دارفور تتجرع فصول المأساة والألم

 

تعيش دارفور في قلب مأساة إنسانية متفاقمة جراء استمرار الحرب في السودان منذ أبريل 2023، حيث يتفاقم النزوح والجوع والمرض وسط حصار خانق وانهيار كامل للخدمات،تفرّ آلاف الأسر من مناطق القتال، خاصة الفاشر، إلى أماكن مثل “طويلة”، التي تستضيف الآن أكثر من 1.5 مليون نازح.

المخيمات أشبه بالمعتقلات، يعاني سكانها من شح الغذاء والماء والعلاج، بينما الأطفال والنساء يدفعون الثمن الأكبر، سوء التغذية يحصد الأرواح، والمشاهد من الطريق تفطر القلوب، حيث تُدفن أجساد صغيرة بلا وداع، وتفقد الأمهات أبناءهن دون أن يسلمن من الحزن أو الجوع.

جهود التهدئة تبدو هشة، فرغم إعلان البرهان موافقته على هدنة إنسانية بالفاشر، رفضتها “الدعم السريع” ووصفتها بأنها خدعة عسكرية، في الأثناء، لا يزال العالم صامتًا، والكارثة تتسع، حيث توقفت المساعدات، وأصبح الناس يأكلون أوراق الأشجار وأعلاف الحيوانات للبقاء.

بعد أكثر من عقدين من النزاع في دارفور، ومع تعاقب الحروب، لم يبقَ للسكان سوى التشبث بخيط الأمل، بينما تصرخ الضمائر في وجه صمت العالم.

 

دارفور تتجرع فصول المأساة والألم

أفق جديد

في دارفور، لا تزال الحرب تكتب فصولها الأكثر وجعًا، وبينما يستمر النزاع في السودان جراء حرب 15 أبريل 2023، تتسع رقعة المأساة في الإقليم الغربي، حيث لا صوت يعلو فوق صرخات الجوع والمرض، ولا مشهد يسبق مشاهد النزوح والموت البطيء، في أرضٍ أنهكتها الصراعات، يعيش مئات الآلاف في مخيمات تفتقر لأبسط مقومات الحياة، بينما يتواصل الحصار، وتمنع الإغاثات، ويترك الأطفال والنساء لمصير غامض.

أقل ما يقال على لسان المعنيين إنها “الكارثة الصامتة” التي يعيشها النازحون في دارفور، حيث تحوّل الألم إلى واقع يومي، والموت إلى خبر عابر، في غياب العدالة والضمير العالمي.

عام ثالث من الجحيم

دخلت حرب السودان عامها الثالث، وما زالت المعاناة الإنسانية مستمرة في إقليم دارفور غربي البلاد، وما زالت أهوال الحرب قائمة، والجوع يفتك بالنازحين بسبب سوء التغذية وسط النساء والأطفال.

وبلغ الوضع الإنساني في مخيمات النازحين في دارفور مرحلة في غاية الخطورة، حيث يفقد الناس حياتهم يوميًا بسبب المرض والجوع والعطش.

ويعيش النازحون في مخيمات أشبه بالمعتقلات، ويعانون من كوارث منسية وآلام ممتدة في ظل انهيار شبه كامل للخدمات الأساسية، بينما يصمت العالم كأنه في غيبوبة كاملة.

يستمر تدفق النازحين بشكل جماعي من مخيمي “زمزم” و”أبو شوك”، حيث وصل إلى ما يقارب 7303 من النازحين إلى منطقة “طويلة”، ليرتفع العدد الإجمالي للنازحين إلى 288706 شخصًا.

تستضيف منطقة “طويلة” الآن أكثر من مليون ونصف نازح، وامتد النزوح إلى مناطق “جبل مرة”، “فنقا” “دربات”، “روكرو”، “قولو”، “نيرتتي” ومناطق أخرى.

محاولات التهدئة

قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إنه تواصل مع أطراف النزاع للتوصل إلى هدنة إنسانية في مدينة الفاشر بشمال دارفور غربي السودان.

ومنذ أبريل 2024، فرضت قوات “الدعم السريع” حصارًا شديدًا على الفاشر، ما أدى إلى تدهور الوضع الإنساني، حيث انعدمت بعض السلع والأدوية المنقذة للحياة، فيما دمّر القتال العنيف الأنشطة التجارية والصحية والتعليمية.

وقال غوتيريش، في تصريح صحفي، إنه “يجري اتصالات مع الأطراف المتحاربة في السودان، بغية تأمين هدنة إنسانية تُمكن من معالجة الوضع المأساوي في الفاشر”.

ووافق رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، الجمعة 27 يونيو 2025، على طلب غوتيريش الخاص بوقف إطلاق النار في الفاشر لمدة أسبوع بغرض توصيل المساعدات.

لكن مستشار قوات الدعم السريع الباشا طبيق، قال في تغريدة عبر منصة (X) إن أي حديث عن هدنة إنسانية بالفاشر هي محاولة من الجيش لإدخال الأسلحة لقواته المحاصرة بعاصمة ولاية شمال دارفور.

وأضاف: “الحديث عن هدنة إنسانية مؤقتة في الفاشر هو محاولة يائسة من البرهان لإدخال ذخائر ومواد غذائية إلى مليشياته المحاصرة داخل مدينة الفاشر، التي تلتقط أنفاسها الأخيرة بعد أن فشلت كل محاولاتهم العسكرية عبر متحرك الصياد الذي تم سحقه وتدميره في مدينة الخوي”.

وأوضح غوتيريش أنه تلقى ردًا إيجابيًا من البرهان حول الهدنة، وشدد على ضرورة إدراك الجيش والدعم السريع مدى أهمية تجنب الكارثة التي نشهدها في الفاشر.

ودعا إلى ضرورة تأمين هدنة لتوزيع المساعدات، على أن يتم الاتفاق عليها مسبقًا بهدف إعداد عملية توصيل ضخمة للمساعدات إلى الفاشر.

رحلة الموت إلى طويلة

يقول أحمد عبد الوهاب، الذي يقيم حاليًا في مدينة الفاو شرقي السودان، إن أسرته وصلت إلى منطقة “طويلة”، سيرًا على الأقدام لمدة 4 أيام متتالية بعد تعقيد الأوضاع الأمنية والإنسانية في مدينة الفاشر.

وأوضح عبد الوهاب في حديثه لـ”أفق جديد”: “بلغني أن أسرتي تعرضت لأسوأ أنواع المعاناة على طول الطريق بعد الرحلة الشاقة مع القليل من الطعام والشراب”.

وأضاف: “عاشوا ظروفًا صعبة وفقدوا كل مقومات الحياة الأساسية”.

نداء عاجل من الميدان

الناشط في العمل الطوعي والإنساني، أحمد المدني، يقول إن النازحين في دارفور فقدوا جميع الضروريات الأساسية، ويعانون من الجوع والأمراض، ويحتاجون إلى الطعام والمياه النظيفة والمأوى والعلاج والأدوية المنقذة للحياة.

 وأضاف المدني في حديثه لـ”أفق جديد”: “هناك حاجة ماسة إلى مساعدات إنسانية طارئة، تشمل المأوى والغذاء والعلاج”.

وناشد المدني المنظمات الإنسانية والخيرية تقديم المساعدات الإنسانية العاجلة للمتضررين في مخيمات النزوح في دارفور الذين يعانون من الأمراض والجوع وسوء التغذية خاصة وسط الأطفال.

مآسي تقطع نياط القلب

يقول المتحدث الرسمي باسم منسقية النازحين واللاجئين، آدم رجال: “النساء والأطفال كعادتهم في مواسم الخراب أكثر الفئات تعرضًا للضياع والانكسار، فهم من دفعوا الثمن الباهظ لهذا الصراع العبثي، وضاعت بينهم الأحلام وتبددت الآمال”.

ويضيف: “التقيت في طويلة ببعض النازحين ممن فقدوا أبناءهم وهم يسلكون دروب النزوح القاسية، يموتون عطشًا وجوعًا وأجسادهم الصغيرة تدفن في الأرض دون وداع”.

ويتابع بالقول: “كانت أمًا مفجوعة حملت في أحشائها جنينًا فيما دفنت بيديها خمسة من أطفالها، ولا تزال تبحث عن زوجها المفقود، بينما ينهشها الحزن والذهول. كيف للغة أن تصف هذه المأساة وكيف للضمير الإنساني أن يصمت عن مشاهد كهذه؟ ما رأيته وسمعته ليس إلا صورة واحدة من عشرات الصور التي تجسد قسوة الحياة وظلم الحرب”.

وزاد قائلًا: “وفي الطريق ذاته التقيت بأطفال فقدوا كلا والديهم، تائهين في عراء النزوح لا سند لهم ولا مأوى. لقد خلق هذا الصراع واقعًا هستيريًا تجاوز حدود الإدراك وعطّل كل القيم والسياسات، وفرض علينا ظرفًا استثنائيًا لا يمكن تجاوزه دون وقفة ضمير”.

وأوضح آدم رجال، أن استمرار النزوح المتتالي على مدى عقدين وما تبعه من آلام وجراح يستوجب منا جميعًا كمواطنين حريصين على ما تبقى من هذا الوطن.

وقال: “علينا أن نعمل بلا هوادة لإنهاء هذه الحرب المجنونة. آن الأوان أن تصغى أصوات السلاح لأصوات الإنسانية، وأن تتوقف آلة القتل عن طحن ما تبقى من أرواح بائسة تتشبث بخيط الأمل”.

عقدان من الدمع والدموع

ووفق النشطاء فإن “سوء التغذية يفاقم معاناة الأطفال في مخيم “كلمة” بجنوب دارفور، حيث يعانون من نقص الغذاء والضروريات الأساسية”.

ويواجه الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات في المخيم أوضاعًا إنسانية متردية إثر انعدام وندرة المساعدات الإنسانية.

ومنذ أشهر، ظل سكان مخيم “كلمة” الواقع بمدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور يشكون من انعدام الغذاء والأدوية المنقذة للحياة، لتوقف المساعدات التي كانت تصلهم من قبل المنظمات الدولية.

وفاقمت الحرب من حدة الأزمة الإنسانية في إقليم دارفور، خاصة في مخيمات النازحين، إثر تسبب الاشتباكات الناجمة عنها في تعطيل وصول المساعدات الإنسانية الدولية إلى الإقليم.

وخلفت الحرب الدائرة في السودان منذ منتصف أبريل/نيسان 2023 أكبر أزمة إنسانية على المستوى الدولي، إذ اضطر الناس إلى تناول أعلاف الحيوانات وأوراق الأشجار في دارفور، لعدم توفر الغذاء في مخيمات النزوح البالغ عددها 51 في ولايات دارفور الخمس.

وأُنشئت مخيمات اللجوء في دارفور عندما نزح السكان من القرى إلى المدن الكبيرة بحثًا عن الأمان بعد اندلاع الحرب في الإقليم 2003، بين القوات الحكومية وفصائل مسلحة متمردة.

ويشهد إقليم دارفور منذ 2003 نزاعًا مسلحًا بين القوات الحكومية وحركات مسلحة متمردة، أودى بحياة نحو 300 ألف شخص، وشرد نحو 2.5 مليون آخرين، وفق الأمم المتحدة.

وتقول الأمم المتحدة، إن السودان الذي كان، حتى قبل الحرب، من أفقر بلدان العالم، يشهد “واحدة من أسوأ أزمات النزوح في العالم، وهو مرشح لأن يشهد قريبًا أسوأ أزمة جوع في العالم”.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى