الدبلوماسية الخفية والحروب المعلنة 

 السودان في عين عاصفة إقليمية

 

عثمان فضل الله

حرب السودان لم تعد شأناً سودانياً صرفاً، لقد تجاوزت في وحشيتها، وامتداداتها، حدود الجغرافيا والدم، لتصبح مركز زلزال إقليمي صامت، تُرسم على هامشه تحالفات، وتُكسر فيه خرائط، وتُدار حروبه من عواصم لا تُسمع فيها أصوات المدافع، بل تُسمع همسات أجهزة المخابرات وهي تعيد توزيع النفوذ وترسم خطوط ما بعد الحرب.

في الغرف المظلمة لعواصم الجوار، تحوّل الملف السوداني من ملف سياسي تُناقش فيه المسارات إلى ملف أمني تُرسم فيه السيناريوهات، لم يعد أحد يُعنى بما يجري الآن، بل بما قد يجري لاحقًا، حين تنفجر الشظايا خارج الحدود، وتبدأ ارتدادات الخراب في إصابة من ظنوا أنهم بمنأى.

ومع اشتداد تعقيدات الحرب وتراكم الفشل المحلي، تتكاثر التحركات الدولية من خلف الستار، تُدار بأدوات خفية، وتُقرأ بعيون لا تبحث عن الحل بل عن النجاة. في هذا السياق المحموم، تبرز إسرائيل، وواشنطن، وتشاد، وإثيوبيا،وغيرهم من البلدان  كلاعبين فاعلين لا في إحلال السلام، بل في تشكيل مساراته بما يتوافق مع مصالحهم، لا مع آمال السودانيين.

بعيدًا عن الأضواء،ووفقا لمصادر متطابقة طرق الفريق عبد الفتاح البرهان أبواب تل أبيب في محاولة لاسترضائها أو تحييدها على الأقل، عقب ضربة بورتسودان الجوية التي يُجمع المطلعون على أن إسرائيل تقف خلفها، ضمن رسائل أمنية لا تقبل التأويل. أرسل البرهان وفودًا محمّلة برسائل سياسية وأمنية، لكنها عادت محمّلة بالخيبة، بعدما واجهت مطالب إسرائيلية لا يمكن لقائد الجيش تنفيذها دون تفكيك تحالفه الداخلي الهش، خاصة مع الإسلاميين الذين عادوا إلى قلب السلطة من بوابة الحرب.

علي كرتي، الزعيم الفعلي للتنظيم الإسلاموي، بدوره فعّل شبكاته في واشنطن، ونفخ في رماد علاقاته القديمة، يذكّرها بما قدمه النظام السابق للاستخبارات الأمريكية في ملف “الحرب على الإرهاب”. لكن الزمن تغيّر، والذاكرة الأمريكية تحتفظ أكثر بما فعله الإسلاميون خلال فترة حكمهم، لا بما يعدون به بعد سقوطهم، الثقة معدومة، والصفقة غير مغرية.

في تطور لافت، نفى مسؤول رفيع في وزارة الخارجية الأمريكية، وجود أي إعلانات وشيكة بشأن تعيين مبعوث خاص جديد للسودان، مؤكدًا أن الإدارة الأمريكية تواصل معالجة الأزمة السودانية من خلال أدوات دبلوماسية متعددة، دون اللجوء حاليًا إلى آلية المبعوثين الخاصين.

ويأتي التصريح الذي نقله موقع “سودان تربيون” ذي المصداقية الجيدة  في أعقاب تقارير إعلامية تحدثت عن قرب إعلان تعيين مبعوث جديد خلال شهر يوليو، خلفًا لتوم بيرييلو، الذي انتهت فترته دون أن يُعلن عن بديل رسمي حتى الآن.

وأكد المسؤول الأمريكي أن واشنطن لا تزال تضع الملف السوداني ضمن أولوياتها في القارة، من خلال التواصل المباشر مع أطراف النزاع، وتنسيق الجهود مع شركائها الدوليين، لدفع الأطراف نحو تسوية دائمة للصراع المستعر منذ أبريل 2023.

وفي موازاة الجهود السياسية، تواصل الولايات المتحدة تقديم دعم إنساني واسع، حيث أشار المسؤول إلى وصول أكثر من 65 ألف طن متري من القمح ودقيق القمح الأمريكي إلى ميناء بورتسودان، في شحنة تكفي لتلبية الاحتياجات الغذائية لأكثر من 3.2 مليون شخص لمدة شهر واحد وهو ما تتكتم عليه حكومة بورتسودان ذات الخطابات المتعددة والالسن المتعارضة.

من جهة أخرى، وخلال لقاء جمعه بعدد من القادة الأفارقة في واشنطن الأربعاء الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دعم إدارته المتواصل لجهود إحلال السلام في القارة الإفريقية، مشيرًا إلى السودان كإحدى النقاط الساخنة التي تتطلب تدخلًا دوليًا مسؤولًا. اللقاء ضم رؤساء كل من السنغال، موريتانيا، الغابون، ليبيريا، وغينيا بيساو، وفي كلمته خلال اللقاء، قال ترامب: “ما يزال أمامنا الكثير من العمل. سنواصل دعم جهود السلام في أماكن مثل السودان وليبيا، هناك الكثير من الغضب في القارة، وقد بدأنا في التوصل إلى حلول لبعض هذه الأزمات.

كما أكد ترامب أن بلاده تتجه نحو بناء شراكات طويلة الأمد مع دول إفريقيا، قائلًا إن الولايات المتحدة تتحول تدريجيًا من سياسة المساعدات إلى نموذج اقتصادي قائم على تعزيز التجارة والتنمية المشتركة.

وبينما دفع حصاد تحركاتها بورتسودان الى تجاهل  حديث الرجل الأول، في العالم، رحبت العديد من القوى المنضوية تحت لواء التحالف المدني لقوى الثورة ” صمود” به مستندة هي الأخرى بتحركات واتصالات تمت وتتم بين قيادات التحالف والإدارة الامريكية وعديد عواصم غربية أخرى بشأن الوضع في السودان.

صياغة بديل 

وطبقا لمصادر رفيعة، يتحرك تحالف “صمود”، بقيادة عبد الله حمدوك، بحذر لكن بثقة، نحو العواصم المؤثرة، وفي مقدمتها واشنطن ولندن. مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب للشرق الأوسط وكبير مستشاريه للشؤون الأفريقية مسعد بولس كثّف من اتصالاته مع قادة التحالف، وعلى رأسهم حمدوك وخالد عمر يوسف، في مسعى لإطلاق مسار تفاوضي جديد يُبنى على إعلان مبادئ توافقي. هذا الإعلان –وفق مصادر متطابقة– لن يكرر أخطاء “جدة” ولن يُبنى على موازين القوة الميدانية وحدها، بل على رؤية مدنية تُقارب الأزمة من جذورها.

وتفيد المصادر أن “صمود” قدم بالفعل ورقة متكاملة وجدت صدى إيجابيًا لدى بعض الفاعلين الغربيين، على أمل أن تتحول إلى نواة تفاوض جاد، لا مجرّد تفاهمات إعلامية، ويقول دبلوماسي رفيع في الاتحاد الافريقي، ان مساعي واشنطن الحالية الاتحاد الافريقي ليس طرفا فيها، متوقعا أن يكون دوره ثانويا، لان الاتجاه العام في العاصمة الامريكية طبقا للدبلوماسي هو تشكيل آلية شبيه باصدقاء ايقاد التي تشكلت ابان مفاوضات نيفاشا بين الحركة الشعبية وحكومة السودان وانتجت اتفاقا كانت نتيجته انفصال الجنوب على حد تعبيره.

ويمضي المسؤول الافريقي الى القول أن الملف السوداني معقد، وطرق الحل فيه يجب ان تنتج من السودانين انفسهم لا عبر مقاربة يقوم بها ضباط “السي أي ايه” الذين لايدرون شيئا عن مشاكل الانسان الافريقي. 

غليان تحت الرماد

غير ان مافات على الدبلوماسي الافريقي الغاضب هو أن السودان ليس بجزيرة معزولة، والحرب فيه تتقاطع مع أزمات تزداد اشتعالًا في الجوار الشرقي والغربي، في إثيوبيا، تبدو نُذر الحرب مع ارتريا أقرب من أي وقت مضى، في وقت لاتزال النيران بين حكومة أبي أحمد وفصيل من إقليم تيغراي العائد من رماد الحرب الأهلية مشتعلة. وبينما تتبادل أديس أبابا ومقلي الاتهامات، تتحرك أيادٍ سودانية وإسلامية في الخفاء، تأجيجًا للأزمة من باب الانتقام والتكتيك

مصادر موثوقة تشير إلى نشاط محموم لقيادات إسلامية سودانية في تأجيج الصراع الإثيوبي الداخلي، ودعم مجموعات متمردة بشكل غير مباشر عبر أراضٍ خاضعة لنفوذ الجيش السوداني، ضمن ترتيبات معقدة يُراد منها كسب النفوذ في معركة الإقليم الكبرى.

في المقابل، استأنفت ميليشيات “الفانو” التابعة لعرقية الامهرا –المدعومة ضمنيًا من وحدات في الجيش الفيدرالي– عملياتها في الفشقة، واستعادت السيطرة على أجزاء واسعة من الأراضي السودانية، وسط صمت حكومي مريب. المراقبون يرون في ذلك رسالة مزدوجة من أديس أبابا: اختبار لصلابة الجيش السوداني في ظل انشغاله بالحرب، وضغط غير مباشر على الخرطوم لوقف أي دعم لحركات المعارضة الإثيوبية.

تشاد.. خاصرة رخوة 

في الغرب، تشاد –الحليف الأقرب لفرنسا والغرب– تواجه وضعًا داخليًا متقلبًا، بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أعادت تثبيت حكم محمد إدريس ديبي. لكن ما يفاقم المأزق التشادي ليس الداخل فقط، بل ما يأتي من الشرق، من بوابة السودان

تشير تقارير استخباراتية إلى أن أطرافًا في نظام بورتسودان، مدفوعة بتيار الإسلاميين وبعض حلفائهم، تحاول اللعب بأوراق داخلية في تشاد، عبر التنسيق مع جماعات معارضة في شمال تشاد، وتحريك مجموعات سلفية كانت نائمة في الشرق. هذا المسعى يهدف إلى الضغط على انجامينا لتغيير موقفها من الحرب السودانية، أو في الحد الأدنى، تحييدها عن دعم قوات الدعم السريع التي تتحرك بحرية في شريط حدودي طويل ومفتوح.

تشاد، بدورها، لا تملك ترف الانتظار، أي اضطراب كبير في الشرق قد يفتح عليها جبهة جديدة تهدد الاستقرار الهش، وهو ما جعلها تشدد قبضتها الأمنية مؤخرًا، وتعيد تموضع قواتها على الحدود الشرقية

مشهد ضبابي

في قلب هذا التشابك، تبدو الجهود الدولية لإنهاء الحرب السودانية كأنها تجري في حقل ألغام، لا يكفي فيه حسن النوايا، واشنطن تدرك أن أي حل يجب أن يكون إقليميًا بقدر ما هو داخلي، وأن أدوات الضغط التقليدية لم تعد كافية.

لكنّ المشهد الإقليمي نفسه مُنهك، إثيوبيا على شفا حرب جديدة، وتشاد على حافة أزمة داخلية، و”الضامنون” الإقليميون أنفسهم (مثل الإمارات ومصر وتركيا) يقفون على جوانب متقابلة من خطوط النار، في هذا السياق، لا تبدو تسوية شاملة ممكنة، إلا عبر تفاهمات كبرى تتجاوز حدود السودان، وربما يعاد فيها رسم تحالفات بالكامل.

وهو مادفع تلك البلدان الى اسناد ملف السودان الى  الأجهزة الأمنية، لا لأنها الأنسب، بل لأنها الوحيدة التي تجرؤ على خوضه بهذا الشكل العنيف. وما يجري في بورتسودان، وتل أبيب، وواشنطن، وأديس أبابا،وإنجامينا، وقبلهم القاهرة والرياض وابوظبي والدوحة وحتى انقرة البعيدة  ليس سوى صراع متزامن على السودان، لا من أجل السودانيين، بل من أجل خرائط نفوذ تتشكل تحت جنح الدخان.

في هذا الظرف، تبقى القوى المدنية –مثل تحالف “صمود”– أمام فرصة ضيقة، لكنها حقيقية، لفرض حضورها على الطاولة، إن أحسنت إدارة لحظتها، واستثمرت دعمًا دوليًا محتملًا. وما عدا ذلك، فالأرجح أن تعود الدبلوماسية إلى يد العسكر، وتبقى الحرب هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الجميع وان عجزت البندقية فتقسيم البلاد اهون عليهم من اعلان الاستسلام وهنا نعني الطرفين.

Exit mobile version