إصلاح الشرطة السودانية: نحو نموذج مدني منضبط في خدمة الدولة والمجتمع

لواء شرطة (م) د. عصام عباس

 

لطالما مثّلت مؤسسة الشرطة في السودان عنوانًا لتحديات معقدة ترتبط بهوية الدولة، وتوازنها بين سلطة القانون وحقوق المواطنين. فبينما تأسست الشرطة في أصلها على مفهوم الخدمة العامة، تحولت عبر الزمن إلى ذراع من أذرع النظم السلطوية، بفعل التسييس والعسكرة والخلط المتعمد بين النظامية والطابع العسكري. وقد حان الوقت للعودة إلى جوهر مؤسسة الشرطة باعتبارها جهازًا مدنيًا منضبطًا، لا عسكريًا مستبدًا، يستمد سلطته من القانون لا من القوة.

الشرطة: مؤسسة مدنية بطبيعتها القانونية والوظيفية

يخطئ كثيرون حين يفترضون أن النظامية والانضباط لا يتحققان إلا ضمن أطر عسكرية. فالحقيقة أن النظامية هي سلوك تنظيمي وقانوني يعبر عن الالتزام بقواعد المؤسسة وتوجيهاتها، وليس بالضرورة صفة حصرية للمؤسسة العسكرية. فالشرطة، في التجارب الحديثة، تُعد مؤسسة مدنية تنضوي تحت السلطة التنفيذية، ولها أنظمتها الانضباطية المستقلة التي لا تتعارض مع مبادئ المدنية والحقوق.

في هذا السياق، فإن مدنية الشرطة لا تعني الفوضى، ولا الانتقاص من هيبتها، بل تعني أن الشرطة تؤدي واجبها ضمن قواعد الخدمة العامة، ملتزمة بالدستور، وتخضع للرقابة المؤسسية والمجتمعية، وتحمي الحقوق والحريات لا أن تهددها.

من التاريخ إلى الأزمة: كيف انفصلت الشرطة السودانية عن وظيفتها المدنية؟

تأسست الشرطة السودانية في الحقبة الاستعمارية كجهاز عسكري قمعي وصدر أول قانون منظم لها في العام 1908، وفي العام 1928، شهدت نقلة قانونية كبرى حينما صدر ثاني قوانين الشرطة الذي نص صراحة علي مدنية مؤسسة الشرطة، لكن سرعان ما تأثرت بموجات التسييس التي صاحبت الانقلابات العسكرية المتكررة التي أعقبت استقلال السودان. حرصت الأنظمة العسكرية على تجريد الشرطة من ميزتها المدنية، وبرغم أن العسكر لا يعتبرونها مؤسسة عسكرية كاملة الدسم، إلا أنهم يديرونها بعقلية سلطوية ديكتاتورية. ففي عهد الإنقاذ تم تحويل الشرطة إلى جهاز أمني مفرط في التسليح والتسييس في آن واحد، وغدت الشرطة أداة قمع، وأقحمت برامج التدريب العسكري المتقدم ضمن مناهج الكليات والمراكز التعليمية، واستُبدل الانضباط المدني بالنهج العسكري القمعي، ففُقدت الثقة بين الشرطة والمجتمع، وانهارت معها صورة الشرطي كحامٍ للمواطن لا خصمًا له، وصار أقرب للترهيب وبث الرعب منه للأمان ونشر الطمأنينة.

بين النظام والانضباط: من أين يبدأ الإصلاح؟

إن الانضباط الوظيفي لا يرتبط بالبزة العسكرية، بل بالهيكل الإداري، وبنُظم التدريب، والمساءلة، والعقيدة المهنية وغيرها من مطلوبات الإصلاح التي سنتطرق لها لاحقًا. يمكن لأي جهاز مدني – كالشرطة – أن يكون أكثر انضباطًا وتنظيمًا من أي تشكيل عسكري، متى ما توفرت له رؤية مؤسسية واضحة، وهيكل مهني، ونظام مساءلة صارم. إن تحقيق الانضباط لا يستدعي عسكرة الشرطة، بل يتطلب:

  •       تطوير نظام إداري محكم قائم على أسس مهنية شفافة وقومية.
  •       تفعيل أنظمة الرقابة الحديثة والانضباط.
  •       تحديث التدريب ليركز على احترام حقوق الإنسان، والتعامل المجتمعي.
  •       استعادة إشراف وزارة الداخلية على الشرطة، كجهاز مدني تحت السلطة التنفيذية.

استراتيجية إصلاحية شاملة: بناء شرطة مدنية قوية

رؤية إصلاح الشرطة ينبغي أن تخاطب مكامن الخلل الوظيفي في أشكاله المختلفة  وبنهج متكامل، وفي تقديري يمكن أن يتحقق من خلال أربعة مسارات:

  1. الإصلاح القانوني: بتعديل قانون الشرطة الحالي لضمان استقلاليتها، وترسيخ مدنيتها والنص على ذلك صراحة، وتعزيز الإشراف المدني عليها.
  2. الإصلاح المؤسسي: بمعالجة قضية الترهل الإداري والهيكلي واعادة النظر في الكم الهائل من الرتب الرفيعة العليا بما يتوافق وحجم الشرطة الفعلي والمتوقع مستقبلًا، وفصل المهام الخدمية والجنائية عن القتالية والاستخباراتية، وإنشاء جهاز أمن داخلي مستقل.
  3. إصلاح العقيدة والتدريب: عبر تحديث المناهج، وإعادة صياغة العقيدة الشرطية بما يربطها بالقيم الدستورية وحقوق الإنسان، وتأهيل الكوادر بعيداً عن الولاء الحزبي.
  4. بيئة العمل والعدالة الوظيفية: بتحسين ظروف العمل، وإعادة الثقة للضباط وغير الضباط عبر شروط وظيفية مرضية، وتأمين صحي، وهيكلة عادلة للأجور.

الخاتمة: الشرطة المدنية هي خيار الدولة الديمقراطية

بناء شرطة مدنية منضبطة ليس مشروعًا إصلاحيًا فحسب، بل هو جوهر بناء الدولة السودانية الحديثة. إن العودة إلى جذر الشرطة كجهاز مدني محايد، يخضع للقانون ويخدم المجتمع، هو ما يمنحها شرعيتها، ويفتح الباب أمام المصالحة بين المؤسسة والمواطن، فمستقبل السودان الديمقراطي يبدأ من إصلاح مؤسساته السيادية، وفي مقدمتها الشرطة، بحيث تتحول من أداة للقمع إلى صمام أمان للمواطنة والحقوق.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى