أزمات السياسية السودانية 

 

أسامة النور 

 يرى الكاتب أن أزمة السودان تتجاوز الخلافات الحزبية الشكلية، إذ إنها في جوهرها صراع بين مشروعين: أحدهما وطني مدني ديمقراطي، والآخر شعبوي أيديولوجي منغلق يستند إلى تصورات ثيوقراطية لهوية الدولة والمجتمع، وأن الحرب ليست إلا أحد تجليات هذا الصراع العميق.

يشير إلى أن الحزب الاتحادي لم يكن موحّدًا منذ نشأته، بل كان تحالفًا هشًّا بين تيارات متباينة فكريًا واجتماعيًا، ومع سقوط مشروع “الاتحاد مع مصر” فقد الحزب بوصلته، وبدأت سلسلة الانقسامات التي أنهكت بنيته الفكرية والتنظيمية.

يوضح الكاتب أن 

التحالفات والانقسامات التي شهدها الحزب بعد الاستقلال كانت سطحية ومبنية على حسابات طائفية أو تكتيكية، لا على مشروع وطني متماسك، ما أدى إلى مزيد من التشرذم وغياب البوصلة الفكرية الجامعة داخله.

 يخلص إلى أن دعوات “وحدة الاتحاديين” تبدو بلا جدوى ما لم تُبنَ على مشروع وطني واضح، فالأزمة الحقيقية تكمن في غياب الفكرة لا في تفكك التنظيم، والسودان بحاجة إلى مشروع مدني ديمقراطي جديد يتجاوز إرث الطائفية والانتهازية السياسية.

=‫=====‬

أزمة السودان ليست أزمة حزب.. بل صراع مشروعين

د. أسامة النور

في خضم ما يثار من دعوات متكررة لوحدة الحزب الاتحادي، تنصرف الأنظار دومًا إلى ترتيب “البيت الاتحادي” أو محاولة جمع أطرافه المبعثرة، وكأن الأزمة تكمن فقط في شتات الأجسام السياسية. ولكن ما يغيب عن هذا الطرح هو السؤال الأهم: من هم أطراف الصراع الحقيقي في السودان؟ وما طبيعة هذا الصراع؟

إننا نعيش منذ عقود داخل صراع لم يُعرّف بعد بدقة، صراع يتجاوز الأحزاب وتوازنات السلطة، ليتجذر في البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع السوداني. هو صراع بين مشروع وطني مدني ديمقراطي، وبين مشروع شعبوي أيديولوجي وثيوقراطي منغلق. وهذا الأخير لا يستند فقط إلى طموحات سياسية، بل إلى تصورات عميقة حول هوية الدولة، والمجتمع، والمستقبل.

هذا الصراع لم يبدأ مع الحرب، بل الحرب هي إحدى تجلياته العنيفة. ولذا فإن اختزال الأزمة في صراعات حزبية داخل هذا الكيان أو ذاك، أو في تقلبات التحالفات والانشقاقات، هو قصر نظر سياسي، وتأجيل للمواجهة الفكرية والاجتماعية الحقيقية.

الحزب الاتحادي.. تعددية التيارات منذ النشأة

منذ نشأته، لم يكن الحزب الاتحادي حزبًا موحدًا من حيث المرجعية الفكرية، بل كان تحالفًا بين تيارات متعددة، بعضها أقرب لليسار التقدمي، وبعضها محافظ ذو مرجعية دينية أو طائفية، نشأت في سياقات ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تداخلت التأثيرات القومية، والتحرر الوطني، والمرجعيات الصوفية، مع دعوات التحديث.

تجلت أزمة الفكرة نفسها في الهدف المركزي للحزب آنذاك: الاتحاد مع مصر. فقد انهزم هذا المشروع مبكرًا، مع تصاعد تيار الاستقلال الكامل، وتبين أن فكرة الاتحاد لم تكن قابلة للحياة في الواقع السياسي والاجتماعي السوداني. ومع سقوط الهدف، بدأ نزيف الانقسامات، وخرج عدد من أبرز المستنيرين مثل الأستاذ أحمد خير وخضر حمد وغيرهم.

انقسامات وتحالفات فوقية

عقب الاستقلال، انقسم الحزب إلى جناحين:

الوطني الاتحادي.

والشعب الديمقراطي المرتبط بالطريقة الختمية.

وبدل أن تنتج هذه الانقسامات مراجعة فكرية جادة، دخلت هذه التيارات في تحالفات تكتيكية ظرفية، أبرزها اتفاق عام 1967 بين الأزهري والسيد علي الميرغني، لمجرد خوض الانتخابات ضد حزب الأمة، في سياق التنافس على رئاسة الجمهورية وترشيح الإمام الهادي. لم يكن هذا التحالف مبنيًا على برنامج وطني متماسك، بل على تقاطعات طائفية وعقائدية ظرفية.

ثم توالت التحالفات والانقسامات، من انحيازات انقلاب 1958، إلى مواقف ما بعد ثورة أكتوبر، إلى الخلافات حول الدستور الإسلامي، إلى طرد نواب الحزب، إلى بروز شخصيات نافذة صنعت استقطابًا داخليًا دون مشروع جامع.

فشل الوحدة لأن المشروع غائب

إن من يتحدث عن “وحدة الاتحاديين” يغفل أن الوحدة السياسية لا تقوم فقط على الانتماء التنظيمي أو العاطفي المشترك، بل على المشروع الوطني الواضح. وما لم يُطرح سؤال: ما هي الفكرة التي نتوحد حولها؟ فإن أي دعوة للوحدة ستظل محض هندسة تنظيمية فوقية، بلا قاعدة فكرية ولا رؤية مستقبلية.

بل إن غياب المشروع الاتحادي ذاته في سياق السودان الحديث، بعد كل هذه التحولات، يطرح سؤالاً وجوديًا: هل يمكن أن يعود الحزب الاتحادي كقوة فاعلة بدون مراجعة جذرية لأفكاره وهياكله وتوجهاته؟

 الأزمة أعمق من الأحزاب

إن أزمة السودان اليوم لا تختزل في حزب بعينه، ولا في وحدة تيار أو تفتته. بل هي أزمة مشروع وطني معطّل، تهيمن عليه قوى شعبوية طائفية، لا تؤمن بالمدنية أو الديمقراطية، وتعيد إنتاج الأزمات باسم الدين أو الهوية أو الإرث.

لذلك، فإن مهمة الجيل الجديد ليست فقط إعادة ترتيب الصفوف، بل إعادة تعريف الصراع، وبناء مشروع وطني مدني ديمقراطي جامع، يعالج جذور الأزمة، لا قشورها.

Exit mobile version