قراءة في التحولات الإقليمية والدولية تجاه السودان

هل يفقد البرهان حلفاء الداخل والخارج في آن؟ 

 

عثمان فضل الله 

في الوقت الذي تتسارع فيه التحولات الإقليمية والدولية، وتتشابك خيوط اللعبة الإقليمية، وتتقاطع المصالح وتختلف الأهداف بين الفاعلين الدوليين، يبدو أن الجنرال عبد الفتاح البرهان يواجه منعطفًا خطيرًا، قد يفقد فيه أهم ما يستند إليه: شبكة الحلفاء، داخليًا وخارجيًا. فبعد أن كان يُنظر إليه من قبل بعض العواصم بوصفه “الصمام الأخير لوحدة السودان”، تتصاعد اليوم أصوات وتحليلات تتهمه بالارتهان لأجندات عابرة للحدود، وتربط بين نظامه وبين قوى مثل إيران وتنظيم الإخوان المسلمين، في تحالف يراه البعض خطرًا داهمًا على أمن المنطقة بأسرها.

فالناظر إلى ما حملته الصحافة العالمية في تناولها للشأن السوداني، يجد ما يشبه الحملة الإعلامية قد انطلقت ضد الرجل. الصحافية الإسبانية ناتاليا كوادروس، وهي صحافية وازنة في الأوساط الإعلامية الأمريكية، كتبت مقالًا طالبت فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإجبار البرهان على التنحي، وحوى المقال نقدًا لاذعًا للبرهان، بل تخطى النقد البرهان ليطال المؤسسة العسكرية بكاملها. أما المقالة التي نشرتها “جيروزاليم بوست” للكاتب والمحلل السياسي الأمريكي ذائع الصيت نيجر إينيس، الذي يرأس مؤتمر المساواة العرقية في أمريكا، وهو أيضًا المؤسس المشارك لمنظمة أمريكا الجديدة؛ هذه المقالة تُعد سنام هذه الحملة، وتمثل صدى واضحًا لتحول في المزاج الغربي والإقليمي تجاه البرهان. فبينما كان يُقدَّم في السابق كجزء من معادلة الاستقرار ومكافحة الإرهاب، يُرسم اليوم في تلك المقالات كـ”واجهة لإعادة تدوير مشروع الإخوان المسلمين”، و”بوابة خلفية للتغلغل الإيراني في أفريقيا.”

هذه النبرة الجديدة لا تأتي من فراغ. منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، أُثيرت تساؤلات متكررة حول طبيعة التحالفات التي نسجها الجيش السوداني، وعلى رأسها العلاقة المعقدة مع بقايا الحركة الإسلامية، التي ظهرت جلية في طريقة إدارة حكومة بورتسودان، وفي حملة التعبئة العقائدية التي تقوم بها قيادات مؤدلجة داخل القوات المسلحة. ومع تزايد الأدلة – وبعضها مؤيد بتقارير استخباراتية وتسريبات إعلامية – عن زيارات سرية لمسؤولين إيرانيين، وإشارات إلى دعم عسكري مشبوه، بات القلق الغربي مبررًا.

في هذا السياق، تُطرح تساؤلات حقيقية:

هل تحوّل البرهان إلى حصان طروادة لإعادة بعث محور إيران – الإخوان في شرق أفريقيا؟

وهل تسكت إسرائيل والولايات المتحدة والسعودية على جبهة جديدة تهدد مصالحها في البحر الأحمر؟

على الضفة الأخرى من المعادلة، تبدو العلاقة مع القاهرة قد دخلت طورًا من الجمود. فمصر التي كانت في السنوات الماضية تدعم الجيش السوداني كخيار مفضل على حساب قوى التغيير المدني، باتت اليوم تتصرف ببرود واضح.

التسريبات عن امتعاض مصري من تعيينات عسكرية ذات طابع إسلامي داخل منظومة الجيش، والضيق من محاولات توظيف الورقة المصرية من قبل الإسلاميين في دعايات الحرب، تشير إلى أن القاهرة لم تعد ترى في البرهان الضامن الموثوق. بل هناك من يرى أن مصر باتت تتخوف من أن يتحول السودان إلى ساحة حرب بالوكالة – لا ضد الدعم السريع فحسب، بل ضدها هي أيضًا، في حال تحالف البرهان فعلًا مع طهران. فالمصريون الذين يعتبرون الأمن في السودان امتدادًا لأمنهم القومي، لا يمكنهم القبول بسيناريو تُسيطر فيه إيران على موطئ قدم في بورتسودان، أو أن تمر شحنات السلاح الإيراني عبر الشرق نحو عمق أفريقيا.

تناقضات الداخل:

أما داخليًا، فالمعادلة لا تقل تعقيدًا، فالتحالف الهش الذي يستند عليه النظام في بورتسودان، القائم على تحالفات مع حركات دارفور وبعض الإسلاميين، وقليل من المستنفرين الغاضبين بدأ يتآكل، في وقت تنامت فيه مظاهر السخط الشعبي في مناطق نفوذ الجيش، نتيجة تدهور الأوضاع الإنسانية، وغياب مشروع سياسي واضح لما بعد الحرب.

من جهة أخرى، بات “حلفاء اليوم” من الحركات المسلحة، يتذمرون من تهميشهم لصالح فلول النظام السابق، بل وصل الأمر إلى التلويح بتفكيك الشراكة والدخول في مواجهة عسكرية، يبدو أن الجيش بدأ يتحسب لها فعليًا من خلال تسمين مليشيات موازية ومنحها أدوارًا إعلامية ومجتمعية بصورة لافتة.

كل هذا يجري في ظل خطاب رسمي بات متضاربًا: فبينما يتحدث البرهان في المحافل الدولية عن “الانتقال المدني” و”الالتزام بالشرعية”، يُسمع في خطاباته الداخلية نبرة تعبئة دينية وحشد عقائدي ضد ما يسميه “مشروع التمكين الجديد”، في إشارة لقوى الثورة.

من كل ذلك لا يدخل في حيز المبالغة القول إن البرهان يقترب من مرحلة فقدان الغطاء الدولي والإقليمي – وهي مرحلة لم تنجُ منها أنظمة كثيرة قبله في تاريخ السودان والمنطقة. وفي غياب رؤية مدنية مقنعة، واستمرار التحالف مع فلول الإسلاميين، وتزايد الشكوك حول ارتباطات خارجية مثيرة للقلق، يبدو أن الرجل يراكم الخسائر أكثر من المكاسب. قد تكون الحرب هي ما أبقته حتى اللحظة، لكنها نفسها قد تصبح السبب في سقوطه، إذا ما تحولت إلى عبء على مصالح قوى كبرى لم تعد تجد في بقائه فائدة.

السؤال لم يعد “هل يفقد البرهان حلفاءه؟”، بل “من تبقى ليقف بجانبه؟”

في ضوء ما سبق من مؤشرات على تآكل الحاضنة الداخلية وتراجع الدعم الإقليمي والدولي، يمكن القول إن قائمة الحلفاء الذين لا يزالون إلى جانب عبد الفتاح البرهان تزداد ضيقًا، وهي تنحصر اليوم في أطرافٍ إما مضطرة ظرفيًا أو مرتبطة بمصالح قصيرة الأمد، لا بمشروع استراتيجي طويل النفس.

الإسلاميون

يظل أبرز من يقف إلى جانب البرهان داخليًا هو ما تبقى من منظومة الإسلاميين، سواء من داخل المؤتمر الوطني أو من الحلقات العسكرية المرتبطة بهم، وهذا الحليف في جوهره عبء أكثر من كونه سندًا، فهو يعزّز من عزلة النظام خارجيًا، خصوصًا مع ربطه بالإرهاب والتطرف، ويفاقم الصدع الداخلي ويؤجج النزعة الثأرية لدى قوى الثورة، ويضعف الثقة في أي انتقال محتمل.

ومعلوم أن الإسلاميين يدافعون عن البرهان ليس حبًا فيه، بل باعتباره الفرصة الوحيدة لإعادة تدوير نفوذهم. ولذا فإن دعمهم مشروط ببقائه في السلطة، وسيتبدد لحظة يشعرون بإمكانية الدفع بمرشح أكثر إخلاصًا لهم.

الحركات

تحالف البرهان مع بعض الفصائل المسلحة في دارفور (مثل حركتي مناوي وجبريل) لا يقوم على مشروع وطني، بل على موازنات نفوذ وامتيازات اقتصادية وسياسية، لكن سيطرة الإسلاميين على مفاصل الحكم، وشبقهم المتزايد للسلطة جعلهم يحاولون دق الأسافين بين البرهان، أو قل المؤسسة العسكرية والحركات، فبات هذا الحلف “المنفعي” يشهد تصدعات طفت إلى السطح في الأيام الماضية بإعلان الحركات تذمرها من التهميش داخل مؤسسات اتخاذ القرار، كذلك تصاعد الخطاب الإسلامي الذي يخالف المزاج العلماني لبعض الفصائل جعل منسوبيها في حرج واضح مع قواعدهم، أيضًا عملق الشعور عندهم بأن النظام يستخدمهم كغطاء سياسي فقط، وباتت هذه الحركات تتحسس موقع أقدامها وصار رهانها على الجيش يضعف يومًا بعد الآخر.

لذا يمكن القول إن تحالفات البرهان الداخلية لن يبقى معه منها إلا بعض منسوبي النظام البائد، والقليل من رجال الأعمال المستفيدين من استمرار الحرب، والقليل من مليشيات المستنفرين الغاضبين، والكثير من العنصريين أصحاب المشروع الانفصالي التقسيمي.

 خارجيًا يمكن القول إن بعض الأنظمة المجاورة التي تخشى من فوضى الحرب، مثل إرتريا، لا تزال تتعامل مع البرهان كأمر واقع. لكن هذا التعامل لا يرقى إلى مستوى “الدعم الحاسم”، بل هو أقرب إلى التنسيق الأمني المشروط، وقد يتغير في أي لحظة. خسر البرهان في وقت مبكر دولة الإمارات العربية المتحدة كحليف “سخي”، فرغم أن بعض التحليلات كانت تتوقع دعمًا إماراتيًا للبرهان، فقد حدث العكس واختارت أبو ظبي الاصطفاف بوضوح خلف قوات الدعم السريع، وإن لم تعلن ذلك رسميًا. غياب الإمارات من قائمة الحلفاء التقليديين للجيش السوداني يُعد ضربة مؤلمة للبرهان، خصوصًا في ظل تأثيرها المالي والدبلوماسي. الدعم المصري كما أسلفنا لم يعد كما كان ولكن الواضح أيضًا أنه لن ينقطع، لكنه لن يتطور إلى تدخل مباشر، بل سيبقى في شكل تسهيلات لوجستية، تدريب، تطبيب  وربما دعم استخباراتي، ما لم تتعرض مناطق الشمال السوداني لمخاطر حقيقية أو ينهار الجيش تمامًا. السعودية لن تقطع علاقتها مع البرهان، لكنها لن تمنحه شيكًا على بياض، إذا استمرت الحرب وازداد التدهور الاقتصادي والإنساني، قد تدعم حلًا توافقيًا يُقصي البرهان جزئيًا، أو يضعف من سلطته، خصوصًا إذا ضمنت عدم سيطرة الدعم السريع على البلاد، أو تنفذه فيها، فالسعودية بالأساس لا تثق في الإسلاميين السودانين، كما أن تحالف البرهان مع طهران التي تخوض حربًا في اليمن عبر الحوثيين ضدها يجعل الرياض تتبنى سياسة “موازنة اللاعبين” في السودان، فهي أبقت على خطوط التواصل مع الجيش والدعم السريع مفتوحة في وقت واحد.

إذًا الدعم المصري والسعودي وكذلك الإرتري للبرهان لن يمضي بذات الوتائر التي كانت في السابق، وتوجد احتمالات لانقطاعه في ظل إصرار البرهان على الاستمرار في تحالفاته التي تتناقض والمصالح الاستراتيجية لتلك الدول، فخارجيًا لن يتبقى للبرهان داعمٌ ثابتٌ سوى قطر وتركيا، فالدولتان ستظلان داعمتين للبرهان طالما يمثل الجيش واجهة لمن تعتبرهما حلفاء – الإسلاميين، لكنهما لن تقاتلا من أجله، ولن تضعا ثقلهما السياسي أو المالي في حرب لا تريان فيها مصلحة مباشرة.

إذًا من تبقى إلى جانب البرهان اليوم ليسوا حلفاء حقيقيين، بل شركاء ظرفيين، بعضهم يتهيأ للقفز من المركب عند أول فرصة. لا مصر، ولا السعودية، ولا حتى قطر وتركيا ولا الغرب، ولا الشارع السوداني، ولا حتى جزء معتبر من الجيش نفسه يبدو مستعدًا للذهاب معه إلى ما بعد هذه الحرب. ما تبقى له هو “تحالف عزلة”:

فلول نظام سابق ملاحق شعبيًا ودوليًا.

حركات انتهازية فقدت جمهورها.

دعم من أطراف تُراهن على بقائه لتأخير سقوطها.

وهذا النوع من التحالفات لا يصمد طويلًا في وجه المتغيرات. والوقت – كما يبدو – ليس في صالح البرهان.

الحلول

هل أمام البرهان فرص معلومة في السياسة، كما في السير على الحبال؟ يمكن للبراعة أن تؤجل السقوط، لكنها لا تمنعه إلى الأبد. والجنرال عبد الفتاح البرهان، الذي ظل لسنوات يناور بين العواصم المتضادة، ويسترضي الخصوم دون أن يقطع مع أيٍ منهم، يجد نفسه اليوم في زاوية ضيقة، يحيط بها الحلفاء المنكفئون، والخصوم المتربصون، والجمهور الغاضب. في السابق، كان يمكن للبرهان أن يقدّم تنازلات شكلية ويضمن بقاءه شريكًا في السلطة عبر “تسوية سياسية” تُنهي الحرب في أيامها الأولى، وتحافظ على مقدرات البلاد وممتلكات الشعب، أما اليوم، فإن معظم القوى المدنية، بل حتى بعض الدول الراعية للعملية السياسية، لم تعد ترى فيه طرفًا مؤهلًا لأي حل دائم.

ثمة من يعتقد أن مخرج البرهان الوحيد قد يكون في “قلب الطاولة”: أي إعلان فك الارتباط مع الفلول، وإطلاق حملة تطهير حقيقية داخل الجيش ومؤسسات الدولة، وربما حتى القبول بانتقال مدني كامل مقابل ضمانات بعدم الملاحقة، لكنّ هذا السيناريو محفوف بالعوائق، وأولها هل يملك البرهان فعليًا السيطرة الكاملة على مفاصل الجيش؟ وهل يمكنه النجاة من رد فعل الإسلاميين الذين حموه في أحلك لحظاته؟ وهل يمكن للشارع أن يصدقه بعد كل ما حدث؟

الخيار الوحيد الذي لا يزال البرهان يراهن عليه هو استمرار هذه الحرب، ويمكن أن تقول حالة اللا حرب واللا سلم، لكن حتى هذه الورقة تحولت إلى فخ قاتل، فالحرب تجاوزت عامها الثاني دون تقدم حاسم، حتى داخل معسكره، تشهد أكثر المناطق اضطرابًا ونزوحًا وتمردًا ناعمًا، وفقدان سلطة الدولة لعامل السيطرة عليها، أيضًا الدعم اللوجستي والعسكري بدأ يتراجع، مع انخفاض شهية الحلفاء الخارجيين لتمويل حرب طويلة الأمد.

خلاصة القول

البرهان لا يزال يملك بعض الأدوات – لا لأنه قوي، بل لأن خصومه لم يتوحدوا بعد لكن الزمن ضده والتحالفات التي شيدها بدأت تتآكل من الداخل، والهامش يضيق في وجهه إذا لم يبادر بنفسه إلى تفكيك المعادلة التي صنعها، وإذا لم يتخلَّ عن حلم البقاء بأي ثمن، فإن المشهد يمضي نحو خاتمة مرجّحة سقوط بلا تفاوض، وعزلة بلا مخرج، ونهاية تشبه كل نهايات من ظنوا أن اللعب على رؤوس الأفاعي يمكن أن يدوم.

Exit mobile version