حرب الذهب في السودان

الأرباح، السلطة، والثمن الذي يدفعه المدنيون

 

 الصادر في 30 يونيو 2025 عن “سودان بيس تراكر”:

منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، تحوّل الذهب من مورد اقتصادي إلى محرّك أساسي للصراع، حيث تتقاتل القوى المسلحة للسيطرة على مناجم الذهب، التي أصبحت المصدر الرئيسي لتمويل الحرب وتأمين الولاءات.

رغم أن السودان ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا، إلا أن العائدات لا تدخل خزينة الدولة، بل تُنهب لصالح الفصائل المتحاربة، في ظل غياب الشفافية والرقابة.

تسيطر القوات المسلحة على الإنتاج والعائدات، بما في ذلك شركة أرياب الحكومية، وتستخدم عائداتها عبر شركات خارجية، وتقارير تؤكد أن الجيش صدّر 50 طنًا من الذهب عام 2024، محققًا أكثر من 4 مليارات دولار خارج القنوات الرسمية.

يخلص إلى أن  الذهب السوداني أصبح وقودًا للحرب بدلًا من أن يكون ركيزة للسلام والتنمية. ومن دون رقابة دولية ومساءلة للجهات المتورطة، سيستمر النهب ويتواصل النزيف الإنساني والبيئي.

حرب الذهب في السودان: الأرباح، السلطة، والثمن الذي يدفعه المدنيون‬

 

 سودان بيس تراكر (SPT)‬

منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 أبريل 2023، لم يعد الذهب مجرد مورد اقتصادي، بل أصبح محرّكًا محوريًا للصراع. ففي الوقت الذي يُهجّر فيه الملايين، ويُقتل الآلاف، ويهدد الجوع أرواح عدد لا يُحصى من المدنيين، تنخرط القوات الحكومية والميليشيات المسلحة في صراع عنيف من أجل السيطرة على مناجم الذهب، التي أصبحت الآن المصدر الرئيسي لتمويل العمليات العسكرية وتأمين الولاءات السياسية.‬

يُصنّف السودان كثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا، بعد جنوب إفريقيا وغانا فقط. ومع ذلك، لا تُسهم هذه الثروة في تعزيز خزائن الدولة أو تمويل مشاريع التنمية، بل يتم نهبها وتحويلها إلى جيوب الفصائل المتحاربة، في ظل انهيار مؤسسي وفساد ممنهج.‬

وعلى الرغم من النشاط الواسع في قطاع التعدين، لا تزال الأرقام الدقيقة للإنتاج غير متاحة. ووفقًا للمنقبين والمسؤولين الحكوميين، يُهرّب معظم الذهب المستخرج في السودان إلى خارج البلاد، بعيدًا عن الرقابة الرسمية والشفافية المالية.‬

الإنتاج والسيطرة العسكرية‬

منذ اندلاع الحرب في السودان، خرجت ثماني ولايات من دورة إنتاج الذهب، ولم يتبقَ سوى ست ولايات – وهي التي كانت نشطة قبل اندلاع النزاع – لا تزال تنتج الذهب. وتُعد ولايات نهر النيل، الشمالية، والبحر الأحمر من أبرز هذه الولايات.‬

تُعتبر مناطق مثل قبقبة في ولاية نهر النيل، ودلقو في الولاية الشمالية، والمناطق الجبلية والساحلية في البحر الأحمر، من أكثر مناطق السودان إنتاجًا للذهب. وتعتمد هذه المناطق اعتمادًا كبيرًا على التعدين التقليدي، الذي يمثل – بحسب التقارير الرسمية – أكثر من 80% من إجمالي إنتاج الذهب في البلاد. ويعمل عشرات الآلاف من المُنقّبين الصغار في هذا القطاع غير الرسمي إلى حد كبير. وعلى النقيض، تُنتج الشركات الحاصلة على امتيازات رسمية نحو 20% فقط من إجمالي الحجم.‬

وتنشط عدة شركات أجنبية في قطاع الذهب السوداني، إلا أن الشركات الروسية تبرز كأبرز اللاعبين المسيطرين.‬

ووفقًا لمصادر مطلعة في قطاع التعدين، تسيطر القوات المسلحة السودانية على غالبية إنتاج الذهب – سواء من خلال الاستخراج المباشر أو بشراء الذهب من المُنقّبين التقليديين – مستغلةً سلطتها على طباعة العملة لتمويل هذه العمليات دون رقابة تُذكر. كما تسيطر القوات المسلحة على عائدات الشركة السودانية للموارد المعدنية، وهي الجهة الحكومية الرسمية المسؤولة عن الترخيص والضرائب في أنشطة التعدين.‬

بالإضافة إلى ذلك، تعمل شركة أرياب للتعدين، أكبر شركة تعدين مملوكة للدولة في السودان، تحت إشراف عسكري. وأفادت مصادر رسمية في بورتسودان بأن عائدات الشركة تُحوّل إلى حسابات بنكية خارجية، ما يثير مخاوف جدية بشأن الشفافية المالية وتحويل الثروة العامة.‬

كيف يغذي الذهب الحرب؟‬

في فبراير، صرّح محمد طاهر عمر، مدير الشركة السودانية للموارد المعدنية – الذراع الرقابي لوزارة المعادن – في مؤتمر صحفي أن إنتاج السودان من الذهب لعام 2024 بلغ 64 طنًا، بعائدات قدرها 1.7 مليار دولار.‬

وقد قُوبلت تصريحاته بقلق واسع من قبل العاملين في قطاع الذهب، بسبب الفجوة الكبيرة بين حجم الإنتاج المُعلن والعائدات الفعلية التي استلمتها الدولة. وأضاف عمر أن 52% من ذهب البلاد يُهرّب إلى الخارج عبر قنوات غير رسمية.‬

إلا أن مصادر داخل وزارة المعادن، تحدثت لـ “سودان بيس تراكر” بشرط عدم الكشف عن هويتها، قدّرت الإنتاج الفعلي للذهب في عام 2024 بنحو 85 طنًا. وأفادت بأن 50 طنًا من هذا الإنتاج تم تصديره من قبل القوات المسلحة السودانية خارج الأطر الرسمية، بعائدات تجاوزت 4 مليارات دولار.‬

وذكر مصدر أمني في بورتسودان أن معظم هذه الأموال تُستخدم لشراء الطائرات المسيّرة والأسلحة والذخائر، بالإضافة إلى تمويل الولاءات السياسية، والعمليات الإعلامية، وجهود الضغط في الخارج.‬

وأكد المصدر أن الجيش يُصدّر ذهبه إلى مصر، حيث أنشأ شركة تُدعى “الأفريقية”، يشرف عليها مدير التصنيع الحربي، الفريق أول مرقني إدريس. وتُدار هذه الشركة – حسبما ورد – من قبل رجال أعمال سودانيين مرتبطين ارتباطًا وثيقًا بالمؤسسة العسكرية.‬

وفي السياق ذاته، صرّح وزير المالية جبريل إبراهيم في خطاب متلفز خلال شهر فبراير الماضي أن مسؤولين في دولة مجاورة – في إشارة إلى مصر – أخبروه أثناء زيارته لهم بأنهم حصلوا على 48 طنًا من الذهب السوداني في عام 2024.‬

وفي تطور ذي صلة، أعلن إيهاب واصف، رئيس شعبة الذهب والمعادن الثمينة باتحاد الصناعات المعدنية المصرية، في بيان صدر في 16 مايو أن صادرات مصر من الذهب والمجوهرات الذهبية بلغت 3.2 مليار دولار في الربع الأول من عام 2025 – وهو أعلى قيمة ربع سنوية في تاريخ البلاد.‬

ضحايا الذهب‬

يُعد الشعب السوداني أكبر الخاسرين من هذه الثروة، ليس فقط لأن هذه الثروات الطائلة تملأ جيوب الجنرالات بدلاً من أن تصل إلى خزائن الدولة حيث يمكن أن تُترجم إلى تنمية، وسبل عيش، ورعاية صحية، وتعليم؛ وليس فقط لأنها تموّل حربًا أجبرت أكثر من 10 ملايين سوداني على النزوح وطلب اللجوء، مع انتشار المجاعة في مناطق واسعة – بل أيضًا بسبب الكوارث البيئية والارتفاع الحاد في حالات السرطان في مناطق التعدين. ويعود ذلك إلى استخدام مواد كيميائية خطرة مثل الزئبق والسيانيد في التعدين التقليدي، ما أدى إلى تلوث التربة ومصادر المياه.‬

وقال أحد سكان ولاية نهر النيل إن تسعة من أفراد أسرته الممتدة، التي تضم 24 فردًا، قد أصيبوا بالسرطان بسبب العيش قرب مناطق التعدين التقليدي.‬

وبحسب مصدر من الهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية في السودان تحدّث إلى “سودان بيس تراكر”، فقد كانت هناك نحو 48 شركة متورطة في استيراد المواد الكيميائية، وخاصة السيانيد، إلا أن معظمها توقّف عن العمل. والآن، تملك شركة “معادن”، التابعة للجيش السوداني، شبه احتكار لاستيراد هذه المواد إلى البلاد.‬

وأضاف المصدر أن السيانيد كان يُستورد سابقًا من الصين والهند، مشيرًا إلى أن “قبل الحرب، استورد الجيش شحنة ضخمة من الصين”.‬

وقال صاحب شركة لتجارة الذهب في بورتسودان إن الزئبق يُهرّب من النيجر ومالي عبر الحدود الليبية: “بعد الحرب، بدأ في الدخول عبر مجموعات مسلحة من دارفور كانت متمركزة على الحدود الليبية، وتُمارس تهريب المواد الممنوعة والبشر”.‬

وأكد مصدر هيئة الأبحاث الجيولوجية أن الجيش يُعتبر الآن “المورّد الأساسي والوحيد لهذه المواد الكيميائية الخطرة”.‬

ذهب السودان: بين النهب والسلام‬

تحوّلت احتياطيات السودان من الذهب، التي كانت تُعدّ يومًا ما أملًا في الازدهار الوطني، إلى “لعنة” تؤجّج الصراع المستمر. فبينما تستمر تدفقات العائدات غير المشروعة من تجارة الذهب، تُوجّه موارد ضخمة نحو شراء الأسلحة وتجنيد المقاتلين، ما يُطيل أمد الحرب ويقوّض أي جهود لتحقيق السلام. ومن دون فرض رقابة دولية صارمة على تجارة الذهب في السودان، وفرض عقوبات على الشركات والجهات المتورطة في التهريب، ستستمر الحرب، وسيواصل المدنيون دفع الثمن.‬

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى