تعثّر ميلاد “حكومة بورتسودان”

صراع الأفيال والظلال

 

أفق جديد

في كواليس فندق “كورال” ببورتسودان، تتردّد الهمسات أكثر من التصريحات، وتُحاك التحالفات كأنها خيوط دخان لا تُرى بالعين المجرّدة. “حكومة بورتسودان”، التي أرادها البعض إعلانًا رسميًا لنهاية المركز وبداية لعهد جديد، باتت تتشكّل تحت ضغط القواعد، وانفراط الولاءات، وظهور شخصيات لا تاريخ مكتوب لها، كأنها خرجت من جوف الرمال.

وسط هذه الأجواء، تبرز شخصية نور الدائم طه، بوصفه العثرة الأكثر تعقيدًا في درب التشكيل الوزاري. فحين طُرح اسمه لتولي وزارة المعادن، لم تكن الاعتراضات صريحة، لكن الوجوه تغيّرت، وتحرك الهواء في الغرف المغلقة.

“لا أحد يعرف متى وأين وُلد”، كتب عنه الصحفي عبد الجليل سليمان، مضيفًا: “هو من أولئك الذين إذا نُطق اسمهم، ومضت صورة الذهب في الخيال. لا لأنه يسرقه، بل لأنه يعرف مكانه قبل أن تُرسم الخرائط”.

هو رجل يبدو كأنه استُدعي من صحائف غامضة، يحضر على موائد التفاوض حين تفشل الكلمات، ويغيب حين تشتدّ الحاجة إلى الوضوح.

لكن ما كان يُعتبر “كاريزما غامضة” تحوّل فجأة إلى عبء سياسي. فالمعلومات المسرّبة عن عدم اجتيازه الفحص الأمني، بسبب زيارته المفترضة لإسرائيل وتورّطه في ملفات فساد قديمة، فجّرت أسئلة محرجة: من رشّحه؟ ومن يُصر عليه؟ ولماذا تصرّ “حركة تحرير السودان” بقيادة مني أركو مناوي على التمسّك به، رغم الإشارات الصريحة من شركائها بأن استمراره سيعني نسف التوافق الهشّ؟

شدّ الحزية

في رد بدا أشبه برمية في خاصرة الخصوم، سخر مصدر نافذ في حركة تحرير السودان من الربط بين زيارة إسرائيل وعدم اجتياز الفحص الأمني، قائلًا: “إذا كانت تل أبيب مشكلة، فالفريق الغالي والفريق ميرغني إدريس، عاملين الدرب ليها ساساقة رايج جاي”.

العبارة كانت أكثر من مجرد تندّر، بل إشارة إلى أن “الحظوة” ليست حكرًا على من يُمسكون بوثائق الغير، وإنما أيضًا على من يعرفون خيوط اللعبة ومن يحركونها في العتمة.

أما مساعد رئيس الحركة ووزير المعادن المفترض أن يخلفه نور الدائم على مقعده محمد بشير أبو نمو، فلم يُخفِ ضيقه من الجدل، مؤكداً بلهجة قاطعة “أن سلطة الترشيح لأي حصة فى الحكومة هى من صلاحية مؤسسات الحركة – أو هكذا يجب أن تكون حسب النظام الأساسي – ويبتدرها رئيس الحركة”. وقال في بيان نشره على حسابه في فيسبوك، إن هنالك لغطًا كثيفًا فى الميديا خلال اليومين الماضيين عن تعيين وزير المعادن، عن حصة حركة تحرير السودان بقيادة مناوي، كاشفًا أن رئيس الحركة أبلغه بأنه لن يتولى منصب وزير المعادن في الحكومة الجديدة، وأن نور الدائم هو من سيخلفه في الموقع، واتهم أبو نمو في بيانه جهات لم يسمها تسعى إلى ربط اسمه بما أسماه اللغط الدائر، في إشارة الى عدم اجتياز خليفته للفحص الأمني.

معركة المعادن: أكثر من حقيبة

ويقول المهندس صديق عبد الرحمن لـ” أفق جديد”: وزارة المعادن ليست مجرّد مقعد وزاري، بل أحد مفاتيح الثروة والسيطرة في واقع سوداني تتداخل فيه الجغرافيا بالمال، والجيولوجيا بالولاء. ويضيف: من هنا، فإن تمسّك حركة تحرير السودان بنور الدائم، بدا للآخرين وكأنه رسالة تتجاوز التعيين، إلى ترسيم حدود النفوذ داخل الحكومة المرتقبة .

ويمضي عبد الرحمن، وهو من شغل في وقت سابق منصب رفيع في وزارة المعادن،   مؤكدًا أن البيان الذي أصدرته الحركة، ووصفت فيه مرشحها بأنه “الخيار الوحيد”، وضع رئيس الوزراء المكلف في معادلة صعبة القبول، يعني ابتلاع الطعم والرفض يهدد بانسلاخ الحركة من تحالف الكرامة، وربما تقويض المشروع من أساسه.

حكومة شدّ الحبل

منذ أن فُتح باب التشاور حول تشكيل الحكومة، برزت على السطح تناقضات لا تُدار في العلن، طرف يتمسّك بالمحاصصة المباشرة، وطرف آخر يدفع نحو تكنوقراط بمواصفات سياسية، وثالث يُدير معركته من الخلف، عبر الإعلام والتسريبات. ومع غياب مرجعية واضحة تضبط ميزان القوى بين الموقعين على “إعلان بورتسودان” وتحالف “الكرامة”، بدا واضحًا أن كل فصيل يسعى لحجز موقع متقدم قبل أن تُعلن خارطة الطريق، في هذا السياق أصبحت المعركة ليست فقط حول من يحكم؟ بل كيف يُدار الحكم؟ وهل هو امتداد لسلطة طارئة تستقوي بالسلاح؟ أم مقدمة لتحول سياسي حقيقي يتجاوز الشعارات؟

رئيس الوزراء في الزاوية

وبحسب مراقبين تمسك حركة تحرير السودان بمرشحها لوزارة المعادن وضع رئيس الوزراء – المعين حديثًا – نفسه بين سندان إصرار الحركة ومطرقة رفض من يديرون المشهد خلف الكواليس، فتمرير شخصية عليها ملاحظات أمنية ومالية قد يُقوّض مصداقية الحكومة قبل ميلادها، لكن رفضه قد يفجّر أزمة داخلية لا تحتملها بنية السلطة الهشة.

في النهاية، فإن مشهد “بورتسودان” اليوم لا يختلف كثيرًا عن مشاهد الخرطوم في آواخر عهد حكومة  الرئيس المعزول عمر البشير الأكثر ضبابية: صراع مراكز، تغوّل مصالح، غموض في السيرة، مضاف إليه استقطاب حاد بين من يملكون السلاح ومن يملكون القلم.

نهايات مفتوحة

قد تولد حكومة بورتسودان خلال أيام، أو تنهار الفكرة برمتها تحت وطأة خلافات النخب، لكن ما هو واضح وفقًا لمصادر استنطقتها “أفق جديد” أن سياسة شدّ الحبل، أو “شدّ الحزية”، باتت هي السمة الغالبة، وأن النيات وحدها لا تكفي لبناء سلطة تُقنع الداخل، وتلقى القبول الخارجي، غير إن ذات المصادر تقول في ظل هذا المشهد المتداخل، بين المصالح السياسية، والضغوط الأمنية، والانقسامات داخل التحالفات، لا يبدو أن ولادة “حكومة بورتسودان” ستكون سهلة أو محكومة بتفاهمات مستقرة. فكل طرف يسعى لتعزيز موقعه ضمن سلطة تتشكل في ظروف استثنائية، وسط غياب مرجعيات واضحة لإدارة الخلاف، وتنامي مؤشرات التصدع داخل الكتلة التي تقود مشروع “الكرامة.

وتعتبر المصادر أن ترشيح نور الدائم طه، ورفضه  ليس مجرد خلاف على اسم، بل يعكس حجم التباعد بين الفاعلين المدنيين والمسلحين، ويؤشر إلى معركة أكبر حول من يملك القرار داخل الحكومة المرتقبة. فبين من يتمسكون بالمحاصصة الصارمة، ومن يدفعون نحو التكنوقراط، ومن يتحركون في الخفاء لتأمين مكاسب مستقبلية، تصبح الحكومة القادمة – إن تشكّلت – ناتجة عن توازن هشّ أكثر منها استجابة فعلية لمتطلبات المرحلة.

وفي الوقت الذي ينشغل فيه الفرقاء بتوزيع الحقائب وتثبيت النفوذ في بورتسودان، تتعمق الفجوة بين المركز الجديد والواقع الإنساني في أطراف السودان. ففي دارفور وكردفان، لا تزال الحرب تسير بإيقاعها الثقيل، حاصدةً أرواح المدنيين ومُمزقةً للنسيج الاجتماعي، في مشهد موازٍ يعكس التناقض المؤلم بين معارك الكراسي الدائرة في القاعات، والموت العاري في الشوارع الترابية البعيدة.

إن تشكيل الحكومة وحده، لا يكفي لتثبيت سلطة ولا لتصحيح مسار. والمراهنة على الوقت أو الإنهاك قد تمنح بعض الأطراف مكاسب آنية، لكنها لن تُنتج حلاً سياسيًا دائمًا، ما لم يُربط تشكيل السلطة بمشروع حقيقي لإعادة بناء الدولة، يكون فيه المواطن، لا الموقع، هو نقطة البداية والنهاية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى