د. صلاح عمر
عقل الثورة المستمرة
ثورة ديسمبر المجيدة لا جدال أنها زلزلت المشروع الأوحد للإسلام السياسي والدولة الدينية في العالم العربي، وأتت بعقل سياسي مغاير لما كان سائداً وأفضنا في سماته في الحلقة السابقة.
والعقل السياسي الخاص بالثورة مؤاشراته تقول إنه لم ينتج وعيه داخل المواعين والمؤسسات التقليدية، بل تشكل في الشارع، عبر الاحتجاج واللجان، والشعارات وتفاعلات يومية بين الناس منذ أمد بعيد في حكم الإنقاذ، ووضح ذلك في هبة 2013.
وامتاز هذا العقل بملامح تختلف كثيرًا لما سبقه من سمات للعقل السياسي، ولنا أن نحدد هذه المزايا كأدناه:
- عقل أفقي لا هرمي، إذ أرادت لجان المقاومة أن ترفد الحياة السياسية السودانية بأنماط جديدة تمثلت في القيادات الأفقية دون أن يكون هنالك زعامة واحدة ولا مركز قرار مطلق، بالطبع هذا الاتجاه في الوعي تحدى عقل الزعامة التقليدية في الأحزاب والمنظومات المركزية. الاتجاه الأفقي هذا لم تكن فترة امتحان صوابة طويلة، ولكن أظهر بعض الهنات في الممارسة اليومية، علها تحتاج إلى مراجعات، باعتبار أن أي جديد أو مستحدث في طرائق التفكير حتماً يصطدم بالموروث والموجود.
- عقل احتجاجي لا سلطوي. مؤكد أن الثورة لم تنشأ بهدف الوصول للسلطة فقط، بل لتفكيك الاسنبداد وإعادة تعريف الدولة، وجاء سلوك الثوار وفقاً لهذا الفهم في نقدهم الجذري للعسكر والإسلام السياسي والنخب المدنية المتصالحة حينها، وأبدوا تشككهم بأنهم يريدون تدوير السلطة بدل تفكيك بنيتها القديمة، وحافظت لجان المقاومة والتنظيمات الأخرى على مسيراتها المليونية المجدولة لتواصل احتجاجها على التراضي في مسار الثورة.
- عقل (تواصلي) لا خطابي، الثورة أوجدت لغة سياسية جديدة، شعارات مثل (حرية سلام وعدالة) و( تسقط بسو) و(السلطة سلطة شعب…..إلخ)، هكذا أصبحت هذه اللغة تمثل أدوات تحليلية ومواقف سياسية ناصعة.
هذه اللغة لم تكتب في بيانات حزبية أو نقابية، بل صيغت في الشارع من وجدان جمعي مباشر.
وهذا يعبر عن تحول من الخطابة التقليدية إلي العقل التشاركي الحواري، وهنا نستدعي متلازمة الشباب الذي ظل استخدامها يعكس تيرم من استطالات الخطابة (جيب الزيت).
- عقل شبكي لا مركزي، لا يمكن فهم ثورة ديسمبر المجيدة دون فهم دور وسائل التواصل الاجتماعي، في التشبيك القاعدي بين الأحياء والمدن من جهة وبين الأقاليم المختلفة من جهة أخرى، أي أن العقل الجديد يتوزع على أطراف متصلة لا مركز يتحكم على البقية.
- عقل نقدي لا تبريري، معظم الخطابات في الثورة مليئة بالنقد للممارسات السياسية بالأحزاب، العسكر والإسلاميين، هذا الوعي النقدي يعكس نضجاً سياسياً ورفضاً للوصاية.
ولكن يمكن له أن يتحول إلي رفض عام لكل تنظيم سياسي لأن الرفض لم يطالب بإصلاح مؤسسي للحياة السياسية، وهذا قطعاً يعيق البناء السياسي لاحقاً.
- عقل لا أيديولوجي لكنه ذو وعي حاد
لم تتبنَ الثورة مشروعاً أيديولوجياً أحاديًا إن كان يسارياً أو يمينياً، لكنها تبنت قيماً واضحة، العدالة، السلام، المشاركة، احترام الكرامة، والمحاسبة.. إلخ.
وهذا يفتح الباب لعقل سياسي مرن غير مصمت وغير مأزوم بصراعات الأيديولوجيا السياسية المغلقة.
مؤكد أن مزايا عقل الثورة التي حاولنا حصرها لم تكن وليدة لحظه انفجار الثورة، وظلت تسكن أذهان الثوار منذ هبة سبتمبر2013م ، وظل التداول حولها مستفيدين من المعرفة الثورية المستحدثة الموجودة في الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل الإجتماعي.
نخلص في هذه الحلقة، بأن العقل السياسي الذي تشكل بعد ثورة ديسمبر ذو مزايا إيجابية عديدة، وأن تشكله لم يصل إلى غاياته لأنه يحتاج إلى وقت ومراكمة ووقفات هنا وهناك حتي يصبح عقلاً حاكماً لا فقط محتجاً.
ويمكن أن نتساءل، هل سينجح عقل الثورة هذا في تأسيس دولة جديدة؟ رغم انقطاعة الحرب، أم سيتم احتواؤه، أو تحويله إلى طامة غاضبة بلا مشروع.
ونواصل في الحلقة القادمة لندفع بعقل الحرب، وإلي أين يقود السودان المنهك أصلاً.