من دفاتر الشتات

 

حين يلفظ الوطن أبناءه

في ركنٍ قصي من هذا العالم، حيث لا تُفهم الكلمات ولا تُترجم النداءات، يقف اللاجئ السوداني موشومًا بدمه وحنينه، مطعونًا في كرامته، تائهًا بين حدود لا يعرفها، ومدن لا تفهم حزنه، وساحات انتظار لا تنتهي. هو لاجئ لا لأنه أراد الرحيل، بل لأن الوطن الذي كان من المفترض أن يحتضنه، انقلب عليه، لفظه كما يلفظ الجسد عضوًا لم يعد صالحًا للحياة.

هذه السلسلة ليست سردًا ناعمًا ولا محض تأريخ لتجربة مريرة. إنها شهقات مخنوقة من صدور شبان حاصرتهم الحرب، وأمهات اقتلعتهن القذائف من دفء البيوت، وأطفال تعلموا أسماء الطائرات قبل أن يتقنوا الحروف الأبجدية، نكتب عن الذين سقطوا في فجوة بين الحياة والموت، أولئك الذين أحرقت الحرب ملامحهم، لكنها لم تستطع أن تطفئ ضوء أرواحهم، نروي حكاياتهم، ونسلط الضوء على قصصهم ومعاناتهم.

ونفضح قسوة الحرب، تلك التي فُرضت على البسطاء في القرى والأحياء، ولم يعشها “البلابسة” المتخمون في فنادق العواصم، وشققها الفاخرة، الذين أشعلوا الحريق بأصابع ناعمة ثم جلسوا يتفرجون على الخراب من خلف زجاج سياراتهم الفارهة. لم يعرفوا ما معنى أن تحمل أم طفلها لأيام في معبر حدودي بلا ماء، ولا أن يموت شاب على قارعة الطريق لأنه لم يجد دواء مرض الضغط، ولا أن يضطر عجوز إلى نزع دبلة زواجه من أصبعه الذي احتوته لخمسين عامًا لا لشئ إلا  ليشتري بثمنها رغيفًا من بلدٍ لا يرحب به.

هذه شهادات ضد الذين اختاروا البندقية على الوطن، والسلطة على الحياة، والمجد الزائف على الرحمة. نكتبها لا لنواسي، بل لنفضح، لنحمل من أوقدوا هذه النار نتائجها، نحملها سياطٍ من جحيم، ونجلدهم بكل قصة نزفها القلم.

هنا، في دفاتر الشتات، لن تجدوا بطولات كرتونية ولا خطبًا مدبجة.. بل وجهًا آخر للحرب: وجهها القبيح، المبلل بدموع الغُرباء، المتروك في الممرات الرطبة وربطات أعناق موظفي الأمم المتحدة متبلدي الإحساس، وحراس الحدود القساة، نخرج الغضب المحشور في صدور اللاجئين كغصة لا تزول.

نكتب، ولأقلامنا غضب الناجين، وصوت المنفيين، ولسع الحقيقة التي لا تنام.

 

الحكاية الأولى:

أحمد.. حفنة تراب ومقبرة وطن

 قصة إنسان نجا من الحرب ولم ينجُ من وطنه

 

أديس أبابا – أفق جديد

 التقيناه مصادفة في أحد ممرات حي “هايوليت” أو 22 بلغة الأمهرة  في أديس أبابا، ذلك الحي الكبير الذي لا ينام، الذي يزدحم بكل ما لا يلزم.. وكل ما تبقى من فوضى القارة. كان المطر يتساقط خفيفًا، والسماء كأنها حبلى بالحزن، المدينة غارقة في الضباب والرطوبة، تحمل في صدرها ما يشبه أنينًا مكبوتًا.

في ركن معتم قرب بائع أحذية مستعملة، كان يجلس متكوّرًا على نفسه، بطانية رمادية تلف جسده الواهن، لم يكن مشهدًا لافتًا وسط زحام الحي، لكن في عينيه شيء شقَّ الهواء من حوله. لم يكن يشبه اللاجئين الذين تمتلئ بهم أرصفة المنطقة، كان صامتًا، مهزومًا بطريقة أنيقة، فيه وقار الموتى، وضجة العاهرات في الشارع المقابل.

يبدو في الخمسين، وجهه مشقق كالطين اليابس، وشعره اشتعل شيبًا مبكرًا، لكن حين سألناه عن عمره، قال إنه لم يبلغ الأربعين بعد. الحرب لا تأكل المدن فقط، بل تأكل الأعمار والملامح والأحلام – هكذا قلت في سري وأنا أعرف عمره .

 سألناه إن كان من السودان. لم يرد فورًا، نظر إلينا كمن ينظر إلى غربة داخل غربة، بعينين خائفتين، مرهقتين من الفرار، ثم همس، بعد أن زال عنه حذر البدايات:

أنا أحمد… والشنطة دي فيها آخر حاجة طلعت بيها من السودان: “حفنة تراب”.

بداية السقوط

كان كل ما يحلم به أحمد بسيطًا كما يقول: كهرباء لا تنقطع، بيت مستور، ومفتاح ومفك وامتلاك ورشة تصليح سيارات في الكلاكلة، حتى يجني حصاد سمعته الطيبة وحرفته التي حذقها وصدقه التي جلبت له محبة الناس.

“أنا زول ساي.. شغال في المفكات وبالمفكات، وقلبي نظيف”.

بعد هذه العبارة اكتست ملامحه بشيء غريب، شيء ما بين الضحكة والبكاء. اعتدل في جلسته واعتدلنا نحن، وأضاف:

“أنا زول ساي، لم يعرف المعتقلات، لم يتشاجر حتى في صف الرغيف، لكن في زمن الحرب لا تحتاج إلى سبب لتُعتقل.. فقط تحتاج أن تكون في المكان الخطأ، بوجه لا يطمئن له السلاح”. ويتابع: “هم لا يعلمون إنني حتى صباح ذلك اليوم كانت كلمة معتقل عندما ترن في أذني من أحدهم أظنها مرتبطة بالناس السيئين”.

في أحد الأيام، اقتحمت دورية من الدعم السريع منزله البسيط سأله أحدهم:

“إنت أبلاداي؟”.

لم يفهم كما يقول. ضحك ببراءة وقال: “يا أخوانا أنا زول بسيط، كهربجي سيارات”.

ضحكته لم تعجبهم. تحولت إلى صفعة. ثم اعتقال بلا ورقة، بلا تهمة، بلا شيء سوى أن الحرب كانت تبحث عن جسد آخر لتنهشه.

حيث تُسحق الإنسانية

وطبقًا لروايته أُخذ إلى معتقل الرياض أولًا، غرفة خرساء مكتومة، لا يدخلها ضوء ولا يخرج منها صوت.

يقول أحمد:

“أكتر شيء بوجع في الرياض.. إنك ما عارف الزمن. بتحس إنك معلّق بين يومين ما بيجوا”. ثم نُقل إلى الكتيبة الاستراتيجية، حيث لم يعد التعذيب هواية عشوائية، بل صار علمًا دقيقًا.

“الضرب هناك ما بالغضب.. بيكون منظم، كأنهم بيحسبوا عدد الجلدات، ويختبروا كم يوم بتتحمّل قبل ما تنهار”.

من هناك، إلى سجن سوبا، حيث تتحول الجدران إلى جلدك، والماء البارد إلى عقوبة، وقطعة الرغيف إلى معجزة.

“نوم على البلاط، ريحة مجاري، والمويه في الجوع زي الموت.. لكن بتشربها عشان تعيش، ولو شربتها كتير بتمرض ولو ما شربتها بتمرض”.

ستة أشهر بين الجدران قضاها أحمد لا تهمة، لا قاضٍ، لا سؤال غير

“إنت مع منو؟”.

وهو لا يملك جوابًا إلا الصمت

دليل إدانة

في سوبا، تعطلت عربة للضباط، أحد السجانين سأل من يعرف إصلاحها، فأشير له يبدو أن معتقليه الأوائل ذكروا ذلك أو أحد زملائه النزلاء وشى به.

“من هنا، بقت معتقلاتي ورش”

صاروا ينقلوني معصوب العينين من معتقل لآخر، لإصلاح عربات الجلادين.

كنت بشتغل.. وبعدها برجع زنزانتي بعد فترة سمح لي بالعودة إلى منزلي في الكلاكلة، وأعيد لي هاتفي مرفق بتحذير أن لا أغادر الكلاكلة، ومتى ما طُلب مني العودة أعود، ويا ليتهم لم يفعلوا.. هكذا يقول، ومن ثم يستمر في سرد حكايته – التي ليس لنا فيه سوى القليل من التحرير.

“أربعة شهور بشتغل ليهم، وأنا ذي الكلب المربوط، يا هو دا العذاب”، ويضيف: “من تبقى من الجيران في الكلاكلة صاروا يتحاشوني لأن اسمي ارتبط بالمليشيا، حتى من دون أن أنطق بكلمة”.

الهروب بشق الموت من الموت

“ممكن سيجارة” مسرعًا لبيت طلبه، لم أجرؤ أن اقطع عليه صمته ودخان السيجارة يختلط بشعر شاربه غير الحليق لكنه في آن ليس بالكث. يحدق بعيدًا كأنه يهرب من شيء ما، حكم الناس عليه دونما ترو أو تثبت، أو يسترجع في الصور التي مرت به ومر عليها. يفاجئني صوته: “فكرت كثيرًا في الهروب ولكن كيف وكل الفضاء دعامة.. كانت أيام كارثية، عرباتهم تجوب حتى أزقة الحي الضيقة، يعدون عليا أنفاسي وكأني شخص مهم.. حتى سنحت الفرصة، عندما أبلغوني صباح ذلك اليوم أن عربة معطلة تخص شخصية مهمة – حددها بالاسم – معطلة في أم درمان ويريدون نقلي إلى حيث توجد لإصلاحها، كدت أطير فرحًا، أم درمان ربما أجد فيها مخرجًا وقد كان”.

وفعلًا نقلوني إلى هناك، كان العطل طفيفًا ويمكن إصلاحه في زمن وجيز، لكني تباطأت في إصلاحه وبدأت أطلب قطع غيار لا أحتاجها ويصعب الحصول عليها في تلك الظروف، في اليوم الثاني بدأ الملل يدب في العساكر الذين كانوا معي، أخذوا يغيبون لفترات ثم يعودون فيجدوني منهمكًا في العمل، بدأت في اليوم الثالث فترات الغياب تطول، في اليوم الرابع إلى أن غابت الشمس ما جا زول.. حسّيت إنها فرصتي”.

موت موت حياة حياة ..

“هربت، زحف بين الأزقة، تحت القصف، من الموردة إلى الثورة.. كنت بجري وما بجري.. كنت بنط من ظل لظل. الرصاص فوق، وأنا تحت، الموت، الجثث حولي في كل مكان.. لا أدري كيف ومتى وصلت إلى الحارة الأولى، لم يكن من الحصافة أن أظهر لعساكر الجيش مباشرة، المنطقة من الشهداء إلى الحارة الأولى لا أستطيع أن أصفها، عقلي لم يخزن ما مررت به، من بيت لي بيت، ومن مصنع لي مصنع لقيت نفسي في الحارة الأولى خلف خطوط الجيش.”

خيانة جديدة

“وصلت إلى أحد دور الإيواء – والرواية لأحمد – مرهقًا وكأني عائد من يوم القيامة، ارتميت تحت ظل شجرة نمت ولم أشعر بمن هم حولي.”

في دار الإيواء، تفحصوا هاتفه، كان فيه أرقام لضباط دعم سريع.

” جاسوس”

جاءت استخبارات الجيش، اعتقلوه، وهناك، في معتقل كرري، بدأ الجحيم الحقيقي.

“كرري؟ ده ما كان سجن.. ده جحيم.. كنت بتمنى الموت.. ما عشان أرتاح، لكن عشان أتأكد إني خلصت من هذا الكابوس”.

“كهرباء، تعليق، ضرب على الرأس، إهانات عرقية، تهديد بالاغتصاب، وجلوس لساعات في أوضاع مهينة”.

“كل العذاب السابق كان أهون. في كرري، الجراح ما في الجلد فقط.. الجرح في الكرامة”

شق في جدار المستشفى

بعد أربعين يومًا في الجحيم أُرسل إلى مستشفى النو، جسده يئن من الألم، وهناك، تعرّف عليه أحد العساكر المكلفين بحراسة المستشفى من نفس قبيلته، سمع منه الحكاية، تأكد من صدق روايته عبر معارف مشتركين.

والحديث هنا لأحمد

قال لي “يا زول إنت لو رجعت المعتقل بتموت.. أنا بخارجك من هنا لكن إنت لازم تطلع من البلد لأنه لو مسكوك بكتلوك وبكتلوني معاك”.

تسلل أحمد من المستشفى تلك الليلة، جسده يرتجف، والمطر يغسل ما تبقى من كرامته المهدورة.

الزحف إلى الحياة

مشيًا، تسللاً، هروبًا. من قرية إلى أخرى، من شجرة إلى حائط، من خوف إلى رعب. 25 يومًا أمضاها في رحلة هروبه الأخير.

“كنت بقول للناس: أنا ما من دارفور.. عشان يصدقوني، مرات بتمثل الجنون.”

“كل صوت عربية كان رعب.. كل طيارة تمر، قلبي بيقف.. جعت، عطشت، حُرمت من النوم. طرقت أبوابًا أُغلقت في وجهي، ووجدت في أخرى شربة ماء، حتى وصلت القلابات، ومن هناك إلى الحدود”.

والهروب الثالث

يقول: “دخلت أحد معسكرات اللاجئين قرب قندر، لكن الحياة هناك لا تُطاق، العقارب بتقرص، والثعابين بتدخل الخيام، والناس هياكل.. أنا هربت من موت لألقى موت تاني”.

ويتابع سرد حكايته ويقول: “رحلة هروبي من المعسكر إلى أديس أبابا لم تكن صعبة، سمعت عن المعسكرات في أصوصا، فيها منظمات، وقليل من الطعام، وكثير من الوجع”.

ما تبقى من الوطن

قبل أن ينهض من الرصيف، سحب كيسًا صغيرًا من جوف شنطته وقال: “التراب ده من حتة قبل القلابات.. من آخر موطئ قدم في السودان.. قلت أدفن معاه، البلد ما خلّت لي شي.. لا أهل، لا أمان، لا بيت.. بس خليت ليها قلبي”.. لوح مودعًا وغاب عنا في شوارع هايوليت المزدحمة.

هو نحن جميعًا

أحمد لا يريد أن يكون ضحية، ولا بطلًا، فقط يريد أن يُسمع. نجا من الحرب، لكنه لم ينجُ من ذكراها، خرج من المعتقلات، لكن المعتقل لم يخرج من روحه، والآن، يجلس في أديس أبابا، لا يملك شيئًا سوى بطانية رمادية، كيس تراب، وندبات لا تشفى، لا أدري إن كان يستطيع الوصول إلى أصوصا مقصد هروبه الثالث، أم أن الأمن الإثيوبي سيعتقله ويسجن بتهمة تجاوز الحدود بطريقة غير شرعية.

أحمد هو أنت، أنا، نحن

فهل من يسمع صوته وسط ضجيج العالم؟ وهل من يرى أن حفنة التراب في حقيبته، هي كل ما تبقى من له من وطن أحبه وأراد أن يعيش فيه؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى