على حافة الافق
عقل الحرب (المجد للبندقية)-4
صلاح عمر
في مواصلة الحديث عن العقل السياسي السوداني نقف أمام العقل الأكثر خطورة في مسيرة السياسة السودانية: عقل الحرب. ليس لأنه يحمل السلاح فقط، بل لأنه يجسد تراكم كل إخفاقات العقول السابقة، ويعيد إنتاجها بصورة موضوعية، وأقل التزامًا بالدولة والمجتمع.
وعقل الحرب يعد امتدادًا طبيعيًا للعقلية الأمنية التي تأسست في مهد الإنقاذ واستمرت، وهي تختلف عن العقل الأمني الاحترافي المناط به أمن البلاد والعباد، فالإنقاذ أنشأت أساس عقل أمني سياسي على غرار عقل (السافاك) الإيراني، فقد نصبت على رأس جهاز الأمن كوادر سياسية أمنية ينتسبون للحركة الإسلامية مثال (نافع، قوش، محمد عطا، عبدالغفار الشريف، قطبي) والقائمة تطول، وجميعهم مدنيين لديهم درجات علمية رفيعة في تخصصات مختلفة، ولكنهم جميعًا تلقوا تدريبات أمنية داخل تنظيمهم السياسي.
ومنها شرعت الإنقاذ في بناء عقل سياسي يقوم على الأمن أولًا، لا السياسة لا المجتمع، لا التنمية، فكان استئناف حرب الجنوب بشراسة، وتواصلت في دارفور وجبال النوبة، وأصبحت وسيلة لبناء دولة فوق الحرب، لا فوق التوافق .
هذا العقل الذي تم بناؤه وفق إستراتيجية صاغتها أيديولوجيا الإسلام السياسي يعتبر المواطن تهديدًا، والمعارضة تمردًا، والتنوع خطرًا، والاحتجاج بداية لانقلاب، فكانت النتيجة أن تحول الجهاز الأمني إلى مركز العقل في القرار السياسي .
عقل يناصب المدنية العداء، وكذلك الناشطين في فضاء المجتمع المدني ومؤسساته، ويرى أن السيطرة بالسلاح هي السبيل الوحيد للبقاء في السلطة.
أمر آخر، لا يمكن الحديث عن عقل الحرب دون الإشارة للارتباط بينه وبين (الاقتصاد الطفيلي) أو بالأحرى طفيلية الثراء وتحييد أموال الدولة، عبر المؤسسات الاقتصادية الضخمة التي انشقت للمنظومة العسكرية بعيدًا عن مؤسسات الدولة الاقتصادية، وبعيدًا عن أعين مراقبتها ومراجعتها .
ومنها جاء عقل الحرب الذي يتغذى من شبكة مصالح طفيلية ليحول الحرب إلى سوق والدم إلى ربح. كلما زادت الدماء وأزهقت الأرواح ينتعش سوق تجارة السلاح وتهريب الذهب، ويسيل اللعاب لمواصلة الحرب لا إيقافها.
إذن نحن أمام أواصر قوية نسجت بين عقل الحرب و(المال الطفيلي) الذي تدره الحرب.
عقل الحرب ليس عقل فرد أو مجموعة بل عقل منظومة فكرية اقتصادية وعسكرية، وفوق ذلك ربطت ذاتها بمحاور وأحلاف إقليمية وعالمية حتى يتسنى لها الدعم المطلوب لمواصلة أعمالها الحربية .
ومن خلال الممارسة اتضحت ملامح وسمات هذا العقل بوضوح، ولنا أن نفصلها في الآتي:
عقل (استحواذي) لا تفاوضي:
لا يؤمن بالمشاركة، بل بالتمكين .
يرى في أي تنازل تهديدًا لوجوده لا تكتيكًا مرحليًا.
لذا تحول مشروع الاتفاق الإطاري إلى صراع وجودي لا تفاوض عقلاني .
عقل مركزي:
يتمركز في الخرطوم ويعتبر السيطرة عليها سيطرة على الدولة .
لا يعترف بأطراف السودان إلا كجبهات قتال أو موارد تعبئة، لا شركاء في السيادة .
عقل مزدوج الخطاب:
يستخدم خطاب الدولة عندما يحتاج الشرعية .
يستخدم منطق المليشيا عندما يحتاج القوة .
ينجح في خلق أعداء وهميين لتبرير بقائه .
يعيد استخدام أداة الاستعمار (فرق تسد)، عرق مقابل عرق، قبيلة مقابل قبيلة… إلخ.
هذه سماته التي تجلت من خلال الحرب الدائرة اليوم. ولا شك قابلة للإضافة .
كما أن تفكيك عقل الحرب هذا بالطبع لا يكون فقط بوقف عقل الحرب هذا، بالطبع لا يكون فقط بوقف إطلاق النار، بل بنزع جذوره من عمق الاقتصاد، الوعي الجمعي والمجتمع المدني. ما لم يهزم هذا العقل فإن السودان سيبقى يدور قي حلقة النار، كل أزمة تحل مؤقتًا، وتنفجر لاحقًا بصيغة أعنف.
الحرب ليست حالة طارئة، بل هي عقل راسخ والنجاة تبدأ في محاسبته لا في التعايش معه.
في المقال القادم سوف نتناول كيفية بناء عقل سياسي ناضج يمكن له أن يقود سودان جديد .