ليبيريا: جمهورية “الحرية” التي أسستها واشنطن على جراح إفريقيا
أفق جديد
في الأسبوع الماضي، وخلال اللقاء الذي جمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع خمسة من قادة الدول الإفريقية في مكتبه الخاص، أطلق ترامب تعليقًا أثار الاستغراب وربما السخرية.
فبينما كان يُحادث رئيس ليبيريا جوزيف بواكاي، أشاد ترامب بطلاقة لغته الإنجليزية وسأله بدهشة: “أين تعلمت هذه اللغة؟”. بدا السؤال ساذجًا في ظاهره، لكنه كان كاشفًا عن جهل واسع بجغرافيا التاريخ الذي صنعته بلاده في القارة السمراء، خاصة أن ليبيريا ليست فقط دولة إفريقية ناطقة بالإنجليزية، بل تجسيد حيّ لتاريخ أميركي عميق من الاستعمار المقنّع والاستغلال طويل الأمد.
الجذور الأولى
بدأت قصة ليبيريا في العقد الثالث من القرن التاسع عشر، حين شرعت الولايات المتحدة في تنظيم عمليات “إعادة توطين” لعشرات آلاف العبيد الأفارقة المُحرّرين، بعد تحوّلات قانونية وسياسية أفضت إلى إنهاء تجارة الرق.
أنشأت الدولة الأميركية ما عُرف بـ”جمعية الاستعمار الأميركية”، التي تلقت تكليفًا من الرئيس جيمس مونرو بالبحث عن أرض في إفريقيا لإنشاء مستعمرة جديدة يمكن أن تكون موطنًا لهؤلاء المُحرّرين.
هكذا وُلدت ليبيريا – من كلمة “Liberty” أي الحرية – وسُمّيت عاصمتها “مونروفيا” تكريمًا لمونرو نفسه. بدا الأمر في ظاهره مبادرة إنسانية، لكنه في العمق كان تمرينًا أميركيًا على تصدير القيم الغربية بنسختها البروتستانتية، وإعادة إنتاج النفوذ الأميركي في إفريقيا بثوب ديني واجتماعي جديد.
حكم الأساقفة
منذ استقلالها عام 1847 وحتى مطلع ثمانينيات القرن العشرين، سيطر رجال الدين البروتستانت من أصول “أمريكية-ليبيريّة” على الحكم في ليبيريا، وفق دستور اشترط في الرئيس أن يكون من خلفية كنسية.
كان هؤلاء في الأصل عبيدًا محرّرين من الولايات المتحدة، عادوا إلى إفريقيا محمّلين بقيم الكنيسة الإنجيلية ومُصمّمين على إعادة إنتاج النظام الاجتماعي الذي عاشوه، لكن هذه المرة من موقع السيادة.
أبرز هؤلاء كان جوزيف جينكينز روبرتس، أول رئيس للجمهورية، الذي كان أسقفًا في الكنيسة الميثودية، وتبعه آخرون من ذات الخلفية مثل جيمس سبريجز باين وويليام تولبرت.
قمع السكان
لم يكن هذا النموذج السياسي قائمًا فقط على التماهي مع “الحلم الأميركي”، بل انطوى أيضًا على ممارسات قمعية تجاه السكان الأصليين من القبائل الإفريقية غير المسيحية، الذين اعتُبروا “وثنيين” وغير جديرين بالمواطنة الكاملة.
في مفارقة مأساوية، مارس “الأمريكيون-الليبيريّون” ذات الممارسات الإقصائية التي عانوا منها في أميركا، لكن هذه المرة ضد أبناء قارتهم، مستخدمين المبرر الديني ذاته لتكريس تفوّقهم.
انتخابات وهمية
في عام 1927، جرت انتخابات اعتُبرت من الأكثر تزويرًا في التاريخ، حين فاز الرئيس تشارلز كينغ بـ 450 ألف صوت، رغم أن عدد الناخبين المسجلين لم يتجاوز 15 ألفًا، وفقًا للسجلات الرسمية.
في الخلفية، كانت شركة “فايرستون” الأميركية قد حصلت على امتياز حصري لزراعة وتصدير المطاط الليبيري، في صفقة رعتها الحكومة الأميركية، وعكست طبيعة العلاقة بين “الدولة الجديدة” وراعيها الغربي.
صمويل دو
عام 1980، وفي سابقة سياسية، قاد الرقيب صمويل دو، وهو من قبيلة الكران إحدى الجماعات الإفريقية الأصلية، انقلابًا عسكريًا أطاح بالنظام الحاكم. مثّل الانقلاب بداية نهاية الهيمنة السياسية لـ “الليبيريين الأميركيين”، ومحاولة لإعادة التوازن العرقي داخل البلاد.
لكن التجربة لم تدم طويلًا. فبعد ثلاث سنوات، ظهر رجل يُدعى تشارلز تايلور، كان قد درس في جامعة مرموقة في الولايات المتحدة، وعمل واعظًا دينيًا، ثم سُجن بتهم جنائية قبل أن يفر بطريقة غامضة من أحد السجون الأميركية عام 1983.
الانقلاب المضاد
بعد فراره، عاد تايلور إلى ليبيريا عبر شبكة معقدة من الدعم والتمويل، وشكّل مليشيا مسلحة انقلبت على نظام صمويل دو عام 1990، في واحدة من أبشع مشاهد العنف السياسي التي وثّقها العالم عبر تسجيلات مرئية.
تسبّب صعوده في إشعال حرب أهلية استمرت طوال التسعينيات، قُتل فيها أكثر من 200 ألف شخص، وتورطت فيها دول وجهات خارجية متعددة.
اتهم تايلور بتهريب “ألماس الدم” وبيعه مقابل أسلحة، وسط شبهات بتورط شركات أميركية في دعم حربه مقابل تسهيلات اقتصادية طويلة الأمد.
مشهد النهاية
في 2002، زار تايلور بريطانيا محاطًا بحرس خاص من الأميركيين، حيث التقى عارضة الأزياء ناعومي كامبل وأهداها ماسة نادرة، في لقطة رمزية لذروة نفوذه وثروته.
لكن بعد سنوات قليلة، وتحديدًا عام 2006، سقط تايلور بضغط دولي، وحوكم أمام المحكمة الخاصة بسيراليون في لاهاي، ليُدان بارتكاب جرائم حرب.
بالتزامن، دعمت واشنطن صعود الرئيسة إلين جونسون سيرليف، الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، في محاولة لإغلاق فصل طويل من التدخل الأميركي في الشأن الليبيري.
الظل الأميركي
اليوم، ما تزال ليبيريا دولة هشّة تعاني من آثار عقود من الحرب، والتمييز، والتدخل الخارجي.
اسمها، وعلمها، ونظامها السياسي، وحتى نُخبها، كلها عناصر تشكّلت في المختبر السياسي الأميركي.
وبينما تتحدث واشنطن عن دعم الديمقراطية والحرية في إفريقيا، يظل نموذج ليبيريا شاهدًا صامتًا على نموذج آخر: نموذج الدولة التي صُنعت لتكون “شبه أميركا” على أرض إفريقية، لكنها فشلت في منح شعبها أيًّا من الوعود التي حملها اسمها.