سارة الجاك: ما يحدث في السودان مخطط مُحكم لتفكيك الذاكرة والهوية

أقول لـ”البلابسة” و”الجغامسة”.. أنا لست قوية كما تعتقدون لكنني لست ميتة كما تريدون لي أن أكون
الكلمة ليست زينة، بل سلطة

 

———
في أيامنا المظلمة هذه، لم نعد نبحث عن الجمال في الأدب، بل عن النجاة. عن جملة تُمسك بأطرافنا ونحن ننزلق إلى قاع العدم، عن صوت يشبهنا ولا يخجل من البكاء، عن كاتبة لا تضع مسافة بينها وجرحنا النازف، بل تسكنه وتكتب منه في قلب هذا البحث.. التقينا الكاتبة والروائية والناشطة النسوية سارة حمزة الجاك
في حوار ليس نصًا يُقرأ على عجل بين مشاغل الحياة، بل ممرٌ طويل نحو الذات، نحو الذاكرة، نحو كل ما كسرته الحرب ولم تقدر أن تمحوه.
سارة لا تجيب ككاتبة متمرّسة، بل كإنسانة تنقّبت في الألم، ومشت في لحم الأسئلة، وخرجت – ولو زاحفة – بجملة صادقة لا تخون.
كانت تبكي وهي تتكلم
ولم يكن بكاؤها زينة للعاطفة أو ضعفًا أدبيًا، بل كان اللغة حين تستعيد فطرتها: شهقة، وارتباك، وحنين، واعتراف.
كل إجابة قالتها كانت محمولة على نبضٍ لا يُرى، لكن يُسمع، على رجفة في اليد، وحشرجة في الحلق وعلى يقين بأن الكلمة – إذا ما كانت حقيقية – يمكنها أن تضيء ظلمة العالم بكامله، ولو للحظة.
في حديثها عن الحرب، لا تكتفي سارة بوصف الخراب، بل تفككه من الداخل، تحلّل لغته، تكشف أدواته، وتُعيد بناء المعنى على أطلال المنفى.
وفي حديثها عن الكتابة، نسمع صدى امرأة لا تؤمن بالحرف كزخرفة، بل كفعل مقاومة، كأداة تطهير، كمبضع يعبر الجرح ثم يقبّله معتذرًا.
حين تتحدث عن الجسد، فإنها لا تُجمّله ولا تبرّره، بل تمنحه حقه الكامل في الحكاية.
في زمن تُختزل فيه النساء في أرقام أو شعارات، تكتب سارة أجسادهن كما تُكتب البلاد: بحنان، وبألم، وبلغة خالية من الخداع.
وحين تتحدث عن المنفى، لا تبكي فقط على الوطن المفقود، بل تكتب من المنفى كأنها تُؤسس وطنًا بديلًا من الكلمات. وطنًا مؤقتًا، لكنه دافئ. تمنحنا في كل إجابة قطعة من ظلّ شجرة، رائحة حبوبتها، نداء شارع قديم، رعشة قهوة لم تُشرب، ودفء لحظة لم تُكتمل.
هذا الحوار ليس كشفًا عن سيرة كاتبة، بل سيرة بلد ينكسر، وتحاول أن تلملم فتاته عبر الحبر. ليس اعترافًا أدبيًا، بل طقس استشفاء جماعي، وصلاة مكتوبة بلغة امرأة لا تُجيد الزيف، ولا تهادن الخراب، ولا تساوم على الحقيقة.
من “النداء” إلى “معزوفة مريم”، من الجسد المنتهك إلى الكتابة المطهّرة، من الخراب الكبير إلى اليقين الصغير بأن الكلمة قد تمنع انهيار روح، أو تأخر سقوط ذاكرة، أو تمنحنا لحظة نصدق فيها أننا ما زلنا بشرًا.
في هذا الحوار، قالت سارة الجاك ما لا يُقال. أعادت للغة طهارتها، وللجملة جسدها، وللحزن جدواه.. اقرأوا هذا النص كما لو أنكم تقرأون قلبًا يُفرغ نفسه على الورق. اقرأوه كما لو أنكم تودّون أن تعتذروا لوطن لم تحموه، ولحكايات لم تكتبوها حين كان وقتها. اقرأوه كأن ما تبقّى من المعنى يتدلّى من حرف، أو من دمعة، أو من امرأة قررت أن تكتب لا لأنها أقوى، بل لأنها لم تمت بعد.

أفق جديد
في البدء كانت الكلمة… ما هي؟
تقول سيرتك إنكِ “وُلدتِ في بيت تُقدّس فيه الكلمة”.. في زمن الحرب، حين تتهاوى البيوت، هل تظل الكلمة قادرة على منح الأمان؟ أم أن اللغة أيضًا تصبح منفى؟
الإجابات تتعدّد، لكنها تجتمع في كونها لحظة الخلق الأولى. في المسيحية، الكلمة هي اللوغوس، العقل الإلهي الذي تجسّد في المسيح. في الإسلام، الكلمة الأولى هي “كُن”: الأمر الإلهي الذي يحيي الوجود.
أما في الرؤية الصوفية، فالكلمة الأولى هي الحب، كما في الحديث القدسي: “كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أُعرف.” وبالنسبة لي، الكلمة التي كانت في البدء… هي النداء.
نداء داخلي لا يُقال لكنه يُسمع بالروح. لم تبدأ تجربتي مع “قالت”، بل مع “أحسّت”.
تكوّنت الكلمة من شعور، صار صوتًا، ثم جملة، ثم كتابة تسعى لتوقظ الإنسان بلطف، وتذكره بأنه كان دائمًا محبوبًا وحيًّا.
الكلمة في أصلها ليست حبرًا، بل نورًا، وحنينًا، ودعوة للرجوع إلى الذات. الكلمة ليست زينة، بل سلطة.
في الحياة اليومية، تُبنى بها ثقة طفل، وكرامة امرأة، وطمأنينة جسد مُنهك. وحين تُستخدم للحدب، تصنع الأمان؛ وحين تُلوَّث بالخوف، تُنتج العنف.
في السياسة، اللغة هي المقدمة الخفية لكل قرار، وهي الوسيلة الأولى لإضفاء الشرعية على العدل أو الظلم.
كل حرب تبدأ بإعادة تعريف الإنسان بالكلمات: مرة يُسمّى مواطنًا، ومرة يُجرَّد من اسمه ليُستباح.
لهذا، لا يُبنى السلام بالاتفاقات وحدها، بل بالكلمة التي تُعيد للناس شعورهم بأنهم مرئيون، مسموعون، محسوبون.
إن أردنا أمنًا حقيقيًا، لا بد أن نطهّر اللسان من التواطؤ، وأن نعيد للغة وظيفتها الأولى: الحفظ، لا التبرير.
فمن يُصلح الكلمة، يُصلح العالم. وقتها تمنح الأمان.
بالنسبة لي، الحرب والظلم وكل الأفعال التي على شاكلتهما ليست فقط ممارسات عنف خارجي، بل هي خلل مقصود في وظيفة اللسان، وانزياح متعمّد للغة عن مسارها الأصلي.
حين تُختطَف اللغة لتبرير القتل، لا تنقل الحقيقة، بل تُزيّفها. تتحوّل الكلمات من أدوات تواصل إلى أدوات تواطؤ، من رسائل حياة إلى غطاء للموت. وهنا، تُصبح اللغة منفى – فضاءً مُعاد تشكيله لخدمة القهر، لا لكشف المعنى.
أما اللسان – بوصفه عضوا حيًّا، نابضًا، متصلًا بالفطرة والصدق – فهو الملاذ.
في هذا السياق، أرى أن كل حرب تبدأ بلحظة خيانة في التعبير: حين لا نقول ما نعرف، أو نُجمّل ما لا يُجمَّل، أو نُلبس الباطل ثوب البلاغة.
وهكذا، يصبح أول ضحايا الحرب الصدق، وأول أدواتها اللغة التي أُزيحت عن أصلها.
في كتاباتك ما يشبه الطقس الطهوري.. مزيج من الشعر والحفر النفسي العميق.. هل ترين الكتابة اليوم ضرورة علاجية لكاتبتها وقارئها، لا مجرد فعل جمالي؟
. الكتابة بالنسبة لي لم تكن ترفًا جماليًا، بل أداة كشْف داخلي عميق. بدأت كطريقة لأفهم كثافة الأسئلة التي تمور في ذهني، كأنني أرسمها رموزًا وصورًا قبل أن تتشكّل في لغة.
كانت الكلمات تخرج أولًا لتُضيء ما هو معتم داخلي، ثم ما لبثت أن تمددت، لتُقارب القضايا الكبرى والأسئلة المصيرية، لا بوصفها أفكارًا مُجرّدة، بل كأثر حيّ في الجسد والروح.
وهكذا تحوّلت الكتابة إلى مبضع نطّاس ماهر ينقر على الجرح، لا ليؤذي، بل ليُزيل الورم، يُطهّره، يُعيد حياكته، ثم يُقبّل أثر المبضع كأنه يعتذر قبل أن يمضي.
في هذا المعنى، الكتابة عندي ليست مجرد ممارسة فنية، بل طقس علاجي للكاتبة والقارئ معًا، وساحة صدق نادرة وسط ضجيج الزيف.
وفي زمن الحرب، يصبح هذا الطقس أكثر إلحاحًا، لأن الحرب لا تُدمّر المدن فقط، بل تقتحم الجسد. الجسد نفسه يُستباح، يُجرَّف من معناه، يُستخدم كساحة للمعركة دون إذن.
في روايتي، لم يكن الجسد غائبًا أو مؤنثًا فقط، بل كان لغة مستقلة، تحتفظ بكل ما لا يُقال: رعشة، صمت، انقباض، توتر، كلّها إشارات لا تُكتب بالحبر بل تُنقش بالألم. وحين تكتب المرأة من داخل هذا الجسد، فهي لا تُوثّق فقط، بل تُعيد امتلاك المساحة. تحوّل الألم إلى وعي، وتستعيد السيطرة على ما حاولت الحرب نزعه منها: حقها في أن تحكي، وأن تُرى لا كضحية، بل ككائن حيّ يُقاوم، حتى ولو بالهمس.


الكتابة حينما تُعاش، لا تُكتب فقط.
هي لا تأتي من المفردات، بل من أثر العيش، من التماس الجرح، من مشي الكاتبة داخل لحم الأسئلة ودم المعنى.
حين تُعاش الكتابة، لا تعود مجرد حرفة، بل تصير مقامًا داخليًا تُقام فيه طقوس البوح، والتعرية، والتطهير.
تصبح النفس نفسها ورقةً بيضاء، يُكتَب عليها بالشك، بالشغف، بالخسارة، بالحب، بالحرب.
الكاتبة حين تكتب من مكان معيش، لا تبحث عن اللغة، بل تستدعيها من عصبها الداخلي. كل كلمة تُولد من إحساس، كل جملة تُقطّع من جلد الحقيقة، وكل نصّ هو محاولة لترميم ما لا يُرمم. في هذا المقام، لا تعود الكتابة مجازًا عن الحياة، بل هي الحياة نفسها وقد نُطقت.
الحرب.. حين يصير الجسد ساحة للمعركة
. ما يحدث في السودان اليوم يفوق الخيال: اغتصاب جماعي، استخدام النساء كدروع بشرية، قمع نفسي وجسدي.. كيف ترين مسؤولية الأدب إزاء هذه الانتهاكات؟ هل يستطيع السرد أن يدوّن ما لا يُقال؟
ما يحدث في السودان اليوم ليس فوضى عشوائية، بل مخطط محكم لتفكيك الذاكرة والهوية والبنية الأخلاقية للأمة.
الاغتصاب الجماعي، استخدام النساء كدروع بشرية، القمع الجسدي والنفسي، ليست انتهاكات معزولة، بل جزء من نهج مُرسوم بدقة، يشبه في وضوحه عمليات بيع الآثار عبر الإنترنت، وحرق بنك البذور والتقاوى وقبلهم فض الاعتصام وقتل الشباب بالكحول والمخدرات – كلها حلقات في مشروع محوٍ طويل المدى، يُنفّذ بعناية.
في هذا السياق، لا يمكن للأدب أن يلوذ بالتجميل أو المسافة. إن لم يُسمِّ الأشياء بأسمائها، يصبح شريكًا في التواطؤ. الأدب مسؤول عن كشف النية، لا فقط وصف النتيجة.
عن إعادة صوت من تم نزع صوته، وجسد من تم انتهاكه، إلى مركز الحكاية – لا بوصفهم رموزًا، بل كائنات حقيقية حيّة تستحق الإنصاف. أما السرد، فحين يُكتب من الداخل، لا من الخارج، حين يخرج من الجسد لا من النظرية، يمكنه أن يدوّن ما لا يُقال، ويُشهِد العالم على ما يُراد له أن يُنسى.
نعم، يمكن للكلمة أن تُقاوم، وللسرد أن يكسر حاجز الإنكار، وللأدب أن يكون سلاحًا ضد المخطط لا مرآةً له.
هل تجدين صدى لغضبك كامرأة وككاتبة حين تكتبين عن الانتهاكات الجسدية؟ أم أن اللغة تخون أحيانًا أمام هذا القبح؟
لا أجد صدى لصوتي، لأنه وحيد ومبحوح في هذه اللحظة التاريخية الثقيلة، لكنني لا أراهن على الصدى، بل على شحذ الصوت، لا بصراخي وحدي، بل بتجميع الأصوات القادرة على الاستمرار.
ولهذا أعمل، عبر مؤسستي الثقافية الناشئة “الفال”، على التركيز على الأصوات النسائية، لا سيما اليافعات منهن، والفاعلات في الحقول الإبداعية المختلفة،
لأنني أؤمن أن الأدب وحده لا يكفي، لكن اتحاد الأصوات الجادة والمجروحة قد يفتح ما سُدّ.
أسعى لأن أضم جهدي إلى جهود المبدعين والمبدعات السودانيين في شتى الضروب الفنية، لتقوية صوتي وتمديد أثره، لا لأنني أطمح لمكانة، بل لأنني أؤمن بأن ما يجري يتطلّب موقفًا جماعيًا مسؤولًا لا مفر منه.
لا خلاص دون تعاضد واعٍ، ولا أمل دون رؤية موحدة بخيال طموح وجاد،
يُوظّف إرث الذين سبقونا، ويستثمر طاقات الناجين من هذه المذبحة –
بعد أن نداوي جراحهم، لننطلق معًا إلى رحابٍ أفضل.
“معزوفة مريم”.. الرواية كشكل من أشكال الشفاء
سمعنا عن مشروع روايتك القادمة “معزوفة مريم”، المبنية على مفهوم “القراءة الاستشفائية”.. هل لكِ أن تحدثينا عن هذه التجربة؟ متى تصبح الرواية علاجًا؟ ولمن؟
“معزوفة مريم” وهي أولي المعزوفات “أوركسترا”، أوركسترا مشروع روائي طويل النفس، مكوّن من سبع معزوفات، تشير كل واحدة منها على إيقاع الجرح والشفاء والتحوّل، لكنها لا تنفصل عن الأخرى.
أوركسترا ليست سلسلة روايات تقليدية، بل تجربة شفاء إبداعي متعدد الطبقات، يحاول أن يُعيد الإنسان – عبر السرد – إلى ذاته الأصلية، المتّسقة مع الإيقاع الكوني للحياة. كتبتُ “معزوفة مريم” كبداية لهذه الرحلة.
بُنيت الرواية على مفهوم القراءة الاستشفائية، حيث لا تكون الرواية مجرد حكاية، بل طقسًا داخليًا، يحفّز القارئ لملامسة ذاته الأعمق، لا عبر الوعظ، بل بالتعاطف، والانكشاف، والتذكّر.
في “مريم”، هناك عشرة نزولات في الماء، تُعيد من خلالها البطلة تفكيك ذاكرتها الجسدية والنفسية، في محاولة لاسترداد صوتها بعد أن شُوّه، وجسدها بعد أن استُهدف، وطفولتها بعد أن كُسرت.
اللغة في هذه المعزوفة لا تُستخدم كأداة وصف، بل كـمبضع شافٍ، وصدى داخلي، ومسار للنجاة. ما يميّز “أوركسترا” هو أن كل معزوفة لا تقف على السرد وحده.
بل لكل رواية فيها مُوازيات حسية وفنية:
• موازٍ بصري (في شكل لوحات وشخصيات وألوان).
• موازٍ موسيقي (نغمة، إيقاع، وتر معين).
• موازٍ عطري (رائحة تحمل الذاكرة والمزاج).
وكلها تعمل بتناغم لتوليد تجربة قراءة شاملة وحسّية، تُخاطب الجسد والروح معًا، وتفتح أفقًا جديدًا لتجربة الرواية.
حالياً، أعمل على “مزامير الميرم”، وهي المقطوعة الثانية من المشروع، تتناول طقس الشفاء الجماعي، من خلال نساء خضن الحرب، ولم يسلمن، لكن لم ينكسرن.
وفي الانتظار تأتي:
معزوفة سهام، معزوفة المزدهرة، معزوفة نهارة، معزوفة جليلة، ثم معزوفة العائدات – كل منها تُضيء وجهًا من وجوه التجربة، وتُغني اللحن العام لهذا العمل الذي أراه أوركسترا للوعي، وللحياة، ولإمكانية النجاة.
. شخصية “مريم” تبدو وكأنها أيقونة جديدة في الوجدان السوداني بعد 15 أبريل.. لماذا اخترتِ هذا الاسم؟ وماذا تقول بطلتك عن النساء في زمن الانهيار؟
“مريم” ليست مجرد اسم اخترته لبطلة روايتي – إنها ابنتي الرابعة، ونداء داخلي ظلّ يرافقني منذ وُلدت.
فيها شيء من البطلة، شيء من الأم، وشيء من مريم النبية: المرأة التي واجهت الكون وحدها، وسكنها النور دون أن تطلبه، وأنجبت من تحت جذع نخلة لا ظل لها؛ كما أن لاسم مريم حضوره الخاص في قاموس الابداع السوداني (مريم محمود نموذجًا).
رمزية مريم تتجاوز العقيدة، هي الأيقونة الكونية للاتصال الصامت بالله، للاتساق مع الإيقاع الأكبر للحياة، للقوة التي لا تصرخ، بل تصمد، وتلد، وتنهض رغم الجرح.
مريم النبية لم تكن رسولًا، لكنها كانت رسالة تمشي. وحين أسكنتُ هذا الاسم في روايتي، كنت أستدعي كل هذه الدلالات، وأُسقطها على المرأة السودانية في زمن الحرب – التي لم يزُرها الملاك، لكنها سمعت النداء، التي لم يُنزل عليها كتاب، لكنها كتبت جسدها كأنه سفرٌ لا يُنسى.
بطلة الرواية، مريم، لا تصرخ، لكنها تُقاوم، تُنقّب في الماء عن ذاكرتها،
تحمل جسدها كأرض مستباحة تُعيد تطهيرها بالنزول، بالغوص، بالتذكّر.
هي لا تقول شعارات، لكنها ذات يوم، حين انهارت جدران الداخل والخارج، نظرت لنفسها في مرآة مكسورة وقالت:
“أنا لست قوية كما تعتقدون…
لكنني لست ميتة كما أرادوا لي أن أكون.”
تلك هي مريم.
وتلك، كما أراها، هي المرأة السودانية في زمن الانهيار – لا تبحث عن مجد، بل عن بقاءٍ له معنى.
الرواية السودانية: من التهميش إلى الأمل
قلتِ في وقت سابق إن الرواية السودانية تقف اليوم على “عتبة مستقبل زاهر”.. لكن هل تخشين أن تقاطع الحرب هذا المستقبل؟ كيف يمكن حماية الإبداع في لحظة الخراب؟
نعم، قلتُ وما زلت أقول الرواية السودانية تقف اليوم على عتبة مستقبل زاهر –
ليس لأن الخراب قد انقشع، بل لأن الصوت خرج من الظل، والوجع كُتب، والسارد أخيرًا رأى نفسه في النص لا على الهامش.
لكنني لا أنكر الخوف. الحرب قد تقاطع هذا المستقبل، ليس فقط بالقنابل، بل بما تفعله في النفوس من تكسير، وبما تزرعه من شعور بعدم الجدوى، وبما تفرضه من أولويات البقاء.
ومع ذلك، أؤمن أن الإبداع لا يُقتل – بل يتحوّل. في لحظة الخراب، لا نحمي الكتابة بجدران، بل بالوعي، بالتعاضد، وبخلق فضاءات بديلة تتجاوز مؤسسات الدولة، وتخترع أراضيها الخاصة.
الإبداع السوداني لم يولد في صالات مكيفة، بل في الظل، في البيوت، في الخوف، في الحفر العميقة للنفس.
ولذلك، إن أردنا حماية هذا المستقبل، علينا أن نكتب لا فقط بالرغبة، بل بالإصرار،
أن ندعم بعضنا البعض كمبدعين، أن نخلق شبكات للأمان الفكري، أن ننقذ المخطوطات كما ننقذ الأرواح، وأن نتذكّر دومًا أن الرواية ليست ترفًا، بل وثيقة نجاة.
في خضم الدمار، ما الذي يتغير في ذائقة القارئ السوداني؟ هل صار يطلب الحقيقة؟ المواساة؟ أم الهروب؟
في زمن الحرب، لا تتغيّر ذائقة القارئ السوداني فقط، بل يتوزّع حضوره بين الصمت المُفخّخ، والبحث الحثيث عمّا يبرر له الانسحاب.
لم يعد يقرأ ليُسلّي نفسه، بل ليعرف:
هل في النص نَفَس حيّ؟
هل فيه ما يُشبهه؟
هل فيه كلمة تقول له: “نراك، رغم الغبار”؟
لكن القارئ، أغلبه، اليوم يسجّل غيابه من دفاتر الوعي. بين من “بِلبِس” شعارات الالتزام والانضباط، ليتجنّب الرؤية المباشرة للهشاشة، وبين “جغم بس”، ابتلع القبح والعجز والخذلان دفعة واحدة، ومضى – يقف الجسد السوداني حائرًا، تُطارده اللغة من جهة، وتخذله الرواية الرسمية من جهة أخرى..
وأنا أكتب للبلابسة و للجغامسة. أكتب لمن لم يجد ثوبًا ولا لقمة، بل وجد نفسه عاريًا في وجه الحقيقة، يبحث عن صوت لم يُخن. أكتب لأحفظ ما سيسقط من بين أصابع المؤرخين، لأنني أعرف أن الصمت ليس حيادًا، بل شكلًا آخر من أشكال المشاركة في الجريمة.
القارئ السوداني اليوم لا يهرب، بل يتحصّن على طريقته. وأنا لا ألومه، لكنني لا أتركه. أضع النص في طريقه، كمن يُشير لا ليهدي، بل ليقول فقط: أنا معك. ما حدث فظيع، لكنه لا يجب أن يُنسى. اكتب لأمنح الوعي مقعدًا، فقد فقد الوعي مقعده.
المبدع في زمن النزوح والرماد
كثير من المبدعين السودانيين اليوم صاروا نازحين، لا يملكون مكتبًا ولا وطنًا.. هل تغير المنفى شكل الكتابة؟ هل تفقد الجملة دفئها حين تُكتب من الاغتراب؟
المنفى لا يُغيّر شكل الكتابة فقط، بل يُعيد تشكيل الكتابة نفسها. حين يُنتزع المكان، لا يبقى للمرء إلا الذاكرة، والصوت، والجُملة التي تخرج من قلبٍ لم يعد له جدار. نعم، كثير من المبدعين السودانيين اليوم يكتبون من تحت الخيام، أو فوق الأرصفة، أو بين محطتين لا اسم لهما، يكتبون بلا مكتبة، بلا دفاتر قديمة، بلا حضن أم، ولا عطر دار.
في زمن النزوح، لا تُفقد الجملة دفئها، لكنها تفقد عاداتها. تصير مشدودة أكثر، مرتجفة أحيانًا، تخلو من الترف، وتمتلئ بالأسى، تنقش نفسها على العظم لا على الورق. أحيانًا تكون ناقصة، مبتورة، لكنها حقيقية — لأن من يكتبها لا يملك وقتًا للكمال، فقط يكتب كي لا يختنق. الكتابة من المنفى ليست أضعف، بل أكثر توترًا، وأكثر صدقًا حين تُولد من الحنين، من الخوف، من صمت المدن الغريبة. المبدع السوداني لا يكتب الآن من منفى خارجي فقط، بل من منفى داخلي أعمق:
منفى اللغة التي لم تعد تحميه، منفى البلد الذي لم يعد يراه، ومنفى الحكاية التي صار عليه أن يرويها وهو مبلّل بالغبار.
ومع ذلك، أؤمن أن المنفى لا يطفئ الجملة، بل يعيد إشعالها في مكان آخر – في طبقة أعمق، أكثر حذرًا، لكنها مشتعلة من الداخل.
ما الذي فقدته سارة الجاك ككاتبة وإنسانة منذ اندلاع الحرب؟ وما الذي بقي من تلك الفتاة التي كتبت أول قصة وهي في التاسعة؟
فقدتُ أشياء كثيرة منذ اندلاع الحرب – لكن أكثر ما فقدته هو تفاصيل الحياة التي كانت تصنعني دون أن أنتبه. فقدت زحمة السوق العربي، حين كنتُ أتوه عمدًا في الأصوات والروائح. فقدت الأمسيات الرتيبة التي كنت أظنها مملة، واكتشفت أنها كانت رحمًا للكتابة. فقدت مشوار الركشة من شارع الكلس إلى مربع عشرة، وصوت نعمات، حبوبتي، وهي تناديني باسم لا يعرفه أحد غيرها.
فقدت قرارًا عاديًا مثل: أن أذهب للديوم، أن أجلس تحت شجرة النيم الكبيرة، دون خوف، دون إذن، دون حساب للنجاة. فقدت صوت الكمسنجية في موقف الحاج يوسف، الضجة التي كانت تزعجني، ثم صارت – في الغياب – عزفًا أعرف مقامه جيدًا. كل هذا وأكثر، فقدته.
ومع ذلك، بقيت داخلي تلك الطفلة التي كتبت أول قصة في التاسعة. لا تزال هناك، تهمس لي وسط هذا الرماد: “اكتبي، لا لتُنقذي كل شيء، بل لتُبقي على بعضك حيًّا.”
اليوم، لا أكتب كما كنت، لكنني – رغم كل شيء – ما زلت أكتب. وهذا، في ذاته، شكل من النجاة والولاء.

 

Exit mobile version