دمٌ لا يُغسل، وخيانةٌ لا تُنسى

 

تمر علينا ذكرى الثلاثين من يونيو، وبلا شك هو ليس مجرد يوم في الروزنامة، بل يوم تشقّقت فيه الروح السودانية مرتين، في 1989 حين سرق الإسلاميون السلطة بليلٍ وبلاء، وأدخلوا البلاد في نفقٍ من الدم، وفي 2019 حين خرج الشعب بالملايين يهتف بسقوطهم، حاملاً في صدره جراح ثلاثين عامًا، وقبرًا جماعيًا شقوه في صدور الناس مرتين.

في الأولى، لم يكن انقلابًا فقط، بل كان بداية خرابٍ شامل انقضّ الإسلاميون على الديمقراطية الوليدة، بوجهٍ متوضئ وسكين في اليد أطلقوا دولة التمكين، ومزّقوا أوصال المجتمع، وأشعلوا الحروب، ونهبوا الأرض، وسمّموا مؤسسات الدولة حتى النخاع، أسّسوا جهاز أمنٍ فاشي، وجيشًا مخترقًا، ومليشيات تقتل باسم “الجهاد”،

كل شيء تداعى منذ تلك اللحظة. كانوا لا يريدون حُكم السودان، بل امتلاكه. ثم في 2019، ظنّ الشعب أن النهاية قد حانت، خرج الناس في الثلاثين من يونيو، بعد مجزرة القيادة العامة، لا ليندبوا قتلاهم بل ليواجهوا ويعلنوا أن زمن الرعب انتهى، لكن لم تمر سنوات قليلة، حتى انكشفت الخديعة: الإسلاميون الذين تظاهروا بالسقوط، كانوا فقط يُبدّلون الأقنعة والجنرالات والانتهازيين بآخرين.

 اشتعلت الحرب، كانت رائحتهم أول ما صعد مع الدخان، هم من غذّوا الانقسام داخل الجيش، هم من نفخوا في نار الفتنة، هم من صنعوا “الباشبوزق” وأطلقوهم علينا، ثم انسحب الجيش، الذي اختار أن يكون دمية طائعة في يدهم تاركًا المدن والقرى لأدوات الخراب التي ربّاها النظام القديم في دهاليز السلطة.

لم يقاتلوا، لم يدافعوا، فقط تركوا الغلابة في وجه الذبح، ثم عادوا الآن يطالبونهم بالتصفيقٍ على أنقاض بلادهم. واليوم، يُطلّ علينا نفس الوجه القديم، مكسوًا بغبار الحرب، مزوّقًا بخطاب الوطنية المزيّف جنرالاتٌ يلمّعون سيرهم، ومشايخُ سلطة يتاجرون بالدم، وكل من يبحثون عن غُسلٍ في بحيرات الدماء وركام الجثث، كل من تلطّخ اسمه بالخيانة، والعار والخيبة عاد يحاول أن يغتسل بالدماء المسفوحة، ويتخفّى خلف رايات المجد الزائف.

 حفنة من الانتهازيين، الدجالين، الحرامية، تتسابق لاقتناص لحظة البطولة الزائفة، كل من فشل في حياته، أو تلطّخ اسمه، جاء يبحث عن تطهيرٍ رخيص وسط جثثنا، يرتدي البدلة، يتغنّى بالمعركة، يزوّر التاريخ… في محاولة بائسة لتجميل عارٍ لا يُغتفر، لكنه لا يدري أن الشعب يدري ويعرف، ويتذكّر، ويشهد..

يعرف من خان، ويعرف من صمت، ويعرف من تواطأ، ويعرف من باع. ولا يدري أيضًا أن هذا الشعب لا يُهزم، حتى حين يُخذل.

إنه يعود من تحت الركام، ويُزيح المجرمين، كما فعل في 2019، وكما سيفعل ثانيةً – لا محالة.

30 يونيو ليس مناسبة للاحتفال، بل موعدٌ للمحاسبة. موعدٌ لفتح سجلّ الدم، وقراءة الأسماء، فالشعب الذي أردتم إرعابه بالمجزرة الدنيئة تلك فأرعبكم بنهوضه من بين ركام القيادة العامة لن يترك دمًا دون قصاص.

30 يونيو هو موعدٌ الشعب ليقول لمن يدّعون المجد: نحن لا ننسى. ولمن يحاولون تزييف البطولة: أنتم مجرّد طبقة طحالب فوق دماء من قاتلوا حقًا. هذا اليوم ليس لكم. هذا اليوم لنا… ولشهدائنا… ولثورتنا التي ما زالت حية تُقاتل.

الشعب الذي هب في الثلاثين من يونيو 2019 يعرف ويعي أن العدو الحقيقي لم يكن سلاحًا فقط، بل فكرة، والقاتل الأول لم يكن جنرالًا، بل مشروعًا شيطانيًا اسمه “التمكين”.. لن ينسى أن من أسّس آلة القتل هو  من يدّعي الآن أنه ضحيتها.

لن يغفر لمن سلّم البلاد للمليشيات، ثم ارتدى ثوب الحكمة. لن ينسى من باع السودان في 1989، وخطط لخرابه في 2023، ويطمح أن يحكمه في 2025.

هذا اليوم ليس للتذكار، بل للغضب، ليس لمَن تلبستهم الحالة وامتطوا الثورة، بل لمن دفنوا أبناءهم في صمت، ومضوا على طريق الخلاص. وسيظل موعدًا سنويًا لفتح الدفاتر، لا طيّها، موعدًا للمحاسبة، لا للغفران، ولكل من يحاول غسل ماضيه بالدم، نقول: دمنا لا يُغتسل… بل يُدين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى