والتسويق له كبطل للمسرحية وبمسوقات ومطالب على شاكلة “يجب أن يكون للجزيرة قوات تحميها وتدافع عن حقوقها”، أسوة بقوات الدعم السريع وغيرها من المليشيات العسكرية القبلية والمناطقية التي تستثمر في الظروف الاقتصادية للمواطنين، وشظف العيش وحالة الانفلات الأمني، فأصبحت البندقية هي أحد مصادر الرزق.

وعلى خلفية هذا التحشيد العسكري تمت إعادة إنتاج مليشيات “درع البطانة” بقيادة كيكل كأكبر قوة قبلية مسلحة ذات إمكانيات وسيطرة ونفوذ، وجدت الرعاية والدعم والتسليح من قبل بعض القيادات النافذة داخل المؤسسة العسكرية، حيث تتوسع في التجنيد الذي يتم على أساس قبلي في صفوف الشباب والقيادات الأهلية، علاوة على الاستثمار في مآسي الانتهاكات الكارثية التي عاشها مواطنو ولاية  الجزيرة إبان سيطرة قوات الدعم السريع عليها، فظلت تمارس أبشع أنواع الانتهاكات العنصرية ضد المواطنين من سكان الكنابي في بعض مناطق الولاية تحت شعارات تطهير ولاية الجزيرة ممن أسموهم بـ”الغرباء” المتعاونين مع الدعم السريع.

تتحدث التقارير العالمية والمحلية عن الدمار الذي لحق بالقطاع الصحي بشكل عام وتأثير الحرب على جودة خدمات الرعاية الصحية الأولية، ومع هذا الانهيار في القطاع الصحي شهدت منطقة غرب الجزيرة انتشارا للحُميات وأمراض مختلفة مثل الملاريا والتايفويد والإسهالات والحمى المالطية، وأرجع أطباء تحدثنا إليهم كل ذلك لتلوث البيئة ومصادر المياه بسبب مخلفات الحرب، ويصادف ذلك التلوث تلوثًا من نوع آخر بسبب تجفيف “ترع وخزانات” المياه بمشروع الجزيرة، وهي سنة راتبة تتبعها إدارة المشروع بحجة تطهير القنوات مع العلم أن هذه “الترع” تعتبر المصدر الرئيس لمياه الشرب لمواطني وحيوانات تلك المنطقة، حتى وصل الأمر إلى ارتفاع  أسعار الليمون لزيادة الطلب عليه نسبة لحالة “الطُمام” التي تسيطر على غالبية المواطنين وهو عامل مشترك بين كل هذه الأمراض.

أسهم مشروع الجزيرة في صياغة وتشكيل وجدان إنسان الجزيرة، خاصة أن كل المناسبات السعيدة مرتبطة بموسم الحصاد ومدى نجاحه. يدخل الحاج “محمد عثمان” إلى مخزنه الخاوي، ينظر إلى أركانه الحزينة، ولسان حاله تجسده كلمات الشاعر صلاح حاج سعيد “طوريتك في الطين مرمية.. وكوريتك يابسة ومجدوعة”،  وهو منظر لم يعتد رؤيته منذ سنوات طويلة، ولم يكن يحدث أن يخلو المخزن من المحاصيل كما حدث في هذا الموسم، فقد قامت القوات الغازية بنهب الغلال بالكامل وشردت المزارعين وهجّرتهم من قراهم قسرًا، ومنذ قرابة المئة عام وهو عمر المشروع  “1925 – 2025” لم يمر على مشروع الجزيرة موسم زراعي غاب فيه المزارع عن حراثة الأرض وفلاحتها، تبلغ مساحة مشروع الجزيرة أكثر من مليوني فدان معظمها أصبحت غير صالحة للزراعة في الوقت الحالي، أتلفتها الحشائش والآفات المتراكمة خلال الموسمين الماضيين، وسط عجز تام من حكومة الأمر الواقع عن القيام بدورها في التحضير للموسم الزراعي الحالي وعدم تطهير القنوات المغلقة بالحشائش.

 وتقدر الخسائر بمشروع الجزيرة بنحو عشرين مليار دولار كتقديرات أولية، نتيجة التدمير والنهب الذي حدث لأصول المشروع المتمثلة في قنوات الري والمخازن والورش والجرارات والمباني التي يعود تأسيسها إلى العهد الإنجليزي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى