محمد أحمد الفيلابي
جملة مكثّفة.. عميقة.. صادقة أوردها (حميد) في سياق الحكي حين وجد بطل ملحمة (الضو وجهجهة التساب) نفسه محاصرًا بين النهر الهائج، والمطر النازل في غير موقعه، والرياح التي تسوق الهواجس والمخاوف، وتسقط أشجار النخيل والثمار. ويزيد عليها كيد البشر أصحاب الفِقَر، الأغنياء المترفين…
“والينجا من كيد البحر.. ما ينجا من إيد المطر
والينجا من إيد المطر.. ما ينجا من كيد الرياح
والينجا من كيد الرياح.. ما ينجا من كيد الفِقَر
ويا ده القدر… ما أعتى حربك يا بشر”
هذا ما كان من حرب النهر، عندما كان الإنسان يصارع الماء والرياح، وما ألم به جراء كيد الفاسدين من أهل السلطة. أما اليوم فقد بات النهر نفسه ملوّثًا يحمل من السموم بقدر ما كان يحمل من الرحمة والنِّعَم. وباتت الرياح لا تأتي إلا بالهواء المشبّع بالبارود والسلاح المميت. أما (الفِقَر) فقد ظلّت تتصارع لأكثر من عامين لتلوي عنق الحقيقة، ولتجزّ أعناق الصغار (الضامرة)، وتلوّح بها انتصارًا.
ماذا جرى للنهر، أحد أسباب حياتنا ووجودنا الجغرافي؟ النهر الذي كان حين يغضب لأيام معدودات يعود بعدها إلى مجراه مخلفًا طميًا يُعد من المنح المنتظرة. خصبًا تتفتح له مسام الأرض التي أهلكتها الزراعة غير المرشدة، وغسلًا (طيّبًا) لما تشربته عروقها من سموم المخصبات والمبيدات. فيعيدها سيرتها الأولى لتمارس العطاء.
النهر، ومن قبل اندلاع الحرب كان قد أصبح مغسلة لسموم التعدين الأهلي، الذي ما كان له أن يكون بهذا الانتشار لولا أن سياسات التنمية المتوازنة قد ضاعت في سرابيل أهل الفِقَر الذين أغلقوا أبواب التنمية الريفية، وأخلوا باحات مدارس الرحّل من المعلّم والمنهج الذي كان من شأنه أن يبقى النسبة الأعظم من الشباب بعيدين عن الأزياء العسكرية بمختلف ألوانها، قريبين من (أرواحهم) ومن إدراك ماذا يعني وطن ومواطن. بعيدين من قوائم الهدم والتدمير، قريبين من سكة التعمير والنماء.
من تزيّا بالكاكي وجد من يضع في يديه السلاح الفتّاك يوجهه إلى صورته على وجه الماء، ونحو أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه. ومن بقي منهم في أسماله تلك، جلس قريبًا من ضفة النهر يراكم دون وعي ذرات الزئبق والسيانيد في كبده، ويفلت منها ما يسيل إلى المجري، تتجرعه الحيوانات النهرية والبرية والطيور، والبشر. أما ما ينسرب إلى الأحواض الجوفية، فيستخرج بعد عناء كبير في ظل غياب الطاقة والبدائل، ليشربها المواطن – إن وجد إليها سبيلًا – بين الرصاص وتهديدات عبور الإرتكازات، وفرق (الشفشفة) المحروسة بالسلطات والسلاح.. والخوف المستبطن..
وما أعتى حربك يا بشر.
ماذا يبقى للإنسان تحت سماوات الأمان الذي يقال عن استتبابه؟ وما الأمن سوى جرعة ماء نظيفة، وظلًا يأوي، وقصعة طعام تلتقي فيها الأيدي بعد أن تكون قد مارست حميمية السلام، وحمدت، وسألت الله أن يدمها نعمة من الزوال. وما الزوال سوى هذا الذي نرجو زواله؟
لماذا يغيب الماء عن شبكاته؟
لماذا الـ”مزارع بتيبس ونيلك ممدّد جنازة”؟ كما قال القدّال.
رغم التحذير المستمر من خطورة التعدين العشوائي، وأضرار استخدام الزئبق والسيانيد، إلا أن الظاهرة ظلت تتصاعد، خصوصًا بعد فقدان الغالبية العظمى لمصادر الدخل. وقد لجأ عشرات الآلاف – إن لم يكن الملايين للتعدين الأهلي. وازدهرت في ظل الفوضى تجارة المواد المحرمة دوليًا. ومن ذلك أن تم ضبط 100 برميل من مادة السيانيد السامة، مُخزَّنة داخل منزل سكني بأحد أحياء الدامر، في حادثة أثارت ذعرًا واسعًا بين السكان، وسط تحذيرات من مختصين من تداعيات “مُروِّعة” على صحة المواطنين والبيئة، واتهامات بفساد مؤسسي يُغذّي جرائم بيئية يمكن أن تُوصف بـ “الحرب الكيميائية على الشعب”.
وتبقى الأسئلة المحلّقة فوق الرؤوس: “كم برميلًا آخر مخفيًا بيننا؟ ومن يحمينا من الكارثة القادمة؟
ذلك لأن هذه المادة تقضي على الأخضر واليابس، وتأثيرها سريع على البيئة المحيطة، ولا تستثني شيء الإنسان والحيوان والنبات والتربة والمياه. فهي مهدّد حقيقي لوجود الحياة على المناطق التي تشهد زيادة في عمليات التعدين العشوائي باستخدام هذه المادة.
كنا سعداء بسريان العافية قليلًا في جسد الوطن بعد الثورة، ومن ذلك أن وقعت الحكومة في (سبتمبر 2021) على اتفاقية (ميناماتا) الدولية الخاصة بحظر استيراد واستخدام الزئبق. وتواصل الضغط من أجل خطوة المصادقة، تمهيدًا لإيجاد الطريق الذي يمكننا أن نمشي فيه نحو إعادة ترتيب وضع التعدين عن الذهب. بحيث تتشارك الإشراف عليه الحكومة والجهات المعنية بأمر البيئة. بيد أن الذهب نفسه هو ما ذهب بأحلامنا المشروعة تلك، حين شرع أصحاب المصالح في اتخاذ إجراءات تحفظ مصالحهم بغض النظر عن الخسائر التي سيتجرعها الوطن والمواطن.
وما أعتى حربك يا بشر..
“نموت إن زادت الموية، ونموت من قلتها”..
شهدت البلاد منذ اندلاع الحرب أكثر من كارثة فيضان، وانهيارات للسدود، وغرق. ومع كل هذا شهدنا، ونشهد العطش يحصد الأرواح والزرع والضرع.. والمياه الملوّثة تنشر الأمراض والموت الزؤام..
وما أعتى حربك يا بشر.
قبل الحرب انطلقت التحذيرات بأن أكثر من ربع سكان السودان يستغرقون قرابة الساعة للحصول على الماء. فقد ذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن “26% من السكان يسيرون لأكثر من 50 دقيقة للعثور على مياه، ويُعرضون أنفسهم لمخاطر أمنية، لا سيما النساء”.
ومن مخيم «سرتوني» للنازحين بشمال دارفور، الذي يضم أكثر من 65 ألف شخص، انطلقت شكوى أحد المواطنين عبر (وكالة الصحافة الفرنسية) متضمنة الحديث عن الحق في توفر مياه الشرب، إذ أن اطفاله، ومنذ اندلاع الحرب، يسيرون مسافة 14 كيلومترًا يوميًا لجلب المياه.
وفي كل يوم يتجدّد القتال ويذهب الناس إلى المخيمات، وهناك يواجهون مشكلة توفر المياه، وزيادة في تكاليف المعيشة مع انعدام الأمن. وقد أوجز أحد الدبلوماسيين الأوربيين القضية في أنه “حتى لو توفرت المياه، إذا تعطّلت المضخّة، أو لم يكن الوقود متوفرًا، لن تتمكّن من الوصول إليها”، مشيرًا إلى أن “النظام الصحي قد انهار، والناس يشربون المياه غير النظيفة”.
لن نقول إن نبوءة الدبلوماسي الأوربي قد صدقت، فقد سبقه للتحذير أهل الشأن البيئي والصحي، وها قد بدأت تظهر بعض الحالات المؤكدة للكوليرا في عدد من الولايات السودانية، الأمر الذي يهدد بخطر تحول المرض إلى وباء واسع الانتشار، خاصة في ظل هشاشة النظام الصحي وغياب بنية تحتية فاعلة للمياه والإصحاح البيئي. ذلك مع وجود حالات شبيهة بالكوليرا، وقريبة الشبه بكارثة أخرى من كوارث الحرب. وبجانب افتقار 17.3 مليون شخص إلى مياه الشرب، ما جعلهم عُرضة لخطر الإصابة بالأمراض، يفتقر حوالي 24 مليون شخص إلى مرافق الصرف الصحي المناسبة. وقد عجزت مرافق الدولة المعنية بتغطية خدمات الصرف الصحي. ليشكل الأمر واقعًا مزريًا، مع ما بدأ قبل الحرب بسنوات من تحويل عمل البلديات الخدمي إلى سياسي، وإهمال الأدوار التي كانت كفيلة بتقليل خسائر مرافق المياه والصرف الصحي، حتى في حال نشوب الحرب.
وما أعتى حربك يا بشر..
الآن، وفي ظل تركيز منصات الاعلام الرسمية على ضرورات عودة المواطن، تنتشر حكايات العودة المصطدمة بواقع الحال، وما نتج عن اتساع الهوة بين مستوى تطوير شبكات ومحطات الضخ، والتوسع الجغرافي والبشري الذي شهدته العاصمة الخرطوم والمدن الأخرى قبل الحرب. ومنذها بدأت الشكاوى، فماذا يمكن يكون قد حدث لشبكات الضخ، ومحطات التنقية بعد أكثر من عامين على الحرب.
وما أعتى حربك يا بشر…