السودان بين صراع البندقية وعجز السياسة

حلقة نقاش

في خضمّ الحرب السودانية المستعرة، طرحت  “أفق جديد” نقاشًا مفتوحًا بين ممثلي تحالفي “صمود” و”تأسيس” حول مصير الوطن بين فكي السلاح والعجز السياسي، تخلّف ممثل كتلة بورتسودان عن الحضور، بينما دار النقاش بين رؤيتين مدنيتين حاولتا فهم جذور الأزمة العميقة، التي تعود لانقلاب 25 أكتوبر 2021 .

القانوني إسماعيل التاج أكد أن السودان يواجه كارثة إنسانية، مشيرًا إلى أن أكثر من 20 مليون سوداني باتوا نازحين أو لاجئين، في ظل عجز دولي عن التدخل الفاعل. واعتبر أن الصراع المسلح ناتج عن طموحات السلطة لدى العسكريين وتكرار فشل التحالفات المدنية بسبب احتكار القرار وغياب الشجاعة السياسية.

رأى شهاب إبراهيم، ممثل “صمود”،  أن الحرب امتحان لوحدة السودانيين، ناتجة عن أزمات متجذرة في توزيع السلطة والثروة، ودعا لتنسيق جهود القوى المدنية لبناء دبلوماسية موازية تضغط لوقف الحرب. 

شدد مناضل الطيب من “تأسيس”، على خطورة البعد الإثني للحرب الحالية، محذرًا من دخول البلاد في مرحلة أكثر كارثية إذا لم تتدارك القوى المدنية الموقف بحوار جاد وبناء شراكة سياسية حقيقية.

 

ليس مجرد نقاش بل بحث عن وطن يتداعى 

                          السودان بين صراع البندقية وعجز السياسة.. محاولة أخيرة لفهم ما تبقى     

في لحظة هي من أشد اللحظات قسوة في تاريخ السودان الحديث، بدا الوطن معلقًا على حافة جرحٍ مفتوح، يتنازعه طرفان يتخندق كل منهما في زاوية الدم والسلاح، بين من يعسكرون في بورتسودان ويشدّون على قبضة السلطة، ومن يملؤون الساحات في نيالا مدججين بالغضب والرصاص. كلاهما يشحذ بندقيته كأن الزمن لا يتّسع إلا للبارود، وكأن الخرطوم لا تعود إلا بانتصارٍ من طرف على آخر. وبين هذا وذاك، تقف كتلة وسط، تتقاذفها الأمواج من كل صوب، وتلاحقها الطعنات من الخلف، كتلة مدنية مأزومة بين المبادئ والتكتيك، بين وجع الواقع واستحقاق التاريخ، لا سند لها سوى إرادة باهتة، وأمل متعب، وشرعية تذبل تحت رماد القصف وصمت العالم.

هنا، حيث تتكسر الكلمات على جدران الخراب، وتتشظى المعاني تحت أقدام العسكر وداخل دهاليز التحالفات المرتبكة، تطرح القوى المدنية على نفسها السؤال الأخطر: هل لا يزال لنا مكان على الطاولة، أم أننا صرنا شهودًا على ما تبقى من بلدٍ يتفتت في الأفق؟ هل نستطيع أن نبني كتلة وطنية قادرة على حمل مشروع الدولة، أم أن التيه سيظل مصيرنا كلما لاح في الأفق مخرج؟

في هذا السياق المحتدم، حاولت مجلة (أفق جديد) أن تجمع الكتل الثلاثة الأكثر تأثيرًا في المشهد السوداني المتشظي: بورتسودان وتأسيس وصمود، على طاولة نقاش واحدة، لا للتوفيق بين المواقف، بل لطرح الأسئلة المعلّقة بصراحة وجرأة: ما مصير هذه التكتلات؟ وما مصير الوطن بين أيديها؟ لكن رغم سعي المجلة لتوسيع دائرة النقاش، اعتذر ممثل كتلة بورتسودان عن المشاركة في اللحظات الأخيرة، بينما لبّت كل من “صمود” و”تأسيس” الدعوة، وحضرتا بكامل وضوحهما وتباينهما، فكان أن دار النقاش بين رؤيتين متخالفتين، يجمعهما إدراك عميق لخطورة المرحلة، ويباعد بينهما التقدير السياسي لطبيعة الطريق.

هكذا انطلقت هذه الحلقة لا كتسجيل موقف، بل كمحاولة لالتقاط ما تبقى من أمل، أو على الأقل فهم هذا الانهيار وهو يتكشّف أمام أعيننا… علّ في الوضوح بداية نجاة..

أديس ابابا، القاهرة – أفق جديد

في مستهل حلقة النقاش، ابتدر القانوني والقيادي في تجمع المهنيين السودانيين، مولانا إسماعيل التاج، مداخلته بالتعبير عن تقديره لفريق “أفق جديد” ، واصفًا المبادرة بأنها “بادرة حسنة وجيدة جدًا”. وافتتح حديثه بالترحم على أرواح الشهداء، سواءً شهداء ثورة ديسمبر المجيدة، أو من سبقوهم، بالإضافة إلى ضحايا الحرب الجارية، والتي وصفها بـ”اللعينة”.”

وانتقل التاج لتشخيص الوضع الراهن في السودان، مؤكدًا أن البلاد ليست فقط في مفترق طرق، بل إنها تعيش كارثة حقيقية بعد مضي ما يقرب من 27 شهراً على الحرب. ومضى قائلاً: نجد أنفسنا لسنا في مفترق طرق وحسب، وإنما في كارثة حقيقية، وما زالت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، بالنسبة للمدنيين والناس الذين وجدوا أنفسهم في أوضاع هشّة وفي ظروف صعبة، ويدفعون الثمن غاليًا جدًا. وأعتقد أن الإحصائيات مؤلمة إذا ذهبنا في اتجاه الكلفة الإنسانية الرهيبة؛ إذ إن أكثر من 20 مليون سوداني ما بين نازح ولاجئ، مع عدم قدرة جميع الأطراف، بما فيها الأطراف الدولية، على إيصال المساعدات الإنسانية لمستحقيها.

 ومضي التاج إلى القول إن التسرب من المدارس كارثة كبيرة، ونحن الآن أمام كارثة إنسانية تعليمية كبيرة جدًا في كل السودان. هذه الحصيلة وحدها تتحدث عن نفسها، ولكن في الوقت نفسه تبرز الأسئلة، ليس حول القدرة على إيقاف الحرب فقط، وإنما أيضًا حول القدرة على خلق واقع سوداني جديد، وعلى إيجاد قيم جديدة.

وبحسب التاج أن  الأسباب التي قادت السودان إلى هذه المرحلة التعيسة والسيئة _ على حد وصفه- كثيرة جدًا، ويقف على رأسها الطموحات السياسية والأمنية بكافة أشكالها، التي وضعت المتاريس أمام أي تحول مدني ديمقراطي، إضافة إلى الاستعداء المحكم بين القوى العسكرية والأمنية من جهة، والقوى المدنية من جهة أخرى. وهذه الظاهرة كان يجب الانتباه إليها مبكرًا، وكل الأسباب التي قادتنا إلى هذه المرحلة المؤلمة تبدأ من انقلاب 25 أكتوبر 2021، والطموحات العسكرية والأمنية في أن تحكم السودان بصورة أو بأخرى، حفاظًا على مكتسبات، بالتأكيد هي مكتسبات غير مشروعة منذ بدايات تأسيس الجيش السوداني. والآن نحن أمام هذا السيناريو المؤلم، وبعد ما يقارب 27 شهرًا، فإن الجمود يحيط بكل العملية السياسية في السودان.

ويضيف أعزو ذلك إلى عدة أسباب: أولاً، عدم قدرة القوى السياسية على التصالح مع نفسها؛ فقد شهدنا خلال فترة الحرية والتغيير العديد من المشاكل التي لم يتم التوصل فيها لحلول لتقوية منظومة الحرية والتغيير، بل كانت تزداد ضعفًا يومًا بعد يوم أضف إلى ذلك اتفاق سلام جوبا، الذي كان واجبًا لا بد منه في ظل معطيات ثورة ديسمبر المجيدة، التي تدعو إلى الحرية والسلام والعدالة. وكان لا بد من الوصول إلى صيغة محددة لعملية السلام، ويردف التاج: “كل الأدبيات في اتفاق جوبا لسلام السودان تشير إلى أهمية التداول السلمي للسلطة، وتشير إلى أن كل المكونات التي تحمل السلاح يجب أن تصير جزءًا من العملية السياسية ومن التحول المدني الديمقراطي لكن، للأسف، شهدنا أن مجموعة سلام جوبا دخلت في مؤامرة ضد الثورة، مع المكوّن العسكري والأمني في مواجهة القوى المدنية”. ويمضي متحسرا ” في تلك اللحظة التي دعت فيها أطراف سلام جوبا إلى تقويض الفترة الانتقالية، هنا انتهت عملية سلام جوبا، ميكانيكيًا وإكلينيكيًا وروحيًا، بكل ما تحمل الكلمة من معنى؛ لأن الأساس هو أن يتم التحول المدني الديمقراطي، وأن تساعد عملية السلام في إبعاد السلاح والحركات المسلحة والقوات المسلحة من العملية السياسية، والانخراط في عملية انتقال مدني تؤدي إلى انتخابات مدنية، وإلى أن يكون هناك تحول مدني وتحول سلمي للسلطة”. وهذه أسباب  بحسب التاج ساهمت في الوصول إلى المرحلة الحالية، إضافة إلى الانتهاكات الجسيمة التي صاحبت فض الاعتصام أمام القيادة العامة، والانتهاكات التي صاحبت انقلاب 25 أكتوبر، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي صاحبت حرب 15 أبريل 2023

تراجع الصوت المدني:

ويضيف التاج مشرحا الواقع الماثل ويبدأ بسؤال “أين الآن القوى السياسية في ظل المنظومات الثلاثة التي ذكرتها،(بورتسودان، تأسيس، وصمود)”. ويجيب على تساؤله قائلا:  فعلاً هناك تراجع كبير للمد المدني، حيث الوجود المدني و من حيث القوى المدنية الدافعة التي شهدناها إبان ثورة ديسمبر المجيدة، تراجعت القوى السياسية المدنية بصورة كبيرة. وأتفق معك في هذا التحليل؛ فهذا التراجع مريع ومخيف، ويذكرني بالتراجع المريع في المواجهة “العربية الإسرائيلية”، في جبهة الصمود والتحدي، من جبهة المواجهة إلى الاتفاق الإبراهيمي، وكل يوم تفقد القوى السياسية  المزيد من ذلك الزخم

ويضيف كانت الفرصة مواتية في مايو 2024، في إطار المؤتمر التأسيسي لتحالف “تقدّم”، وكانت هذه فرصة مواتية حقيقية، لكن تمت إضاعتها بنفس الأساليب التي أضاعت الفترة الانتقالية، وهي واحدة من مساوئ القوى السياسية. وكانت هذه فرصة حقيقية لأن يكون هذا المؤتمر التأسيسي مؤتمرًا جامعًا لكل القوى السياسية، والقوى المدنية، والقوى النقابية، والحركية، لتضع تصورًا جديدًا. لكن، شهدنا أن المؤتمر كان عبارة عن عملية “تكويش” لأحزاب محددة، لذلك كانت المحصلة النهائية ليست في صالح التحول المدني الديمقراطي أو استعادة النظام الديمقراطي.

ويمضي الى القول أدلل على ذلك بأننا في “تقدّم” فشلنا في تكوين أي جسم لـ”تقدّم”، ناهيك عن الداخل بسبب الصعوبات اللوجستية، وحتى في الخارج – على إطار أوروبا وأمريكا وأستراليا وأفريقيا – فشلنا في تحفيز أو تحريك القواعد. وبعد ذلك جاءت المفاصلة بين من يرون ضرورة تشكيل حكومة، والرفضين لهذا التوجه، انقسمت “تقدّم”، وبالتالي تراجعت القوى المدنية وأصبحت تعمل بنصف ماكينة. وهذه إشكالية حقيقية، وعلى القوى السياسية أن تكون أمينة مع نفسها، وتجري تقييمًا حقيقيًا، وترى كيفية جمع وحشد القوى السياسية المدنية من جديد، بدون محاولة سيطرة من أي فئة أو جهة. ويضيف بأسى واضح: بدايات “تقدّم” نعم كانت صعبة جدًا، وجاءت نتيجة لولادة متعسرة، ولكنها كانت مبشرة بصورة كبيرة جدًا، غير انها فرصة ضاعت..

الآن هناك كتلتان مدنيتان تستندان على بندقية : واحدة في بورتسودان، والأخرى “تأسيس”. صحيح أن الرهان على التحول المدني الديمقراطي، ولكن علينا أن نستعيد تجربة التجمع المدني الديمقراطي، والانتفاضة المحمية بالسلاح، وانخراط أجسام ثورية حملت السلاح في التجمع الوطني الديمقراطي بهدف إسقاط نظام المؤتمر الوطني.

صحيح، جرت مياه كثيرة تحت هذه المسلمات التي أتى بها التجمع الوطني الديمقراطي في ذلك الوقت، لكن الآن: هل تستطيع القوى المدنية لوحدها أن تستعيد التحول المدني الديمقراطي في ظل عدم الاهتمام الإقليمي والدولي الحقيقي بالسودان؟ لأن هناك أولويات أخرى: الحرب الأوكرانية – الروسية، غزة – إسرائيل، إيران، إلى آخره

إضافة إلى ذلك، هناك قوى داخل المنظومة الأفريقية، في الاتحاد الأفريقي، تسعى إلى أن يستعيد السودان مقعده بأي صورة من الصور، وهنا لا بد من تضافر الجهود لوقف مثل هذه التوجهات، باعتبار أن الانقلاب ما يزال مستمرًا، والسودان ليس فيه حكومة ذات مشروعية. وهذا يقود إلى سؤال: من يملك المشروعية؟ وهي واحدة من الأشياء التي تحتاج من القوى المدنية أن تعمل بقوة لإيقاف مثل هذا التوجه من داخل المنظومة الأفريقية نفسها.

أما العلاقات مع دول الجوار، بالنسبة للقوى المدنية السياسية، فهي في أضعف حالاتها، بدليل ما نشاهده الآن من حالات المعاناة التي يعاني منها السودان في دول الجوار، وذلك نتيجة لغياب الدور السياسي للمعارضة السودانية، والقوى المدنية السياسية، في أن تلعب دورها الأساسي في تلك المسألة إضافة إلى ذلك، بدأ يظهر دور جديد بظهور تحالف “تأسيس” كقوة حاملة للسلاح، ولديها تأثيرها الإقليمي، وحتى إذا نظرنا إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، لوحدها، يمكن أن نرى الفارق الكبير.

وهناك قضايا أخرى مثل أن القوى السياسية المدنية لم تخرج من الشرك الذي وقعت فيه، وهي قضايا المؤتمر الدستوري، وعلاقة الدين بالدولة، وهي الآن أصبحت من الترف السياسي في ظل الحرب الحالية، وفي ظل وجود قوى سياسية تجاوزت تلك المحطة.

نزاعات مستمرة

وبدوره يرى الناطق الرسمي باسم التحالف السوداني عضو قيادة  تحالف القوى المدنية الثورية ” صمود” شهاب إبراهيم الطيب إفادة الناطق الرسمي باسم التحالف السوداني وعضو قيادة “صمود” شهاب إبراهيم الطيب أن الحرب في ذاتها تُعدّ اختباراً للسودانيين كافة، واختباراً حقيقياً لقدرتهم على البقاء موحدين، كما أنها تمثل امتحاناً لمدى قدرة السودانيين على معالجة المشكلات التاريخية المتراكمة. فهذه المشكلات ليست مجرد مظاهر سطحية، وإنما هي أزمات عميقة الجذور أسهمت في خلق بيئة من النزاعات المستمرة منذ نشأة الدولة السودانية

وفي ضوء ذلك، فإن ما يشهده السودان حالياً من حرب ليس أمراً طارئاً، طبقا لشهاب بل هو نتيجة لتراكمات طويلة الأمد من الأزمات الاجتماعية المرتبطة بتوزيع الثروة، وطبيعة الممارسة السياسية، وشكل الأنظمة الحاكمة في البلاد. وقد انعكست هذه الإشكالات في شكل تحديات متزايدة تواجه القوى المدنية بمختلف أشكالها، سواء كانت أحزاباً سياسية أو حركات مطلبية، مثل مؤتمر البجا وغيره من الحركات التي نشأت لأغراض مطلبية محددة.

وبعيداً عن الخوض في التاريخ الطويل للقوى المدنية، يرى شهاب أن هناك تحديات مزمنة واجهت هذه القوى، لا سيما بعد اندلاع الحرب. ومن أبرز هذه التحديات هو التباين بين القوى المدنية بشأن القضايا المرحلية، وليس الاستراتيجية. فعند النظر إلى أغلب الحلول المطروحة لفترة ما بعد الحرب ومسألة بناء الدولة، نجد أن التباين قائم في قضايا البناء الوطني. ورغم هذا التباين، فإن الحوار يمكن أن يقود إلى نقاط التقاء وحلول مشتركة، إلا أن الإشكالية الأساسية التي واجهت تحالف “تقدم” تمثّلت في الانقسام بين القوى المدنية بشأن موقفها من الحرب، ووسائل إيقافها.

وقد اختلفت الآراء بين من يرى أن الحل يكمن في تحركات جماهيرية تخلق رأياً عاماً يعزل الأطراف المتحاربة ويمنعها من الاستمرار، وبين من يعتقد أن هناك ضرورة للعمل ضمن أطر سياسية تقليدية. وهذا التباين مثّل تحدياً كبيراً، خصوصاً في ظل الانقسام الاجتماعي والسياسي العميق حيال الموقف من الحرب.

وفي حقيقة الأمر، فإن الخلاف حول وسائل إيقاف الحرب كان قائماً حتى قبل المؤتمر التأسيسي للقوى المدنية، ولم يحظَ هذا الملف بنقاش كافٍ بين مكوناتها. وهذا ليس مستغرباً، لكنه يُعد من أكبر الإشكالات التي لم تُطرح بعمق، رغم كونها عنصراً أساسياً في أي مشروع لتوحيد الجبهة المدنية. وبالإضافة إلى هذه النقطة، فإن هناك إشكالات بنيوية تعاني منها البنية التنظيمية للتحالفات السياسية، بدءاً من الجبهة المدنية مروراً باللجنة التحضيرية لتحالف “تقدم”، فضلاً عن الممارسات السياسية التي تعكس أزمة أعمق في المشهد السوداني. وهذه الأمور، وإن لم تكن محل النقاش الأساسي حالياً، فإنها تبقى نقاطاً محورية تستحق البحث المستفيض، خصوصاً ما يتعلق منها بالممارسة التنظيمية وآليات اتخاذ القرار داخل الكيانات المدنية، سواء كانت أحزاباً أو منظمات مجتمع مدني.

مواجهة الجدار

من جانب آخر، يوضح شهاب أن من بين أبرز التحديات التي تواجه تحالف “صمود” والقوى المدنية عموماً، هو ما يتعلق بسيناريوهات الحرب. فطبيعة هذه الحرب، وتحولاتها الكبرى، تشكّل إشكالاً بالغ التعقيد أمام القوى المدنية، لا سيما أن السيناريوهات تُرسم من قبل الأطراف المتحاربة – سواء الجيش أو قوات الدعم السريع أو الجماعات التي انضمت إليهما – وكل طرف لديه أهدافه التي يسعى لتحقيقها. وبالتالي، فإن القوى المدنية تجد نفسها في مواجهة جدار صلب يتمثل في إصرار هذه الأطراف على تنفيذ أجنداتها العسكرية.

وقد قدّمت القوى المدنية محاولات عديدة لوقف هذا المسار، منها الاتفاق مع الدعم السريع في أديس أبابا، أو إعلان المبادئ الذي وُقّع مع ذات الطرف وكان من المفترض أن ينضم إليه الجيش. هذا الإعلان، وإن لم ينجح في تحقيق وقف شامل للحرب، فقد كان يمثل الحد الأدنى من الالتزام الأخلاقي تجاه المدنيين، ويفتح نافذة لنقاش مستقبلي حول السلام، لكنه واجه رفضاً من الجيش، الذي تعامل مع الموضوع وفق أهدافه المعلنة، مدعوماً بالقوى الإسلامية المتحالفة معه.

كذلك، يُشير شهاب إلى أن هناك تراجعاً ملحوظاً من قبل الدعم السريع في الالتزام بإعلان المبادئ الإنساني، خاصة في ما يتعلق بحماية المدنيين في مناطق عدة، وهو ما شكّل تحدياً كبيراً آخر أمام القوى المدنية. وعلى الرغم من الدعوات المتكررة من قبل هذه القوى للجلوس مع الأطراف المتحاربة لمناقشة سبل إنهاء الحرب، فإنها واجهت عقبات بسبب ثبات تلك الأطراف على رؤاها وأهدافها.

ويُضاف إلى هذه التعقيدات، وفقا لشهاب أن الحرب لم تعد مجرد صراع داخلي، بل تمرحلت وأصبحت لها أبعاد إقليمية خطيرة. فالصراع الحالي، بحسب شهاب، بدأ من إشعال الإسلاميين له، واستدراج الدعم السريع لخوض المعركة، في إطار استراتيجية قديمة تهدف إلى خلق عدو مشترك لتعبئة الشارع السوداني. وهي ذات الاستراتيجية التي اتُبعت خلال حرب الجنوب، ثم في دارفور، عندما استُعيض عن الدفاع الشعبي بقوات أخرى تحت مسميات مختلفة لمواجهة الحركات المسلحة.

ومع تحوّل الدعم السريع من أداة لمحاربة الحركات المسلحة في دارفور إلى خصم للجيش، فإننا نشهد الآن صراعاً معقداً له أطراف داخلية مسلحة، في مقابل قوى مدنية لا تمتلك الوسائل العسكرية. وقد أضحت الحرب ذات أبعاد إقليمية واسعة، نظراً للترابطات الاجتماعية والسياسية للسودان مع دول الجوار، إضافة إلى التدخلات السودانية السابقة في ليبيا، تشاد، إفريقيا الوسطى، جنوب السودان، وإثيوبيا، وكذلك الدعم السابق للإخوان المسلمين في مصر.

ويحذر شهاب من أن استمرار هيمنة الإسلاميين على الجيش دون وجود حل لعزلهم من التأثير سيعقّد مسألة بناء جيش وطني محترف، خصوصاً في ظل التسارع الإقليمي والدولي. فالحرب في السودان ترتبط الآن بصراعات تتجاوز حدود الجوار، مثل علاقة الإسلاميين بحركة “حماس”، ودولة إيران، وجماعة الحوثي في اليمن. وهذه العلاقات تُظهر بوضوح أن الإسلاميين لديهم امتدادات وتحالفات دولية، وهناك دول تعتبرهم شركاء يمكن الوصول إلى تفاهمات معهم، ما يضفي على وجودهم نوعاً من الشرعية الزائفة.

ويرى شهاب أن المؤسسات السودانية الآن باتت منهارة بالكامل، والوضع لم يعد يحتمل أي تبسيط من قبل الدول الإقليمية والدولية، بل إن تركيز هذه الدول على دعم مؤسسات الدولة، في ظل اختراقها من قبل الإسلاميين، سيؤدي إلى تعقيد الوضع أكثر، ويكرّس حالة التشظي والانهيار التي يمر بها السودان. ويحذر من أن ما يحدث في السودان اليوم قد ينعكس سلباً على سبع دول مجاورة، ما ينذر بخطر يهدد استقرار منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر بأكملها.

مخاطر الاسلاميين

ومن أبرز المخاطر، أن الإسلاميين لن يتخلوا عن طموحاتهم في استعادة السيطرة، إذ إن السودان في عهدهم أصبح نقطة انطلاق لإعادة تنظيم الإسلاميين في الإقليم، كما حدث سابقاً عندما استضافوا شخصيات مثل بن لادن وكارلوس ونبيل نعيم. وهذا ما يجعل الصراع الحالي خطيراً للغاية، ليس فقط على السودان، بل على كامل المنطقة.

ويؤكد شهاب أن ما نشهده حالياً هو انتقال إلى مرحلة جديدة من الصراع، وهي مرحلة “صراع الشرعية”، في ظل سعي الإسلاميين لتشكيل حكومة “تأسيس” مقابل حكومة أخرى تُعتبر فاقدة للشرعية. وفي هذا السياق، يشير إلى أن الوثيقة الدستورية، التي مثّلت النظام التوافقي الدستوري، انتهت فعلياً بانقلاب 25 أكتوبر 2021، مما فتح الباب واسعاً أمام الانهيار والدخول في دوامة الحرب.

ويعتقد شهاب أنه كان من الممكن تفادي هذا الانهيار لو أُتيحت الفرصة لنقاش موسّع بين القوى المدنية، بدلاً من الدخول في صراعات حول تشكيل حكومة منفى، وهي الفكرة التي طرحتها الجبهة الثورية. وقد أدى التسرّع في اتخاذ القرار إلى انقسام داخل “تقدم” بين من يؤيد تشكيل الحكومة في مناطق سيطرة الدعم السريع، ومن يرفض ذلك، وهو ما جعل الفكرة تنحرف عن مسارها وتتحول إلى صراع سياسي داخلي.

في هذا الإطار، يشير شهاب إلى أن ضعف الإرادة السياسية للحوار المدني-المدني، أو حتى لوقف الحرب، قد ساهم في تعميق التدهور، ما يتطلب تدارك الوضع والعمل على بناء جبهة مدنية قوية وموحدة.

ويؤكد أن أفق الحل يكمن في تحرك القوى المدنية على أساس من التنسيق المشترك، واعتبار أن قرار إيقاف الحرب لم يعد بيد السودانيين وحدهم، بل أصبح مرهوناً بمواقف مؤسسات إقليمية مثل الاتحاد الإفريقي، الذي أعلن دعمه لموقف الأمم المتحدة من خلال مبعوثها رمطان لعمامرة. هذا الانحياز، رغم دوافعه، يؤدي إلى تعميق الصراع، خصوصاً أن الدعم السريع له أيضاً حلفاء داخل الاتحاد الإفريقي، مثل كينيا وأوغندا، الأمر الذي يُنذر بتحوّل الخلاف إلى صراع داخل تلك المؤسسات.

ويختم شهاب حديثه بالتأكيد على أن هذه التشابكات يمكن أن تؤدي إلى انفجار أزمات جديدة في القرن الإفريقي، وبالتالي فإن الحل يكمن في بناء تحالف دولي واسع لدعم جهود وقف الحرب، مع ضرورة تنسيق جهود القوى المدنية، داخل “صمود” وخارجها، للضغط نحو وقف الحرب.

كما يدعو إلى إيجاد تنسيق بين هذه القوى، وبين قوى أخرى كحزب البعث، وجيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، والمؤتمر الشعبي، من أجل صناعة دبلوماسية موازية مع المنظمات الدولية، تعالج قضايا حيوية مثل حماية المدنيين، وتقديم الخدمات الأساسية بالتساوي، لتجنّب خلق فجوات جديدة قد تعيد إنتاج الصراع.

وأخيراً، يشدّد شهاب على أن أي وساطة إقليمية أو دولية لا تتضمّن مشاركة حقيقية للسودانيين ستنتج اتفاقاً هشّاً، كما حدث في اتفاق 2005، ولن تؤدي إلى إنهاء الحرب فعلياً، بل ستؤسس لجولات جديدة من الصراع أشدّ خطورة وضراوة.

مراهقة سياسية: 

 وفي الجانب الآخر يرى عضو الحركة الشعبية شمال _ جناح الحلو_ العضو في تحالف تأسيس مناضل الطيب أن النظر إلى هذه الحرب بمعزل عن التاريخ الطويل للدولة السودانية، هو ما أوقع الكثير من القوى السياسية في فخ خطير. فمنذ عام 1955، والسودان يخوض حروبًا متتالية، غير أن تلك الحروب، تاريخيًا، لم تكن ذات طابع إثني. إلا أن ما يجعل الحرب الحالية في غاية الخطورة، حسب رأيه، هو اقترانها بالإثنيات المكوّنة لأطراف النزاع، وهي نقطة بالغة الحساسية

ويؤكد أن تعاطي القوى السياسية مع هذه الحرب اتّسم بما يمكن وصفه بـ”المراهقة السياسية”. ذلك أن الحركة الإسلامية هي من أشعلت فتيل الحرب، لكن القوى السياسية، وللأسف، ابتلعت الطُعم. وخلال فترة “قحت” التي تحوّلت لاحقًا إلى “تقدم”، وجدت نفسها في موقع الدفاع، وهو ما يعتبره مناضل من أبرز الإشكالات التي واجهت تلك المرحلة.

ويضيف أن المعركة في جوهرها تتعلق بمؤسسة الجيش، التي باتت – حسب تعبيره – أكبر حزب سياسي في السودان، وهو الحزب الذي ظلّ ممسكًا ببوصلة الدولة السودانية منذ عام 1965. إذ أن الجيش هو من قطع الطريق أمام كل الديمقراطيات، بداية من الحكومة الوطنية الأولى، مرورًا بثورة أكتوبر، وثورة أبريل، وأخيرًا ديسمبر. وفي كل مرة، كان يتدخل ليجهض أي مشروع ديمقراطي.

ويعتقد مناضل الطيب أن هذه الحرب قد تكون معركة الجيش الأخيرة، في وقت باتت الحركة الإسلامية تدرك أنها تورطت في حرب لا يمكن التراجع عنها بسهولة. وعلى ضوء هذه المعطيات، يرى أن الكتل السياسية بدأت تتشكل بوضوح، وهي: كتلة بورتسودان، وكتلة “تأسيس”، وكتلة “صمود”.

وفي هذا السياق، يرى أن كتلة بورتسودان غير قابلة للاستمرار على المدى الطويل، لكونها تجمّعاً قائماً على السلطة، وبالتالي فهي عرضة للتفكك عند أول خلاف بشأن تقاسم النفوذ. أما كتلة “تأسيس”، فيدعو إلى عدم تصنيفها ككتلة حرب، رغم انخراط كل من الدعم السريع والحركة الشعبية ضمن مكوناتها، إذ إنها كتلة تسعى لفتح آفاق نقاش جديدة تؤسس لبناء دولة. وهي، وفق توصيفه، واحدة من الكتلتين الرئيسيتين الحاضرتين بقوة في المشهد السياسي الحالي.

أما كتلة “صمود”، فيؤكد مناضل أنها تعاني من تباينات داخلية تمنعها من اتخاذ مواقف واضحة، لكنه لا يعتبر ذلك هجومًا أو تحاملًا، بل يرى أن وجود “صمود” في المرحلة القادمة سيكون ذا أهمية بالغة، حتى وإن لم يكن وزنها كبيرًا حاليًا، نظرًا لأن الطرفين الفاعلين الأساسيين في الحرب لا يزالان هما الجيش والدعم السريع.

ويضيف أن الحرب انتقلت إلى مرحلتها الثانية، بعد أن شهدت المرحلة الأولى انتهاكات جسيمة ارتكبتها الأطراف المتحاربة. غير أن الحركة الإسلامية – كما يوضح – استخدمت أساليب قذرة، مستعرضًا ما حدث في ولاية الجزيرة، حيث قام الإسلاميون بحشد مجموعات تابعة لهم لإثارة الدعم السريع، الذي يضم أطرافًا غير منضبطة، وهو ما تسبب في موجة من الانتهاكات.

ويشير إلى أن “صمود” حاولت الانتقال من “تقدم” بطريقة لم تكن ناجحة بالكامل، حيث أدت طريقة إدارة الصراع بعقلية النادي السياسي التقليدي إلى تفاقم الأوضاع. ويدرك “صمود” أن معركته هي مع الحركة الإسلامية المتغلغلة في مؤسسة الجيش، لكنه لم يقطع حواراته مع أي طرف، ما يشير إلى نية في عدم التصعيد.

منحى خطير

ويحذّر من أن المناورات السياسية ستزيد الوضع تعقيدًا، لافتًا إلى أن الحرب بدأت تأخذ طابعًا إثنيًا خطيرًا، في ظل تصاعد نبرة التصفية العرقية. ويشير إلى واقع مؤلم: هناك أجيال ضاعت في التعليم، وهناك مناطق في الوسط السوداني تعيش حالة من التوتر الإثني، حيث يقول البعض علنًا: “لا نريد أن يبقى كمبو مرة أخرى”، في إشارة إلى التجمعات السكانية التي أصبحت هدفًا للصراع.

ويرى مناضل الطيب أن الأفق لا يحمل أي بوادر لحلول قريبة، لا سيما أن الحرب في مرحلتها الثانية تشهد تدخلات دولية متزايدة قد تعيق أي مسار سلمي فعّال. ويذهب إلى أن هناك سيناريو ثالث يلوح في الأفق، يتمثّل في دخول جماعات إسلامية وإرهابية إلى الساحة السودانية، في حال فشل الحركة الإسلامية في تحقيق أهدافها في المرحلة الثانية.

ويؤكد أن الإسلاميين لا يمانعون في فصل دارفور إذا تمكّنوا من السيطرة على الوسط، والشرق، والشمال، مشيرًا إلى أن محمد سيد أحمد الجاكومي يمارس مناورات أمنية بالتنسيق مع استخبارات بورتسودان والإسلاميين للتأثير على الحركات المسلحة في دارفور. ويضيف أن العقبة الأكبر أمامهم هي منطقتا النيل الأزرق وجنوب كردفان، إذ لا يمكنهم التنازل عن ما يُعرف بـ”مثلث حمدي”، الذي يراه الإسلاميون – مع شرق السودان – الشكل الأمثل للحفاظ على مصالحهم.

ويصف تحالف “تأسيس” بأنه خطوة استباقية هدفها الحفاظ على أكبر قدر من القوى المؤثرة في جسم سياسي واحد، لاحتواء المشهد المتصدع. ويضم هذا التحالف مجموعات من الشرق والشمال، ما يمنحه فرصة للمساهمة في الحفاظ على ما تبقى من بنية الدولة. لكنه، في ذات الوقت، يرى أن السيناريوهات الراهنة، وما تحمله من غبن وإثنية وتصفيات، تنذر بانفلات يصعب السيطرة عليه، وقد تفشل القوى السياسية في مواجهة الخطاب الخطير الذي تتبناه قيادة بورتسودان.

ويُعرب مناضل عن أسفه من أن القوى السياسية المدنية، ممثلة في تحالف “صمود”، لا تزال تتصرف بردود أفعال، وتغيب أحيانًا عن الساحة ثم تعود، دون استراتيجية إعلامية واضحة. وذكر أنه في رمضان الماضي، صرّح رئيس “صمود” بأن لديهم إشكالاً كبيرًا في الإعلام، بل إن الإعلام ربما يكون غائبًا تمامًا، ولا توجد حتى الآن أي استراتيجية إعلامية من “قحت”، أو “تقدم”، أو “صمود” للتعامل مع الحرب بفعالية.

ويؤكد أن تحالف “صمود” مهم، لكن من خارج ساحة الصراع المباشر، ويحتاج إلى خطة إعلامية واضحة لتمرير أجنداته والتقليل من حدة الخطاب الحالي.

ويحذر من أن المرحلة الثانية من الحرب قد تطول، لأن التغيير الذي حدث في ديسمبر كان مرتهنًا لأطراف خارجية. ويعتقد أن ما جرى في 11 أبريل كان انقلابًا بمباركة بعض القوى السياسية الإقليمية، التي انقسمت إلى تيارات متعددة: تيار الدوحة وتركيا، وتيار مصر والسعودية والإمارات، إلى جانب تيار داخل الجيش السوداني نفسه.

ويشير إلى أن التيار المصري – السعودي – الإماراتي لم يكن كتلة واحدة متجانسة، بل يحمل في داخله تباينات كثيرة، وكان ذلك من الأسباب التي أثّرت على عملية الانتقال، وساهمت في تعقيد المشهد. ويصف الانقلاب الذي نفذته مجموعة جوبا بالتعاون مع الجيش والدعم السريع بأنه “رصاصة الرحمة” التي أُطلقت على الدولة السودانية بشكلها القديم. ومع أن الدعم السريع قدّم اعتذارًا لاحقًا، إلا أن الضرر كان قد وقع بالفعل.

ويختم مناضل الطيب بالتأكيد على أن الدولة السودانية لن تعود إلى سابق عهدها إلا إذا وُجد فعل حقيقي وإرادة سياسية لدى جميع الأطراف، سواء في “تأسيس”، أو داخل “صمود”، أو حتى ضمن كتلة بورتسودان. ويرى أنه يمكن الاستفادة من بعض الأطراف داخل هذه الكتلة بسبب ما تملكه من علاقات وتأثير، غير أن الحركة الإسلامية والجيش، لن يتنازلا عن هذه “المعركة الأخيرة”، التي قد تنتهي إما بتقسيم السودان، أو بهزيمة أكبر حزب سياسي حالي، وهو الجيش المتحالف مع الحركة الإسلامية.

وفي ختام الحلقة يرى الأستاذ إسماعيل التاج أن جميع المداخلات – سواء من شهاب إبراهيم، أو مناضل الطيب الحلاوي – كانت متكاملة، حيث ركزت في جوهرها على التناقضات داخل كيانات “بورتسودان”، و”تأسيس”، و”صمود”، مشيرًا إلى أن شهاب إبراهيم قد أسهب تحديدًا في تناول مسألة الصراع وإدارته داخل “تقدم”.

ويؤكد أن العمل في إطار التحالفات ظلّ صعبًا عبر التاريخ السوداني السياسي الحديث، بدءًا من “الجبهة الوطنية” في السبعينات، مرورًا بـ”التجمع الوطني الديمقراطي” في التسعينات، ثم “الحرية والتغيير”، وأخيرًا “تقدم”. كلها تجارب تحالفية شابتها الصعوبات في التكوين والإدارة، وتدهور أداؤها لاحقًا، لا سيما بعد اتفاق نيفاشا في 2005. ويتساءل: أين ذهب التجمع الوطني الديمقراطي بعد ذلك؟ لقد تلاشى، وتبعه ملحق اتفاق القاهرة وغيره.

طبيعة معقدة

ويشير إلى أن طبيعة التحالفات بطبيعتها معقدة، إلا أن هناك لحظات تاريخية يجب اغتنامها. ويستشهد بلحظة “الحرية والتغيير” في الفترة الانتقالية، التي كانت تمثل فرصة تاريخية لتقوية التحالف وتحصين مسار الانتقال. لكن – للأسف – وقع تكرار لنفس الأخطاء التي ارتكبت في 1958. فعندما وصف د. جون قرنق نظام “الإنقاذ” بـ”مايو 2″، لم يُؤخذ كلامه على محمل الجد، رغم توقيع اتفاق الميرغني-قرنق في نوفمبر 1988، الذي تأخرت القوى المدنية في البناء عليه لتحصين مسار الانتقال.

ويضيف أنه في فترة مثل تلك، حيث هناك قوى “ردّة” تتربص، ينبغي على القوى المدنية أن تتحصن على الأقل مع شركائها بنسبة 90 أو 100%. فقد كان من الممكن إبرام اتفاقات مماثلة مع حركة تحرير السودان أو الحركة الشعبية – شمال، لتقوية الموقف الداخلي. لكن ما حدث كان تكرارًا لذات النمط، وأُهدرت الفرصة إلى أن وقع الانقلاب.

ويشير إلى أن المؤتمر التأسيسي كان فرصة حقيقية للتأمل واستخلاص العبر، فقد تمكّنوا من حشد 600 مشارك من مختلف أنحاء العالم، وهو عدد معتبر، لكن لم يتم التقدم خطوة إلى الأمام، نظرًا لأن 500 من المشاركين انتموا إلى ثلاث تنظيمات محددة، في حين لو أُتيح المجال لقوى سياسية ومجتمعية أوسع، لكان بالإمكان تحقيق تقدم نوعي وتحويل “تقدم” إلى منصة وطنية شاملة.

ويؤكد التاج  أن قوى كـ”الحركة الشعبية – شمال جناح الحلو”، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، تتقاطع مع قوى الحرية والتغيير في نحو 95% من المسلمات الوطنية، وكان يمكن التفاهم معها. بل حتى عندما وقّع حمدوك اتفاقًا في هذا السياق، لم يُعامل بالشكل اللائق، وهي فرصة أخرى أُهدرت.

ويختم حديثه بالقول إننا الآن أمام قضية مصيرية تتعلق بمصير الوطن: “يكون أو لا يكون”، ومن الضروري اتخاذ قرارات شجاعة وتحمل نتائجها. فالقيادة تتطلب شجاعة في اتخاذ القرار، حتى وإن لم يكن محبوبًا. أما أمراض احتكار المقاعد، فهي ما أقعد “الحرية والتغيير”، وعطّل الانتقال الديمقراطي منذ 1985، وهي ذات الأمراض التي تعاني منها “تأسيس”. وفي أوضاع استثنائية، لا بد من التجرد وتحمل المسؤولية، حتى لو تطلّب الأمر تقديم تضحيات كبيرة.

من جانبه، ركز  شهاب إبراهيم ، في مداخلته الختامية على نقطتين مترابطتين تُقدّمان إجابة واضحة بشأن التناقضات داخل القوى المدنية الديمقراطية، وتحديدًا في تحالف “صمود”. وأوضح أن التباينات بين مكونات القوى المدنية هي جزء من طبيعة العمل السياسي، ولا يجب أن تُحمَل دومًا على محمل سلبي.

ويرى أن المشكلة الأساسية لا تكمن في وجود الاختلاف، بل في طريقة إدارة هذا الاختلاف. وعلى الرغم من الإشكالات، فإن التجربة داخل “تقدم” أفرزت شكلًا من أشكال الممارسة السياسية الصحية. فالانقسام بين “صمود” و”تأسيس” لم يكن حادًا أو تدميريًا، بل يعكس تباينًا في الموقف السياسي، وهو ما يجب أن يُقرأ بإيجابية.

ويؤكد أن التحالفات السياسية تُبنى على أساس الموقف والرؤية، وحتى في حال وجود اختلافات، فإن التنسيق يبقى ممكنًا. ويُشير إلى أن “صمود” تحافظ حتى اليوم على قنوات التواصل مع العديد من الجهات، بما فيها “تأسيس” والمجموعات التي تدعم حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، وهو أمر مهم في ظل حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي السائدة.

ويضيف أن الدور الذي تقوم به “صمود” حاليًا ليس مجرد وساطة، بل هو فعل سياسي مؤثر. فالتحالف يسعى لتقديم التنازلات الممكنة، لا بهدف وقف الحرب فقط، بل لإنهائها جذريًا. ويرى أن الحل في نهاية المطاف سيكون عبر حوار دستوري شامل، أو أي إطار آخر يكرّس وحدة السودان.

ويُشدد على أن وحدة البلاد لا تتحقق بالقسر، بل بالتنازلات الطوعية من جميع الأطراف. ويشير كذلك إلى الدور المحوري الذي لعبته “صمود” في عدد من المحافل الدولية، منها مساهمتها غير المباشرة في جلسة مجلس الأمن التي استخدمت فيها روسيا “الفيتو”، بعد أن دفعت “صمود” بمقترح عبر بريطانيا ناقش حماية المدنيين.

كما يسلط الضوء على مؤتمر لندن الأخير، والذي كان من المفترض أن تُشكّل فيه لجنة اتصال سياسي دولية وإقليمية، تعمل على التواصل مع أطراف الحرب. إذ أن هذه الأطراف باتت تضع أهدافها وفقًا لأجندات إقليمية ودولية، ما يُصعّب الحل ويُعقّد الموقف، خاصة في ظل تعنّت الجيش والإسلاميين المتحكمين في السلطة.

ويختم بالتأكيد على أن القوى المدنية، وعلى رأسها “صمود”، لا تنطلق من مواقع سلطوية، بل من كونها ممثلة لشريحة واسعة من السودانيين التواقين إلى وقف الحرب، رغم الانقسام، ورغم محاولات بعض القوى تجاهلها. وهذا الدور، وإن لم يخلُ من التباينات، يعكس جوهر الفعل السياسي، ويمثل البعد الغائب لدى قوى أخرى.

السلاح والحوار

أما مناضل الطيب، فقد أكد في مداخلته الختامية على أهمية ما طرحه كل من مولانا إسماعيل التاج وشهاب إبراهيم، مشيرًا إلى أن جميعهم متفقون على أن السلاح لا يمنع الحوار. فالحركة الشعبية لها باع طويل مع البندقية، كما لها سجل حافل في الحوارات والمذكرات.

وأوضح أنه قدم ورقة بحثية في رمضان الماضي، تناولت تاريخ التحالفات السياسية في السودان منذ ما قبل الاستقلال وحتى “تأسيس”، وخلص إلى أن هناك نمطًا ثابتًا، حيث توقع القوى السياسية على مواثيق محترمة، لكن بمجرد اقترابها من السلطة تتناسى تلك الالتزامات.

ويستشهد بمقررات أسمرا للقضايا المصيرية عام 1995، التي حسمت عدة قضايا محورية: مثل علاقة الدين بالدولة، ورفض تشكيل الأحزاب على أسس دينية أو عرقية. ورغم ذلك، بعد ثورة ديسمبر، تفاجأ مناضل الطيب بأن هناك قوى وقعت على تلك المقررات قبل أكثر من 24 سنة، لكنها الآن تقف حجر عثرة أمام تنفيذها.

ويشير إلى زيارة حمدوك إلى كاودا برفقة المجتمع الدولي، باعتبارها رسالة قوية بضرورة استصحاب تلك القوى في عملية الانتقال، إلا أن رد المؤسسة العسكرية كان صادمًا. فقد قال شمس الدين كباشي إن الاتفاق كان “عطاء من لا يملك لمن لا يستحق”، وهو ما يدل على أن السيطرة الفعلية كانت بيد الجيش، وليس القوى المدنية.

حزب سياسي

ويؤكد أن الجيش هو أكبر حزب سياسي في السودان منذ الاستقلال، وهو من ظل يتحكم في مسارات الدولة. ويرى أن “صمود” يجب أن تواصل بوضعها الحالي كطرف ثالث، لكن في ذات الوقت لا بد من فتح حوارات بين “تأسيس” و”صمود”، خاصة وأن المسافة بينهما ليست بعيدة، ويمكن إيجاد نقاط التقاء، بما في ذلك مع أطراف كحركة عبد الواحد نور.

ويعتبر أن اتفاقًا مشتركًا بين “صمود”، و”تأسيس”، وعبد الواحد نور يمكن أن يُخفف حدة الحرب، مع ضرورة بناء استراتيجية إعلامية موحدة بين كافة القوى الوطنية. ويحذّر من ابتذال الخطاب السياسي الذي تمارسه الحركة الإسلامية منذ أيام الجامعات، بهدف إفراغ الساحة من أي خطاب عقلاني وموضوعي.

ويضيف أن المعركة الحالية معركة مفصلية في مستقبل الدولة السودانية، وتحتاج إلى قوى سياسية ناضجة، تمتلك مبادرة ورؤية واضحة. فالحرب قد تدخل مرحلة ثالثة أكثر كارثية، تشمل مواجهة مباشرة بين الجيش وبعض حركات دارفور، مع احتمالية لعب “درع السودان” دورًا محايدًا في تلك المواجهة.

ويختم بالقول إن السودان مقبل على حرب طويلة الأمد، تتطلب تفكيرًا عميقًا، وخطابًا موضوعيًا، وقيادات سياسية تمتلك إرادة حقيقية، وتضع مصلحة الشعب السوداني فوق كل اعتبار. ومن هنا، تصبح الحاجة إلى الحوار بين مختلف القوى أمرًا لا غنى عنه لتفادي سيناريوهات الانقسام والتشظي.

من المحرر

شهدت الندوة السياسية التي جمعت عدداً من القيادات المدنية السودانية نقاشاً عميقاً حول جذور الأزمة الوطنية الراهنة وطبيعة الحرب الجارية والأدوار الممكنة للقوى المدنية في ظل الانقسام والتعقيد السياسي المتصاعد، حيث تلاقت آراء المتحدثين مولانا إسماعيل التاج وشهاب إبراهيم ومناضل الطيب على توصيف الحرب الحالية باعتبارها نتاجاً مباشراً لتاريخ طويل من التراكمات البنيوية في الدولة السودانية، وأنها امتداد لصراع مزمن على السلطة بين مؤسسة الجيش والقوى المدنية وأكد المتداخلون أن الجيش تحول فعلياً منذ منتصف الستينات، إلى أكبر حزب سياسي في البلاد متحكماً في مسارات الحكم ومعرقلاً لأي تحول ديمقراطي بدءاً من الانقلابات المتعاقبة وحتى إشعال الحرب الأخيرة بتحالفه الواضح مع تيارات الإسلام السياسي

في المقابل أظهرت المداخلات إدراكاً جماعياً لأزمة التحالفات المدنية المتكررة التي فشلت في كل مرة في التماسك واستثمار اللحظات التاريخية بدءاً من الجبهة الوطنية في السبعينات مروراً بالتجمع الوطني الديمقراطي ثم الحرية والتغيير وصولاً إلى تحالفي تقدم وصمود، وأجمع المشاركون على أن هذه التحالفات كثيراً ما سقطت أمام نزعة احتكار القرار والتمسك بالمقاعد بدلاً من تغليب المصلحة الوطنية وتوسيع قاعدة الفعل السياسي المدني

المداخلات قدمت تقييماً صريحاً لأداء القوى المدنية خلال الفترة الانتقالية، حيث رأى إسماعيل التاج أن غياب القرارات الشجاعة والتحصين السياسي للتحول بعد الثورة سهّل عملية الانقلاب لاحقاً مشيراً إلى أن الفرص التي توفرت للتفاهم مع الحركات المسلحة لم تُستثمر كما ينبغي فيما رأى شهاب إبراهيم أن الانقسام بين صمود وتأسيس ليس مأزقاً وإنما اختلاف في الرؤية السياسية يمكن البناء عليه مشيراً إلى أن صمود ما زالت تحتفظ بقنوات تواصل مفتوحة حتى مع الداعمين لحكومة بورتسودان وهو ما اعتبره شكلاً ناضجاً من أشكال العمل السياسي في زمن الحرب

من جانبه حذّر مناضل الطيب من دخول البلاد في مرحلة ثالثة من الحرب وصفها بالمفصلية محذراً من أن السودان قد ينفتح على موجة من التدخلات الإقليمية والجماعات المتطرفة إذا لم تبادر القوى المدنية إلى التقاط زمام المبادرة وإعادة بناء خطاب وطني جامع وشدد على أهمية حوار جاد بين صمود وتأسيس والحركات الوطنية كعبد الواحد محمد نور لتقليل حدة الصراع وتفادي كارثة أوسع

ورغم تباين اللهجات وحدّة بعض المواقف إلا أن الندوة اتسمت بروح مسؤولة كشفت عن إدراك عميق لحجم الخطر المحدق وضرورة أن تلعب القوى المدنية دوراً متقدماً بعيداً عن منطق رد الفعل والاصطفافات الحادة وقد بدا واضحاً أن هناك تقاطعاً موضوعياً بين مختلف القوى في الرؤية الكلية وإن اختلفت الأساليب ووسائل التأثير وأن المطلوب اليوم هو إرادة سياسية شجاعة تخرج العمل المدني من دائرة الانتظار إلى مجال الفعل المبادر لأن الوقت لا يعمل لصالح السودان ما لم يتحرك أبناؤه المدنيون بمسؤولية وشجاعة وواقعية

Exit mobile version