المصباح في القاهرة.. أريكة وثيرة ملطخة بدماء الأبرياء
وطن يُذْبح.. والقاتل يرتّب وسادته للنوم
من محرقة الحلفايا إلى رفاهية القاهرة.. من يوقف ماكينة الموت؟
أفق جديد
في مشهدٍ فجّر موجة من الغضب والاستياء، ظهر المصباح أبو زيد طلحة، قائد كتيبة البراء بن مالك، في شقة فاخرة بالعاصمة المصرية، وهو يلاعب طفله فوق أريكة أنيقة، بينما يُترك آلاف السودانيين لتنهشهم الحرب والمجاعات والنزوح القسري. الرجل، الذي يُوصف بأنه “أحد أقسى قادة الميليشيات في التاريخ السوداني الحديث، وأكثرهم دموية”، كان يبتسم بهدوء أمام الكاميرا في مشهدٍ لا يكتفي بإثارة الصدمة، بل يغرس خنجرًا إضافيًا في جراح ضحايا آلة القتل التي حوّلت مدن السودان إلى ساحات للإعدامات الجماعية وجرائم لا تقل فظاعة عن التطهير العرقي.
مجازر موثقة
الحلفايا، ود مدني، الأبيض، الدروشاب.. لم تعد مجرد أسماء لمناطق سودانية، بل تحولت إلى علامات دامغة في سجل الدم والألم، ارتبطت جميعها باسم كتيبة البراء بن مالك، التي تتصاعد الدعوات اليوم لتصنيفها كجماعة إرهابية.
ففي سبتمبر 2024، داهمت عناصر الكتيبة منطقة الحلفايا واعتقلت أكثر من ثلاثين شابًا من متطوعي “التكايا” بزعم التعاون مع قوات الدعم السريع. لم يُفتح تحقيق مع أي منهم، ولم يُقدَّموا إلى محاكمات، بل أُعدموا ميدانيًا بدم بارد وأمام أعين ذويهم.
في ود مدني، نُفذت مجزرة مروّعة قبيل انسحاب الجيش بيوم واحد، حيث أعدمت الكتيبة أكثر من مئة شاب من أبناء دارفور، وُصفوا بأنهم جواسيس، وتركت جثثهم مكشوفة تنهشها الكلاب. ثم تكرّر المشهد المروّع بعد استعادة الجيش للمدينة، حيث أُعدم العشرات بتهمة التعاون مع الدعم السريع، بعضهم أُعدم بطريقة وحشية عبر إلقائهم مكتوفي الأيدي من أعلى جسر حنتوب.
وفي الدروشاب، أُجبر اثنان من الشباب على حفر قبريهما بأيديهما، قبل أن يُطلق عليهما الرصاص وتُوارى جثتاهما في الحفرة ذاتها. أما في الأبيض، فقد ذُبح شابان ورفع رأسيهما المفصولين وسط الهتاف والتكبير، فقط لأنهما اتُّهما زورًا بالانتماء للدعم السريع.
أدلة مصوّرة
هذه الجرائم ليست مجرّد روايات، بل موثقة بالصوت والصورة. في أحد المقاطع المتداولة، يظهر أسيرٌ موثوق اليدين يُلقى من على جسر في النيل الأزرق بينما تُطلق عليه النار أثناء سقوطه. وفي مقطع آخر، تظهر وجوه من الكتيبة تردد شعارات دينية قبيل تنفيذ عملية الإعدام الجماعي في الحلفايا، وسط تكبيرات وفتاوى تُتلى على عجل، وكأنهم لا يزهقون روح إنسان، بل ينفذون نصًا مقدسًا من كتاب قديم.
في نهاية التقرير يوجد ملحق مصوّر كامل – أعدته أفق جديد – يحتوي على ثلاثة مقاطع رئيسية، يمكن تحميلها ومشاهدتها لتوثيق جرائم كتيبة البراء بن مالك الإرهابية.
خطاب ديني
تتحرك الكتيبة بخطاب ديني متطرّف، يستند إلى فتاوى تُبرّر القتل وتُكفّر من خالفها، وتُشيطنهم باعتبارهم “طواغيت”، “منافقين”، و”عملاء”. إنها تعيد إنتاج خطابات العنف التي نشأت في أفغانستان، وتطورت في العراق، وها هي اليوم تتجذر في السودان.
وتُؤكد سكرتيرة طبية عملت قرب الجبهات، أن عناصر الكتيبة نفذوا عمليات “بقر بطون” لنساء حوامل، في سلوك يتجاوز جرائم الحرب التقليدية إلى تجسيد كامل للوحشية المطلقة.
صمت رسمي
رغم كل هذه الجرائم، لم تصدر أي إدانة صريحة من قيادة الجيش السوداني تجاه الكتيبة. بل تشير تقارير مستقلة إلى أنها خضعت لتدريبات عسكرية بإشراف شخصيات تنتمي للحركة الإسلامية، وشكّلت ما يشبه الذراع غير الرسمية للجيش. ويتساءل ناشطون: هل الصمت علامة رضا؟ أم عجز؟ أم تواطؤ؟ أم أن القيادة تخشى أن تفتح على نفسها بابًا من الجحيم لن يُغلق؟
مطالب متصاعدة
ومع تفاقم حجم الانتهاكات، تتصاعد الأصوات المطالِبة بتوسيع صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية لتشمل الفترة من 2023 حتى اليوم، خاصة في ما يتعلق بجرائم الإعدام الجماعي، القتل على الهوية، والتمثيل بالجثث.
المحامي والحقوقي المعز حضرة قال لـ”أفق جديد” إن كتيبة البراء بن مالك كتيبة جهادية متشددة تضم عناصر ذات صلات بالتنظيمات الإرهابية، وإن ما ارتكبته من فظائع يستوجب إدراجها على قوائم الإرهاب الإقليمية والدولية. وأضاف أن وجود هذه الكتيبة لا يشكّل خطرًا على السودان فحسب، بل تهديدًا مباشرًا لاستقرار الإقليم ودول الجوار.
وفي السياق ذاته، يرى رئيس دائرة الإعلام بحزب الأمة القومي مصباح أحمد أن الكتيبة “والغة في دماء السودانيين”، وهي من أشعلت الحريق في السودان، ويضيف في حديثه لـ”أفق جديد”: “وهذا يؤكد أن المصطلين بنيران هذه الحرب هم البسطاء الذين لا يستطيعون السفر إلى العواصم الإقليمية”.
وبدوره في موقف لافت حمّل رئيس الحزب الأمة مبارك الفاضل المهدي الحركة الإسلامية وعناصر الكتيبة التي تضم عسكريين وطلابًا وموظفين، مسؤولية إطلاق الرصاصة الأولى في 15 أبريل 2023، وطالب بلجنة تحقيق دولية لكشف المسؤولين عن تفجير الحرب.
أيادٍ ملطخة
ظهور قائد الكتيبة في القاهرة يداعب طفله ليس استراحة، بل احتفال بالمجازر التي خلّفها وراءه في السودان، بعدما أجلى أسرته إلى برّ الأمان. يقول الناشط صديق أبو عوف لـ”أفق جديد”: “هؤلاء يديرون الحرب عن بُعد، يغسلون أيديهم الملطخة بالدماء في فنادق العواصم البعيدة، ينامون في أسرّة وثيرة بينما ينام السودانيون تحت السماء ويفترشون الأرض في مراكز النزوح. أطفالهم يدرسون تحت أنوار الثريات، وأطفالنا يموتون بالكوليرا وحمى الضنك، وبعضهم مات جوعًا”.
مهدد أمني
وكان المصباح قد اعتُقل في السعودية منتصف 2024، في مؤشر على تنامي القلق الإقليمي والدولي من نشاط كتيبة البراء بن مالك. فالمملكة، المعروفة بحزمها تجاه التنظيمات المتطرفة، صنّفته باعتباره “مهددًا أمنيًا” بعد قيادته أنشطة محظورة يُشتبه في ارتباطها بتنظيم سياسي عسكري.
وبحسب مصادر دبلوماسية، ألقت السلطات القبض عليه أثناء أدائه العمرة، بعد ظهوره في تسجيلات من داخل الحرم النبوي برفقة أنصاره وهم يتداولون شعارات تعبويّة ذات طابع عسكري. تم التحقيق معه في المدينة المنورة لمدة أسبوعين، وسط ضغوط سودانية للإفراج عنه. وبالرغم من إطلاق سراحه لاحقًا، قررت السعودية ترحيله قسريًا بعد اتهامه بانتهاك قوانين الأمن الداخلي وترويج أفكار يُشتبه في صلتها بتنظيمات الإسلام السياسي المسلّح، بما في ذلك جماعات مصنفة إرهابية.
ميليشيا دموية
عُرف المصباح بتخرّجه من دورة تدريب إعلامي بالخرطوم عام 2022، لكنه سرعان ما تحوّل إلى أحد أبرز قادة “كتائب الظل” الإسلامية المنضوية تحت لواء الجيش، عقب اندلاع الحرب مع الدعم السريع في أبريل 2023.
ويستند في خطاباته إلى لغة دينية تعبويّة تمزج بين التفسيرات الجهادية والعداء للمخالفين السياسيين. وقد نُشرت له تسجيلات يُحرّض فيها على “القتال حتى النصر أو الشهادة”، ويبشّر بـ”زوال دولة الكفر والخيانة”. وظهر في صور وفيديوهات يعتمر الكوفية الفلسطينية، ولا يُخفي تعاطفه مع حركات الإسلام السياسي. ففي تغريدة له خلال الحرب الإيرانية الإسرائيلية، كتب: “ماذا لو علمت إسرائيل أن إيران تقوم بتخصيب اليورانيوم في دولة أخرى؟.”
ويقول أمين دائرة الإعلام بحزب الأمة إن وجود المصباح في القاهرة للأسبوع الثالث يكشف التناقض الفادح في خطاب دعاة الحرب؛ ففي الوقت الذي يطالبون فيه السودانيين بالعودة لجبهات القتال، يحرصون على بقاء أسرهم في أمان.
ويُسلط المعز حضرة الضوء على هذه المفارقة اللا أخلاقية قائلاً لـ”أفق جديد”: “ظهور المصباح وسط أسرته في القاهرة بينما يدعو لاستمرار الحرب هو تأكيد لما نقوله دومًا: أمراء الحرب آمنون، بينما الفقراء يُحرقون”. ويضيف الناشط صديق أبو عوف: “بينما يُلاعب الإرهابي المصباح طلحة طفله في فيديو على صفحته بـفيسبوك ويكتب (لأجلك سأقاوم العالم كله)، كانت مواقع التواصل تضج بصورة طفلة انفصلت عن أسرتها في طريقهم إلى ليبيا وعُثر عليها بالكفرة. قائد لواء البراء لا يشعر بهذه الطفلة أو بمعاناة أهلها. هو يريد المزيد من الشتات لأطفال الآخرين، بينما أطفاله في حضن القاهرة محميون، وهو الذي كان يرفع شعار رابعة العدوية فوق رؤوس قادة القوى السياسية”.
أسئلة مؤجلة
الجرائم موثقة. الجناة معروفون. الشهادات جاهزة.
فلماذا تتأخر العدالة؟
هل تحوّل السودان إلى ساحة تجريب للقتل العقائدي؟
هل تُترك مجازر كتيبة البراء لتُنسى كما نُسيت قبورها؟
أم يتحرّك العالم هذه المرة.. لا بالكلمات، بل بالعدالة؟
لأن صورة المصباح على أريكته ليست مجرد صورة.
إنها عنوان لبلد يُذبح، بينما القاتل يرتب وسادته للنوم.