السودان المتعدد والإقصاء الإسلاموي: قراءة في سِفر التمكين

عصام عباس
في نداء عاجل أطلقه الدكتور فرانسيس دينق بتاريخ 23 يونيو 2025، دعا الشعب السوداني بكل فئاته إلى إدراك حجم الكارثة الناجمة عن الحرب الدائرة في البلاد، التي وصفها بأنها نتيجة عميقة لأزمة هوية وطنية وسوء إدارة التنوع الديني والعرقي والثقافي. وأكد أن هذه الحرب ليست مجرد صراع على السلطة والثروة، بل تعكس فشلاً مستمراً في تحقيق رؤية السوداناوية القائمة على الشمول والمساواة والعدل. حرك هذا النداء وحفز ضرورة تلمس مواطن الخلل ومكامن الفشل لأجل تدارك ما يمكن تداركه ومعالجة الداء ومحاصرة انتشاره حفاظًا على وطن أورثنا له الآباء متحدًا، ولكنا أغفلنا صونه وحمايته من دعاة الفتنة وحملة حطب الحريق فجاثوا خلال الديار بفكرهم الضال ونهجهم المدمر.
لا جدال أن صراع السودان المتطاول قد أتاح فرصة حقيقية لسبر غور انحراف الفكر لدي أنصار حركة الإسلام السياسي في السودان، وتحديدًا حينما أزيلت الحواجز عن طريقهم وفتحت لهم الأبواب التي كانت موصدة بدءًا من تحالفهم مع نظام النميري في ١٩٧٧، مرورًا باستيلائهم على السلطة في 1989، ثم إشعالهم لحرب أبريل المشؤومة في2023. خروج الإسلاميين من مخابئهم واعتلائهم منابر السلطة لم يتسبب في تشويه صورة الإسلام فحسب، بل امتد ليكون سببًا رئيسًا في تمزيق النسيج المجتمعي وإعاقة التحول الديمقراطي. من بين العديد من الأسئلة يبرز السؤال الجوهري الذي ظلّ يُطرح بإلحاح: لماذا يرفض الإسلاميون الآخر، وينتهجون العنف وسيلة للتخلص منه؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب الغوص في أعماق الفكر والممارسة والسياق التاريخي لتجربة الإسلاميين في السودان.
أولاً: الفكر الإقصائي كمرجعية حاكمة
ينبع رفض الإسلاميين السودانيين للآخر من بنية فكرية قائمة على التصنيف والتجريم. لقد تأثروا بمدارس إسلاموية راديكالية، مثل فكر سيد قطب، الذي قسم العالم إلى “معسكر إيمان” و”معسكر جاهلية”، حينما نص على ذلك في كتابه “معالم في الطريق” بقوله: “إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي، وكل ما هنالك هو جاهلية”. بهذا المنظور، لا يصبح الاختلاف السياسي أو الفكري اختلافًا مشروعًا في معتقداتهم، بل هو خيانة لله ورسوله، يُوجب الإقصاء، بل الاستئصال كما أفرزت حرب أبريل اللعينة. هذا التصور العدمي للتنوع يرفض التعدد كمكون طبيعي للمجتمع، ويختزل الوطنية في الولاء للمشروع الإسلاموي، ما يعني بالضرورة إقصاء كل من يخالفه، سواء كان ليبراليًا، ماركسيًا، أو حتى مسلمًا له مذهب آخر لأن كل 4ما يختلف معهم فهو جاهلية.
ثانيًا: التمكين، مسار الانغلاق والتسلط
في بداياتهم، ظهر الإسلاميون السودانيون ضمن إطار دعوي في الجامعات والمؤسسات التعليمية والمساجد، مستغلين النزعة الفطرية للشعب السوداني نحو الدين القويم، لكن سرعان ما تحوّل خطابهم بعد التحالف مع ديكتاتورية مايو إلى مشروع سياسي شمولي هدفه السلطة ووسيلته الدين وتوج ذلك بانقلابهم المشؤوم في 30 يونيو 1989 ليصبح التمكين، لا سواه، هو السبيل لبناء الدولة.
تبنّت “الإنقاذ” مشروعًا منهجيًا لتصفية الدولة من “غير الموالين”، عبر فلترة الخدمة المدنية، وإعادة هندسة المؤسسات الأمنية والقضائية والتعليمية على أسس الولاء لا الكفاءة. وهكذا، أصبح من لا ينتمي للجماعة عدوًا لها دونما منطقة وسطى.

ثالثًا: العنف أداة مشروعة للإقصاء
لم يكن العنف أداة مرحلية، بل جزءًا من الاستراتيجية الإسلاموية للبقاء في السلطة. من الحرب في الجنوب التي أُلبست لبوس الجهاد، إلى دارفور حيث جرى تسليح الميليشيات واستنفار القبائل، إلى فض اعتصام القيادة العامة عبر كتائبهم بزعم تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، كانت الممارسة واحدة: تصفية الآخر بدعوى حماية المشروع. حتى داخل صفوفهم، لم يتورعوا عن تصفية بعضهم البعض، كما حدث في المفاصلة الشهيرة بين البشير والترابي. أي محاولة اختلاف داخل الحركة كانت تُقابل بالإقصاء أو التهميش أو التخوين.
رابعًا: الشيطنة بدل الحوار
مارس الإسلاميون حملة منظمة لتشويه صورة القوى الديمقراطية والمجتمع المدني، وشيطنوا كل ما يُمثل قيم الحداثة والمساواة والحرية، فوُصف أنصار اليسار بـ”الكفار”، وناشطات حقوق المرأة بـ”المارقات”، والنشطاء الشباب في العمل الإنساني بـ”المتعاونين”، والقوى المدنية بـ”عملاء الخارج”. تتم هذه الشيطنة عبر منابر الدولة الرسمية والدينية والإعلامية، في سياق يهدف إلى نزع الشرعية عن الآخر، وتبرير أي إجراء عنيف ضده.
خامسًا: ما بعد الكارثة: هل من مراجعة؟
مع اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين الجيش والدعم السريع، ووضوح مسؤولية الإسلاميين في إشعال الصراع، بات السؤال عن إمكانية مراجعة هذا الفكر أكثر إلحاحًا. فرغم بعض المحاولات الفردية لمراجعة التجربة، فإن التيار الغالب لا يزال متمسكًا بالخطاب الإقصائي غير المعترف بالآخر، رافضًا أي نقد أو اعتراف بفشل مشروعهم المدمر. إن استمرار رفض الآخر ورفض التعدد هو ما قاد السودان إلى هاوية لا قرار لها، ويُعيد باستمرار إنتاج مآسي الانقسام والحرب.
أخيرًا: لا مستقبل بدون الاعتراف بالآخر
إنّ السودان بلد متعدد بطبيعته: في الأعراق، والثقافات، والأديان، والمناطق. ومحاولة فرض لون واحد أو فكر واحد على هذا التنوع لا تؤدي إلا إلى مزيد من الصراع. رفض الإسلاميين للآخر ليس خيارًا سياسيًا فقط، بل هو تهديد لوجود السودان نفسه. لا يمكن الخروج من هذا النفق إلا بجرأة فكرية تُراجع التجربة بصدق، وتُقر بأنّ التعدد ليس خطرًا، بل هو أساس البقاء. فالمدنية لا تعني العداء للدين، والديمقراطية لا تعني الإقصاء، وإنما هي وحدها الكفيلة بحماية الجميع.. حتى الإسلاميين أنفسهم.

 

Exit mobile version