كراسات الفيلابي
السر السيد
توطئة:
تنهض كتابات الفيلابي جميعها على بنية إبداعية ما مستهدفة ما يمكن أن يقع في التنمية المجتمعية بمفهومها الشامل، فهو يتوسل بالشعر والسرد والمسرح والدراما والغناء، لينتج حزمة من الأفكار والمفاهيم والأخيلة، تصب في ما يمكن وصفه بالدفاع عن الحياة، لذلك فهي كتابات متآزرة تبحر في بحر التنوير والمقاومة متلاطم الأمواج .
في كتابته التي بين يديك عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة الموسومة بـ(دربات يقين.. استشعار الحاجة لأن تكون مجددًا)، المكونة من ثلاثة كراسات بالترتيب هي:
الكراسة الاولى بعنوان: (المحك)، والكراسة الثانية بعنوان: (الما عندو محبة.. ما عندو الحبة)، والكراسة الثالثة بعنوان: (معقولة بس).
عتبة أولى:
أشير بداية أن الكراسة الأولى (المحك)، تتكون من ١٣ قصيدة، والكراسة الثانية تتكون من قصيدة طويلة هيكلها المعماري يقوم على تقنية الترقيم، والكراسة الثالثة تتكون من ٨ قصائد.
قصائد الكراسات الثلاثة كتب بعضها قبل الحرب، وبعضها كتب أثناء الحرب، وجميعها تراوح بين الشعر وبين ما يقترب من (النظم)، أحيانًا، وجميعها تخاطب، المواطن، مقيمًا كان أو مغتربًا أو نازحًا أو لاجئًا، تخاطبه بوصفه إنسانًا مسؤولًا وقادرًا علي ابتداع المقاومة، وتحسين حياته برغم القهر والحرب والدمار، لذلك يمكن القول إن الكراسات الثلاثة جاءت معبرة عن الدعوة للمساواة بين الجنسين، وعن التنوع وعن الموروثات الثقافية، وعن الدعوة للحفاظ على البيئة، وعن أهمية التعليم، وعن الهوية الخاصة والهوية العامة، وعن أهمية النقد وإعادة بناء الذات.. جاءت معبرة عن الصوت المقاوم، باختصار معبرة عن التغيير الناهض على المعنى والمحبة والجمال.
عتبة ثانية
في المراوحة في ما أسميته (الشعر وما هو أقرب إلى النظم)، يحضرني قول شاعرنا الكبير محمد طه القدال في مقدمته لمجموعة الفيلابي الشعرية، “هي دي الحياة”.. يحضرني قوله: (وأرى أن الشعر في هذه الكراسة قسمان، غناء تتبدّى فيه شاعرية الشاعر وشعرية الشعر. وغناء آخر يوظف فيه الشاعر شاعريته لخدمة القيم التي يتبنّاها ويدعو لها)، وأجدني لا أبعد كثيرًا عما ذهب إليه القدال، ففي الكراسات الثلاثة نقف على قصائد تنهض على شعرية الشعر، وأخرى تراوح بين الشعر والنظم، ولعل هذا مرده إلى أن الفيلابي ينطلق من فرضية: (إن الفنون، ومنها الشعر والنظم بالطبع، هي الأقدر على إدماج المواطنين في قضايا التغيير والمقاومة والتنمية المستدامة)، وهي فرضية يقول بها أهم علماء التنمية في عصرنا كأمارتيا صن، بل وحتى البنك الدولي بات يعوّل على هذه الفرضية، أما ما يثبت زعمنا بشأن الفيلابي فنظرة سريعة إلى كل ما كتب من غناء ومسرح وسرد ودراما، سنجدها كلها مكرسة لموضوعات تحرير الفرد وتحسين حياته واستعادة إنسانيته، وقد صدق شاعرنا الكبير محجوب شريف عندما قال في مقدمته لكتاب الفيلابي “ديل نحن.. إبداعات الأطفال في خدمة قضايا البيئة والمجتمع”، فقد قال:
(هذه التجربة – في المقام الأول استخدام حرفي قائم على التصدي لقضايا ومفاهيم وأمراض وأعراض مباشرة…إلخ).
عتبة ثالثة:
وصلًا لما سبق سأورد بعض عناوين قصائد الكراسات الثلاثة، ففي الكراسة الأولى نجد عناوين (المحك، بكرة جايينا الصباح، تباين، وطن، اعتراف، التنوع قيمة)، وفي الكراسة الثانية، وهي قصيدة طويلة جاءت على طريقة الترقيم من الرقم “١” إلى الرقم “٢٥”، ومع ذلك من الكلمات المفتاحية لكل رقم نجد كلمات (فلنتأمل، حياة، توازن، روحك، عتمة، الما عندو محبة.. ما عندو الحبة)، وفي الكراسة الثالثة نجد عناوين (معقولة بس، التعاوني، ضد الفساد، خيط رفيع، في الكُوشة ثروة).
ها أنتم ترون أن كل هذه العناوين وغيرها مما حفلت به الكراسات الثلاثة، إنما تشير إلى نشدان أصيل للحياة الحرة والأنسنة والتساؤل الخلاق اجتماعيًا ووجوديًا.
عتبة رابعة:
ما تجب الإشارة إليه هنا هو أن هذه الكراسات الثلاثة تخلقت في فضاءات ثلاثة، هي فترة حكم الإنقاذ بما فيه من قهر وفساد ومقاومة، وفترة ثورة ديسمبر بما فيها من بسالة وأحلام عريضة وخذلان، وفترة حرب الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣ بما فيها من قتل ودمار وتخريب واغتصاب ونزوح ولجوء، وبما فيها من مقاومة شعبية مرتكزها الأساس ثقافات السودانيين في التضامن والتكافل والتعاون والبِر… هذه الحرب التي لا تزال مستمرة وببشاعة أكبر.
سأستأنس في هذا الجزء من هذه القراءة العامة بنماذج من قصائد الكراسات الثلاثة.
جاء في الكراسة الأولى وفي قصيدة (الأمر ما عاد مستتر):
أجساد نساء
ساحة حرب
أمن المواطن ينسلب
صبر المواطن ينضرب
والحدود قد تنمحي.
وجاء في قصيدة (اعتراف):
يبقي يلزمنا اعتذار
والاعتذار
ما ببقي شهقة ودمعتين
بل عمل.
وجاء في الكراسة الثانية، تحت الرقم “٨”:
كون إيحابي
في تفكيرك
في تدبيرك
في تقديرك
في تغييرك نمط الشوف السالب فيك
خليك جاهز لي يوم بكرة
زيك زي الغيرك قد تتعثر
وقد تتعسر
وقد تتأثر
أي إنسان ممكن يتعثر
أنسي العثرة
خلي (العترة عدلة دربك)
قوم من تاني.. وبي إصرار
ما حا تفشل
لو فكرت مجرد فكرة
إنك قادر وانك ماشي
بي تدبير الخالق
سيد القدرة
خليك راضي
وزيدو محبة
والما عندو محبة
ما عندو الحبة.
وجاء في الكراسة الثالثة وفي قصيدة (خيط رفيع):
…………………………..
والحقوق ياها الحقوق
في كل مكان
في كل زمان
محروسة في سياج الوعي
وبي شرايع
موضوعة بي حس من وعي
شي مهم
والاحتياجات الأساسية حق
زي الأمان والمعرفة
وحق سماع الصوت
قبل يتلاشى في الزحمة
ويضيع
عندك كمان
حق اختيار السلعة
والخدمة التناسب حوجتك
وما تزيد عن قدرتك.
ختامًا أقول:
هذه كتابات تطمح في أن يكون الإبداع متورطًا في أسئلتنا اليومية، تراوده ويراودها، إثراء للوجود وتحسينا للحياة الإنسانية، وقبلًا قال فولتير: (إن الحياة تشبه حطام سفينة، لكن ينبغي علينا ألاّ ننسي أبدًا أن نغني في أثناء ركوبنا قوارب النجاة).