البحر الأحمر عبث المساومة واستدعاء الأزمات؟؟
صلاح جلال
(1)
تناقلت الوسائط الإعلامية تصريحات متواترة للفريق ياسر العطا والسيد مالك عقار ووزير الخارجية السابق وآخرين حول منح قاعدة عسكرية على البحر الأحمر لدولة روسيا الاتحادية، جاء الحديث بتبسيط مخل لدرجة السذاجة لقضية إستراتيجية كبرى ومعقدة، وهى قضية أمن قومي من الدرجة الأولى لا يجب التلاعب بها ضمن ديناميات صراع السلطة كما فعل نظام الرئيس المخلوع عمر البشير في آخر أيامه. قبل سقوطه الداوي في ثورة ديسمبر المجيدة حاول البشير مقايضة بقاء نظامه واستمراره في الحكم بالمساومة على أمن البحر الأحمر مع عدة دول منها إيران وتركيا، ومنح روسيا الاتحادية الترخيص بتأسيس قاعدة، بلا شك أن العرض من النغمات المحببة للدب الروسي، فقد كانت خططه الأمنية منذ أيام الحرب الباردة، تقوم على إيجاد موطئ بارجة عسكرية في المياه الدافئة على شواطئ البحر الأحمر، لم يتحقق هذا الحلم الروسي الإستراتيجى على الأرض، فقد كانت هناك محاولة جادة أيام الرئيس سياد بري في الصومال، وكذلك محاولة أخرى في اليمن الجنوبى على أيام حكمها الشيوعي في عهد الرئيس سالم البيض، لكن كلا المحاولتين لم تفضيا إلى تأسيس قاعدة عسكرية دائمة روسية على البحر الأحمر، لتعقيدات الموضوع وكثرة التقاطعات الإقليمية والدولية حوله.
(2)
فعالية الدول على المسرح العالمي من بين مقوماتها الموقع الجيواستراتيجي لارتباطه بالإستراتيجية الكلية للدولة [السياسية والاقتصادية والعسكرية والمعلوماتية] يستخدم الوضع الجيو استراتيجي بحذر شديد في الضغط والمساومة الدولية لتحقيق أهداف الدولة الوطنية العليا، كما ذكر ذلك السفير نصرالدين والي في مقاله الموسوم كيف نتحدث مع واشنطون ١٦ ديسمبر ٢٠١٩م.
الممرات المائية العالمية مسألة معقدة فهي عبارة عن شبكة عنكبوتية من المصالح والاستراتيجيات الدولية المتضاربة والمتعارضة، التعامل معها ككرت ضغط ومساومة كالسير في حقل للألغام، من الممرات المائية ذات الأهمية العالمية في منطقة الشرق الأوسط ممر الدردنيل ومضيق البوسفور الذى تتحكم فيه تركيا ويعتبر المدخل الوحيد للسفن الروسية إلى البحر الأبيض المتوسط، والرابط بين قارتي آسيا وأوربا ويأتي بعده مضيق هرمز الذي تعتمد عليه دول مثل العراق والكويت وقطر والبحرين لوصول تجارتها للعالم الخارجي، وتسيطر على إدارته سلطنة عمان وتشاطئها الجمهورية الإيرانية، لما على هذا المضيق من صراعات طرحت بريطانيا تشكيل قوة عسكرية عالمية للسيطرة عليه وإدارته، كذلك قضية بحر الصين الجنوبي التي كادت تؤدي لحرب عالمية وما يزال التوتر قائمًا، السؤال هل بهذه البساطة التى طرحتها حكومة الفريق البرهان من الممكن إقامة قاعدة أجنبية على البحر الأحمر لدولة بوزن روسيا وإيران ذات تقاطعات عالمية على هذا الممر العالمي دون توافق إقليمي مع الدول المتشاطئة وتراضي دولي مع المستفيدين من هذا الممر المائي العالمي؟ إن هذه الخطوة الطائشة تمثل الدخول في عش الدبابير واستقطاب لصراع المحاور في دولة تعاني من الحرب والهشاشة والتحلل!
(3)
لعلم جميع الجنرالات ومن يقف خلفهم البحر الأحمر يمثل أهم ممر مائي عالمي، يربط ثلاث قارات ويوصل المحيط الهندي بالمحيط الأطلسي، له ميزته الإقتصادية والعسكرية الهامة في الإستراتيجيات الدولية، عبره يُصدر حوالى 40% من بترول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، وعبره تمر نصف التجارة العالمية بين أقصى الشرق والغرب، البحر الأحمر يمثل عمقًا أمنيًا واقتصاديًا لدول الخليج، كما يمثل مكونًا رئيسيًا في الإستراتيجية الاقتصادية والأمنية الأوربية والأمريكية والصينية، حيث تستورد أمريكا حوالى 25% من استهلاكها البترولي عبر البحر الأحمر، ويمثل البحر الأحمر ذراعًا أساسيًا في إستراتيجيتها العسكرية وضامن تفوقها العالمى في المحيطين الهندي والأطلسي، البحر الأحمر موقع تقاطعات دولية حادة واشتباك إستراتيجيات اقتصادية وعسكرية، وهو مسلح إلى أسنانه من عشرات الأساطيل في المياه الدولية للبحر الأحمر، تقتضى المناورة والمساومة بالبحر الأحمر الحِيطة والحذر في المساس بترتيباته الأمنية، فهو بلا شك يمثل جزءًا من جدوى السودان الجيوسياسية، يجب المناورة به بمعرفة وخبرة لتحقيق مصالح البلاد العليا الإقليمية والدولية، وليس بهذا التبيسط المخل والفجاجة كما ذكر ذلك الفريق ياسر العطا ضاربًا المثل بجيبوتي التي فتحت شواطئها للجميع الفرنسيين والأمريكان والصينين وبعض دول الخليج مما أفقدها السيادة على مياهها الإقليمية، هل تريدون أن يصبح السودان مثل جيبوتي؟ نرفض ذلك نحن أغلبية الشعب السوداني أن تتم مساومة خطرة في ظل نظام فاقد للشرعية والتمثيل الحقيقي للشعب.
(4)
البحر الأحمر يكاد يكون بحيرة عربية خالصة ويرتبط بأمن قناة السويس مما يؤثر على الأمن القومى لمصر، ومن حيث عدد الدول المتشاطئة عليه فمن بين العشرة منها ثماني دول عربية هي الصومال وجيبوتي والسودان وعمان واليمن والمملكة العربية السعودية وجمهورية مصر والأردن، عدا اثنين هما إريتريا وإسرائيل، فقد كان البحر الأحمر تاريخياً محور تحركات دولية كبرى أيام الحرب الباردة، رغم أهمية البحر الأحمر الإستراتيجية لا توجد اتفاقية أمنية شاملة للدول المطلة عليه وخاصة العربية منها وهي شاهد على عمق التعقيدات على هذا الممر المائي، تم توقيع بعض الاتفاقيات الجزئية بين اثنين إلى ثلاثة دول من المتشاطئين لتنظيم مصالح اقتصادية وأمنية، لكن لا توجد اتفاقية شاملة تنظم أمن البحر الأحمر كله إلى اليوم ، لما فيه من تعقيدات وتقاطع استراتيجيات دولية جعلت التوصل لاتفاق حول أمن البحر الأحمر أمرًا غاية في الصعوبة ناهيك عن إقامة قاعدة نووية روسية عليه ووجود إيراني جنوباً يهدد أمن دول الخليج، هل تريدون بجهالة أن يسقط نيزك ليدُك مصالح السودان مع دول الغرب والإقليم؟
(5)
الواقع الآن البحر الأحمر بحيرة دولية وتوجد في مياهه عدد ضخم من القطع العسكرية لمعظم دول العالم الكبرى والمتوسطة منها، كما توجد قواعد دائمة لكل من الولايات المتحدة وفرنسا والآن الصين بجيبوتي، يمثل خليج باب المندب بالجزء الجنوبي من البحر الأحمر أهمية قصوى للأمن والاقتصاد العالمي، عندما قامت ظاهرة القرصنة منطلقة من الشواطئ الصومالية ظهر الاهتمام العالمي بالبحر الأحمر، شاهدنا مشاركة حوالى عشرة آلاف سفينة وقطعة بحرية من كل أنحاء العالم للقضاء على القرصنة واستعادة الأمن للبحر الأحمر ومضيق باب المندب، هل سيتفرج العالم على تأسيس قواعد للسيطرة على البحر الأحمر دون مقاومة وردود أفعال؟
(6)
خلال الأعوام القليلة الماضية زاد اهتمام دول الخليج بالبحر الأحمر خاصة دولتي السعودية والإمارات حيث قامتا بتأسيس وجود عسكري دائم في باب المندب ووقعتا اتفاقيات مع الصومال وإريتريا مضافاً للوجود المصري الذي اتسم بقدر من القِدم، حيث يرتبط أمن البحر الأحمر بأمن قناة السويس المورد الاقتصادي الأهم في مصر، الجديد على المياه الدولية للبحر الأحمر تطوير وجود البحرية الإيرانية وأعقبتها البحرية الصينية التي تمتلك الآن وجودًا دائمًا يتجاوز العشرة آلاف جندي بين المياه الدولية واليابس في جيبوتي، كما توجد أساطيل أوروبية وهندية وروسية في عمق المياه الدولية، يمكن القول الآن إن البحر الأحمر مسلح حتى أسنانه وجاهز للاشتباك في أي صراع عالمي هل تعلم ذلك؟ كثير من الخبراء والمحللين منهم هنري كيسنجر ذكروا إذا كانت هناك حرب عالمية ثالثة ستبدأ من أحد موقعين بحر الصين الجنوبي أو البحر الأحمر! هل سيقدم السودان رقاع الدعوة للحرب العالمية الثالثة على شواطئه بسذاجة وعدم مسؤولية؟
(7)
كان البحر الأحمر ذو حساسية سياسية كبيرة لمتخذ القرار السوداني خلال الفترة الديمقراطية الأخيرة ١٩٨٦إلى ١٩٨٩م رفضت فيها حكومة السيد الصادق المهدي منح الولايات المتحدة قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، كما رفضت منح قاعدة برية لقوات التدخل الأفريقي آفريكوم، مما عرض علاقة السودان والولايات المتحدة لقدر من الجفاء والبرود، هل تعلم لماذا كان هذا الرفض؟ لأن البحر الأحمر يمثل حقل ألغام يجب التحرك فيه بوعي وعلم ومسؤولية ومعرفة بالمعطيات على المسرح الإقليمي والعالمي. هناك رسالة دكتوراة قدمها اللواء د.عمر محمد الطيب (حول الإستراتيجيات الأمنية في البحر الأحمر) أنصح بالاطلاع عليها. قدمت أسرة وادي النيل في مصر نهاية التسعينيات ندوة ذات مستوى عالٍ من الجودة تحدث فيها اللواء عمر محمد الطيب وقدم تلخيصًا رصينًا حول رسالته للدكتوراه يصلح أن يكون إستراتيجية للسودان White paper للتعامل مع أمن البحر الأحمر، لم يكن من بين مقترحاته منح قواعد عسكرية لدول أجنبية على أرض السودان، بل أشار لخطورة مثل هذه التصرفات على الأمن القومي السوداني وما تخلقه من انحياز واستقطاب دولي وإضرار بعلاقات السودان مع جيرانه خاصة في مصر والخليج وبقية دول العالم.
(8)
ما قدمه الرئيس المخلوع البشير في موسكو في العام ٢٠١٧م من عرض لروسيا يعتبر اختراقًا وتهديدًا للأمن القومي السوداني، لم يحدث له مثيل في تاريخ البلاد حتى عندما كانت ترفع الحكومة في السودان شعارات الاتحاد السوفيتي العظيم، كما يشكل تصرف الفريق البرهان الحالي ومن يقف خلفه خطرًا على دول الخليج العربي والغرب. قد لا يعلم الفريق العطا وعقار ود. جبريل تعقيدات دعوة روسيا وإيران للبحر الأحمر في إطار صراعهم المحموم من أجل السلطة والحاجة لظهير دولى *خطورة منح قواعد أجنبية على التراب الوطني في البحر الأحمر تتقاطع مع الإستراتيجيات الخليجية والمصرية والأمريكية والأوربية والإسرائيلية في البحر، فهي استقطاب عداء مجاني لدولة صغيرة ومحدودة القدرات تعيش في حالة حرب أهلية مثل السودان، لذلك نقول مثل هذا العبث بالأمن القومي الوطني هو الذي يأتي بالطائرات طافية النور لضرب الخرطوم في دولة دفاعها ما يزال بالنظر، كل ما تملكة ضبط النفس والاحتفاظ بحق الرد.
(9)
ختامة
)منح تسهيلات لدولة إيران وقاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر هى عطاء من لا يملك لمن لا يستحق* على القوى الوطنية السودانية والعقلاء في البلاد العمل على إلغاء هذا الموضوع الخطر على أمن ومصالح البلاد فوراً، يجب العمل على عقد ورشة تنويرية في الوقت المناسب لكل المختصين تخرج بتوجيهات واضحة لكيفية التعامل مع القضايا الإستراتيجية خاصة أمن البحر الأحمر. (الما بعرف يغرف ما تدوهو الكأس، بيكسر الكأس ويعطش الناس)، البحر الاحمر أحد كروت المساومة الدولية الهامة للسودان يجب أن نعرف كيف نلعب به لمصلحة إستراتيجيات السودان العليا الاقتصادية والأمنية والمعلوماتية، ليست لصراعات السلطة وأزماتها.
لا يَصلُحُ الناسُ فَوضى لا سَراةَ لَهُم
وَلا سَراةَ إِذا جُهّالُهُم سادوا
١٢ يوليو ٢٠٢٥م