المبادرة الأمريكية لإنهاء حرب السودان: أولويات متغيرة وفرص ضائعة

تقرير : محمد أحمد
تُعد الأزمة السودانية واحدة من أكثر النزاعات تعقيدًا في القرن الإفريقي إذ ألقت الحرب الداخلية بظلالها على ملايين المدنيين وأعاقت جهود التنمية وخلقت فراغًا استراتيجيًا تستثمر فيه قوى إقليمية ودولية، لتصبح البلاد ساحة لتقاطع المصالح أكثر من كونها أولوية إنسانية عاجلة للعالم.
في مايو 2023، أطلق منبر جدة كإطار دبلوماسي برعاية سعودية أمريكية، سعيًا لتحقيق وقف شامل لإطلاق النار وفتح مسار سياسي يقود إلى سلام مستدام في السودان. دعمت إدارة الرئيس ترامب هذه الخطوة، معتبرة أنها “خطوة أساسية” نحو تحقيق هدنة إنسانية، لتتوج هذه الجهود بتوقيع إعلان جدة في 20 مايو، الذي نص على وقف الأعمال العدائية مؤقتًا والتعهد بحماية المدنيين. لكن سرعان ما اصطدمت هذه المبادرة بالواقع بعد تكرار الانتهاكات، ما أدى إلى تعليق الإعلان في يونيو قبل استئناف المحادثات لاحقًا.
ورغم هذا الحضور، يرى الدكتور نادر آدم قرشي ،الباحث في التاريخ والدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية، أن مشاركة الولايات المتحدة في ولاية ترامب الثانية، في “منبر جدة” كانت محدودة التأثير، إذ لم تُطرح خارطة طريق واضحة ولم يُعيّن مبعوث خاص رغم ضغوط الكونغرس، و اكتفت واشنطن بتصريحات دبلوماسية دون ممارسة ضغط فعلي على الأطراف الإقليمية المتورطة في تأجيج الصراع. وفي تقديره، تتعامل واشنطن مع السودان ضمن صراعاتها الجيوسياسية الأوسع، حيث يخدم استمرار الحرب استنزاف قوى إقليمية مثل مصر وتركيا، ويشتت الانتباه عن التوسع الصيني في إفريقيا.
يأتي هذا الموقف على خلفية اتفاقات أبراهام التي ضمت السودان إلى قائمة الدول المطبعة، ما سمح برفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب في ديسمبر 2020، وفتح الباب أمام وعود بالاستثمارات والدعم الاقتصادي. ومع ذلك، ومع دخول ترامب فترته الرئاسية الثانية، أضحت الأولويات أكثر ميلاً للصفقات الاقتصادية والعلاقات مع السعودية، بينما ظل الملف السوداني حاضرًا في الخطاب وغائبًا عن الممارسة الفعلية.
ويشير الدكتور نادر إلى أن إدارة ترامب لا ترى السودان أولوية حقيقية، بل تتعامل معه كملف جانبي في إطار مصالحها الأوسع في الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث تتركز جهودها على جذب الاستثمارات الخليجية واحتواء النفوذ الصيني، لا على إنهاء الأزمة السودانية بحد ذاتها، وهو ما انعكس بعدم إطلاق أي منصة تفاوضية جديدة خلال يونيو ويوليو 2025، واقتصار التحركات على الدعم الرمزي للمسار السابق.
في المقابل، يرى جون موكوم مباكو أستاذ السياسات العامة، أن إنهاء الحرب في السودان يحتاج “التزامًا دوليًا وإقليميًا حقيقيًا” لدعم بناء المؤسسات الديمقراطية، مع ضرورة لعب الاتحاد الإفريقي دورًا حاسمًا لإنقاذ السودان. ويقترح التعاون مع الأمم المتحدة لإرسال بعثة لحماية المدنيين والتحقيق في الانتهاكات، بالتوازي مع جامعة الدول العربية لتنفيذ برامج تنمية تخلق أرضية للاستقرار المستدام.
إقليميًا، عُقد الاجتماع التشاوري الرابع للمجموعة الدولية بشأن السودان في بروكسل في 26 يونيو 2025، بحضور الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي والإيغاد والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية إضافة إلى ممثلين عن الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات وبريطانيا، حيث أُكدت ضرورة وقف إطلاق النار فورًا وفتح الممرات الإنسانية. كما دعا رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في 30 يونيو خلال قمة إشبيلية إلى إصلاح النظام المالي العالمي وتخفيف العقوبات، مشيرًا إلى حاجة أكثر من 30 مليون سوداني للمساعدات العاجلة.
كما استمرت مصر في لعب دور الوسيط بالتنسيق مع الإمارات رغم التوترات بسبب الدعم الإماراتي لقوات الدعم السريع، إذ التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي البرهان في 30 يونيو بمدينة العلمين، مؤكدًا على حماية الأمن المائي ودعم مسارات التعاون. وفي واشنطن، انعقد اجتماع رباعي في 3 يونيو جمع مسؤولين أمريكيين مع سفراء السعودية والإمارات ومصر لمناقشة الملف السوداني، مؤكدين أن النزاع لا يمكن حسمه عسكريًا وأن الحل يمر عبر اتفاق تفاوضي شامل.
لكن المشهد الإقليمي شهد تغييرًا كبيرًا بعد الحرب الإسرائيلية الإيرانية الأخيرة، التي شاركت فيها واشنطن بضربات استهدفت قدرات إيران العسكرية، ما أعاد ترتيب أولويات الولايات المتحدة وقد يفتح الباب أمام عودة الملف السوداني ضمن اهتماماتها كجزء من تأمين البحر الأحمر ومنع تمدد إيران وروسيا في القرن الإفريقي.
ساهمت هذه الحرب في تراجع فرص الحسم العسكري في السودان، بعد أن فقد الجيش السوداني جانبًا من قنوات الدعم الإيراني التي كانت تعزز قدراته، في حين تراجعت قدرة قوات الدعم السريع بسبب الضغوط الدولية والإدانات الموثقة ضد الإمارات لدورها في تقديم الدعم العسكري رغم نفيها، ما حد من قدرة الطرفين على الحسم السريع.
كل ذلك، إضافة إلى التدهور الإنساني الحاد في السودان، خلق أرضية مواتية لنجاح أي مبادرة أمريكية إذا قررت واشنطن تفعيل أدواتها السياسية والدبلوماسية لوقف الحرب.
لكن، وبرغم توفر هذه الظروف، لا يعني ذلك بأي شكل أن هناك مبادرة أمريكية مطروحة حاليًا، إذ يظل الملف السوداني رهينة لمصالح الولايات المتحدة الإقليمية ومدى استعداد إدارة ترامب للتحرك بجدية لإنهاء الحرب، بدلًا من توظيفها ضمن صراعات الوكالة المستمرة، بينما يبقى الشعب السوداني الضحية الأبرز في هذه الحرب الطويلة.
روابط المصادر المرتبة
1. The Horn of Africa and the future of U.S. strategy (Brookings)
2. Sudan’s warring factions begin Saudi-US brokered talks (Reuters)
3. Sudan’s factions sign agreement to ease humanitarian aid (Reuters)
4. Department Press Briefing May 3, 2023 (U.S. State Department)
5. The Abraham Accords (U.S. State Department)
6. Foreign interests fuelling Sudan’s war (The Conversation)
7. 4th meeting of the International and Regional Contact Group on Sudan (ReliefWe
8.د. نادر آدم قرشي، خبير في التخطيط الاستراتيجي وباحث في بناء الدولة، ومستشار في تطوير المبادرات المجتمعية.