هل تصلح المحاصصة لبناء وطن؟

 

محمد عمر شمينا

حين تتكرّس النسب الثابتة كوسيلة لتوزيع السلطة، يصبح السؤال حول جدوى المحاصصة سؤالًا مركزيًا، لا سياسيًا فقط. هل تُبنى الأوطان بتقسيم المناصب أم بتوحيد الرؤى؟

في السودان، شكّلت اتفاقية جوبا لحظة فارقة في مسار الانتقال السياسي، لكنها لم تنجُ من جدلٍ واسع حول طريقة تقاسم السلطة والثروة بين الموقعين. فقد تحوّل مبدأ التمثيل من مطلب للعدالة إلى آلية محاصصاتية جامدة، أعادت إنتاج التهميش في ثوبٍ جديد. وفي خضم هذا الواقع، برزت مواقف متمايزة، كان من أبرزها موقف رئيس الوزراء المعين أخيرًا، الذي لم ينخرط في معركة النسب، بل قدّم رؤية مختلفة تقوم على مشروع وطني (حسب ما فهمت) يتجاوز الأوزان العسكرية والجهوية.

المحاصصة، كمفهوم سياسي، ليست جديدة على التجارب الانتقالية في إفريقيا أو العالم العربي. وغالبًا ما تُقدَّم باعتبارها حلًّا مؤقتًا لضمان مشاركة الأطراف المسلحة أو المهمّشة في السلطة. لكن المشكل يبدأ حين تتحوّل تلك الصيغة المؤقتة إلى قاعدة مستدامة، ويصبح التفاوض حول كم نسبة الجهة أهم من النقاش حول شكل الدولة ووظيفتها ومشروعها. في السودان، بدأت ملامح هذا التوجه مع اتفاقية نيفاشا (2005)، وتكرّست لاحقًا في اتفاقية جوبا (2020)، التي جاءت في سياق مرحلة انتقالية حرجة، بعد سقوط النظام البائد، ووسط توازن قوى مضطرب بين المدنيين والعسكريين والحركات المسلحة.

نصّت اتفاقية جوبا على تخصيص نسب محددة في مستويات الحكم المختلفة لصالح الحركات الموقعة، خصوصًا في مجلس السيادة، ومجلس الوزراء، والمجلس التشريعي الانتقالي، وكذلك في الأجهزة الأمنية والخدمة المدنية. هذا التخصيص، رغم أنه جاء استجابة لمطالب تاريخية بالتمثيل العادل، إلا أنه أغفل منطق الحراك الشعبي الذي أسقط البشير، وقفز فوق القوى التي لم تحمل السلاح لكنها ناضلت سلميًا لعقود. ثبات النسبة في جوبا أرسى عرفًا جديدًا أن الطريق إلى السلطة يمر عبر التفاوض المسلح، لا عبر التفويض الشعبي. وهذا ما عمّق شعور الإقصاء عند مكونات عديدة، لا سيما من المناطق غير الممثلة، أو تلك التي لم تتخذ العنف وسيلةً لتحقيق مطالبها.

الفرق كبير بين تمثيل المهمّشين وفق معايير العدالة والمواطنة، وبين تقاسم السلطة على أسس جغرافية أو فصائلية. فحين تُختزل الهوية السياسية في الإقليم أو البندقية، يُهمّش المواطن العادي لصالح النخبة المسلحة، ويتحوّل الفضاء السياسي إلى سوق تفاوضي لا مشروع وطني فيه. المحاصصة في السودان لم تُبنَ على تعداد سكاني أو وزن سياسي أو برامجي، بل على منطق من حضر يوقّع ومن وقّع يحصل. فغابت الكفاءة، وغابت الشفافية، وغابت الرؤية التي توحد الجميع حول هدف جامع.

في هذا المناخ، برزت قلة من الأصوات التي لم تنخرط في منطق النسبة، ومن بينها رئيس الوزراء المعين، الذي احتفظ بمسافة من هذا السياق. لم يدخل في سباق المحاصصات، ولم يتقدم باسم جهة أو قبيلة أو إقليم، بل طرح رؤية تقوم على دولة المواطنة والمؤسسات (حسب خطابه)، وعلى إصلاح سياسي يضع الأسس لا النسب. المحاصصة ليست مشروعًا لبناء وطن، بل وصفة لإعادة إنتاج الانقسام داخل مؤسسات الدولة. النسبة الثابتة تعني وطنًا متجمّدًا، لا يتحرك نحو الأفضل، لأنها تلغي مبدأ التنافس والمساءلة وتُكرّس امتيازات مغلقة يصعب تفكيكها. وإذا كان اتفاق جوبا قد شكّل ضرورة انتقالية في سياقه، فإن تجاوزه بات اليوم من ضرورات تأسيس مشروع وطني يقوم على المشاركة لا الترضية، وعلى الكفاءة لا القسمة. الدولة لا تُبنى بتوزيع المناصب، بل بتوزيع الفرص والعدالة والكرامة. وإذا آثرت بعض الأصوات الصمت أو التماهي مع هذا الخلل، فإن هناك من ظل يطرح بدائل تنطلق من فكرة الوطن الجامع، لا من منطق القسمة الضيقة، وتُعيد السياسة إلى وظيفتها الأساسية خدمة الناس، لا اقتسام السلطة فوق رؤوسهم.

رئيس الوزراء المعين اخيرًا بخلفيته قدّم تصورًا لدولة تحكمها المعايير لا الولاءات، وتُبنى على الكفاءة لا الاصطفاف، وعلى وحدة الإرادة لا تقسيم الحصص. كان صوته ضعيفًا في زحام تفاهمات الغرف المغلقة، لكنه ظل متمسكًا بمشروع وطني يتجاوز منطق الغنائم لكن هل هذا يكفي؟ (حسب ما علمت).

المحاصصة ليست مشروعًا لبناء وطن، بل وصفة لإعادة إنتاج الانقسام داخل مؤسسات الدولة. النسبة الثابتة تعني وطنًا متجمّدًا، لا يتحرك نحو الأفضل، لأنها تلغي مبدأ التنافس والمساءلة وتثبت امتيازات غير قابلة للمراجعة. وإذا كان اتفاق جوبا قد مثّل ضرورة انتقالية في حينه، فإن تجاوز المحاصصة اليوم أصبح شرطًا لأي مشروع وطني حقيقي. الدولة لا تُبنى بتوزيع المناصب، بل بتوزيع الفرص والعدالة والكرامة. وإذا كان بعض السياسيين قد صمتوا عن هذا الخلل، فإن أصواتًا كثر وطنية تستحق أن تُسمع أكثر، لا لأنها تملك العصا السحرية، بل لأنها لا تزال تؤمن بأن السياسة يمكن أن تكون أداة لبناء الوطن، لا لاقتسامه.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى