العقوبات الأمريكية.. عودة الى عزلة النظام المصرفي
إعداد: محمد أحمد
يوم 27 يونيو 2025 لن يكون يومًا عاديًا في الأروقة المالية بالسودان. فقد نشرت وزارة الخارجية الأمريكية، في السجل الفيدرالي، قرارًا نادرًا وخطيرًا حيث اتهمت حكومة السودان باستخدام أسلحة كيميائية ضد المدنيين، وفرضت عليها سلسلة عقوبات قاسية بموجب قانون مكافحة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية لعام 1991. لكن ما بدا للبعض مجرد بيان قانوني أمريكي آخر، كان في جوهره صفعة ثقيلة لنظام مصرفي متهالك، يعيش منذ سنوات على شفير الانهيار.
ليست هذه المرة الأولى التي يواجه فيها السودان عقوبات أمريكية. بين عامي 1997 و2017، عاش الاقتصاد السوداني في عزلة خانقة، مُنع خلالها من التعامل مع النظام المصرفي العالمي، وخصوصًا بالدولار. توقفت التحويلات، وجفّت الاستثمارات، وباتت التجارة الخارجية معتمدة على وسطاء وتحويلات بالظل. لكن الفرق الجوهري بين الماضي والحاضر أن العزلة السابقة جاءت في ظل دولة موحّدة ونظام مصرفي مستقر نسبيًا، وإن كان سلطويًا. أما اليوم، فإن العقوبات تهبط على بلد منقسم ميدانيًا، ودولة متصدّعة، وبنوك لم تسدد رواتب موظفيها منذ أشهر، وتعجز عن فتح اعتماد مستندي لاستيراد دواء أو دقيق.
قرار الخارجية الأمريكية لم يكن تقنيًا فحسب. فقد منع تقديم أي قروض أو مساعدات مالية حكومية للسودان، وأوقف تصدير السلع والتقنيات ذات الحساسية الأمنية، بل وحتى قيّد بعض أنواع التراخيص التي كانت تستثنى سابقًا. ورغم بعض الإعفاءات المحدودة لأغراض إنسانية، إلا أن السوق تلقّت الإشارة: السودان بات خارج النظام المالي الدولي مجددًا. بالنسبة للبنوك السودانية، فإن هذا يعني مباشرة توقف أي تحويلات بالدولار أو عبر بنوك مراسلة، وتجميد الحسابات المشبوهة أو المرتبطة بكيانات حكومية، ورفض أي ترتيبات تمويل أو شراكات من الخارج.
بالنسبة لمنفذ التحايل المالي الذي استند إليه السودان خلال العقوبات السابقة، فقد لعبت دولة الإمارات، وخصوصًا دبي، دورًا حيويًا. عبر حسابات شركات وسيطة، أعيد تصدير السلع المحظورة، ونُفذت التحويلات المالية بعيدًا عن رقابة العقوبات الأمريكية والدولية. لكن الوضع تغير جذريًا بعد اندلاع الحرب في أبريل 2023، إذ اتهمت الحكومة السودانية الإمارات بدعم قوات الدعم السريع بالسلاح والمال، وتم قطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق القنصليات، وانتهت بذلك آمال السودان في استمرار هذا المنفذ الحيوي. وبذلك فقد السودان بوابته السابقة للتحايل على العقوبات، وأصبح مكشوفًا ماليًا بالكامل، دون حليف إقليمي يوفر له غطاء مصرفيًا.
الانعكاس المباشر للعقوبات سيكون على المغتربين الذين يعتمدون على التحويلات المصرفية لإعالة أسرهم في الداخل، حيث ستتحول غالبية هذه التحويلات إلى السوق الموازي الذي يفرض رسومًا أعلى ومخاطر كبيرة. ومن المتوقع أن يرتفع سعر الدولار في السوق السوداء، ما سيؤدي إلى موجة تضخم جديدة تضرب أسعار السلع الأساسية. أما التجار، فسيضطرون للعودة إلى أساليب التهريب والتمويه المالي، عبر وسطاء في دول مثل تركيا وإثيوبيا وكينيا، وهي بدائل أقل كفاءة وأكثر كلفة وعرضة للمخاطر.
القطاع المصرفي السوداني كان في حالة ضعف قبل فرض هذه العقوبات الجديدة. فقد دُمّرت فروع مصرفية، وأغلقت أخرى، وفُصلت مئات الكوادر، وفقدت البنوك ثقة المواطنين الذين باتوا يكتنزون العملات الأجنبية في منازلهم. والآن، مع تكرار العزلة، وحرمان النظام المصرفي من المراسلين الدوليين، تزداد احتمالات سقوط البنوك في موت سريري لا رجعة منه، إذ لن تتمكن من إجراء التحويلات أو فتح خطوط ائتمان أو إبرام شراكات دولية، حتى في التعاملات البسيطة كرسوم التعليم أو العلاج.
في ظل استمرار غياب حكومة مدنية معترف بها دوليًا، واستمرار الحرب والانقسام، يظل الأفق غامضًا، خاصة مع تصعيد الاتهامات الدولية للحكومة السودانية حول استخدام أسلحة كيميائية ضد المدنيين، ما قد يفتح المجال لعقوبات دولية أخرى وربما إجراءات في مجلس الأمن. وانكفاء المجتمع الدولي عن دعم السودان سياسيًا أو اقتصاديًا، وتدهور العلاقات مع جيران مهمين مثل الإمارات ومصر، يجعل البلاد تتجه نحو عزلة مزدوجة سياسية ومصرفية.
في الختام، ليست هذه العقوبات مجرد أدوات ضغط دبلوماسي، بل هي صاعقة جديدة في جسد اقتصاد منهك. تعيد السودان إلى مربع الحصار ولكن دون أدوات الالتفاف القديمة، وفي زمن أقل ثقة، وأشد بؤسًا. إن هذا هو اختبار حقيقي لمناعة الدولة السودانية، أو ما تبقى منها.