من على الشرفة
طاهر المعتصم
للعام الثالث على التوالي، لا تصدر في السودان صحيفة ورقية واحدة، هجرت المطابع التي كانت تئن تحت وطاءة المطبوعات يوميًا حتى ساعات الفجر الأخيرة، نتسابق في شارع الجرائد في قلب الخرطوم كنا، لنلحق بالمطبعة.
أضحت بورتسودان عاصمة إدارية مؤقتة، لكنها دون رائحة حبر الطباعة، ثم أتى عليها حين من الدهر، قبل وصول الدكتور كامل إدريس إلى مطارها، أصبحت القنوات الفضائية لا تستطيع عمل استبيانات مع المواطنين في شوارع بورتسودان، بل ممنوعة بالقوانين المقيدة لحرية الصحافة من أن تغادر مكاتبها، في سابقة لم تحدث في تاريخ السودان، سيظل يذكرها التاريخ.
وكالات الأنباء تحتاج إلى إذن مزاولة عمل في العاصمة المؤقتة مدته شهر واحد ثم يجدد، إحدى الوكالات قدمت منذ أسبوعين لتجديد إذن العمل، ما زالت في انتظار موافقة جهاز المخابرات الوطني حتى لحظة صدور هذه المجلة.
الحكومة السودانية تفتقد السلطة الرابعة، وأضواءها الكاشفة، وتحقيقاتها المهنية، والشعب السوداني واقع تحت موجات الأخبار المضللة التي لا تستثني أحدًا، وخطاب الكراهية الضارب بأطنابه، الذي تسبب في روندا في مقتل حوالي 800 ألف من التوتسي والهوتو بحسب تقارير الأمم المتحدة.
وجود صحافة مهنية ملتزمة بتقاليد المهنة، جزء من فضاء مدني لبناء السودان، ومكافحة للأخبار المضللة، ورتقًا للنسيج اجتماعي ممزق، وانتشار عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبرامج في الفضائيات المحلية، تحلل أقوال الصحف، على غرار (مانشيتات) في طيبة الذكر سودانية 24، و(بعد الطبع) على قناة النيل الازرق، وأيضًا قناة البلد، فتتحول الصحف من آلاف القراء إلى ملايين المشاهدين وعشرات ملايين المتابعين في وسائل التواصل الاجتماعي، تنقلها قوالب صحفية محكمة، يسهر عليها عشرات المحررين والمحررات.
الصحافة الحرة لا يخشاها إلا الذي في قلبه مرض، أو يخافها من يخشى الأضواء الكاشفة، لله در الصحفيين والصحفيات الذين ما استكانوا أو نسوا تقاليد المهنة وإرث الآباء المؤسسين، تنزلت شآبيب الرحمة والمغفرة على من رحلوا إلى الدار الآخرة منهم، أبناء مهنة المتاعب الذين سعوا إلى ممارسة المهنة عبر الصحف والمجلات الإلكترونية، في مقدمتهم مجلتكم هذه (أفق جديد).
على حكومة بورتسودان وهي تخطو نحو فضاء مدني، رغم ضغوطات حركات مسار دارفور من جهة، والوزراء غير التكنوقراط من منسوبي النظام السابق من جهة، أن تدرك أن أمة بدون صحافة خاسرة، وأن القيود التي وضعت في الأشهر الأخيرة قيود معيبة، وأنها هي الخاسرة من عدم وجود صحافة مهنية وإعلام وطني، فالبديل إعلام ذو أجندة داخلية وخارجية، والشاهد أن الصحف السودانية، كشفت تحركات الدعم السريع ومحاصرته لبعض الجهات قبل وقوع حرب أبريل، على سبيل المثال لا الحصر صحيفتي (السوداني) و(الحراك السياسي).
أما أهل مهنة المتاعب، فقد سطروا الأسبوع الماضي، ملحمة تدل على أن هذه المهنة رحم بينهم، صحيح (البطن بطرانة)، لكنهم في وعكة الزميل أشرف عبدالعزيز ضربوا مثلًا في تناسي الاختلافات والخلافات، والتعاضد والتآزر بين بعضهم البعض.
آخر قولي إن إزالة القيود والسماح للإعلام المدرك لحدود الأمن القومي، هو لبنة من لبنات فضاء مدني، ينهي كابوس الحرب، ويبعد شبح الكراهية، ويبدد سحب الأخبار المضللة، وأنوار مسلطة لا يستقيم معها سحب الفساد في تغطية أضواء الحقيقة، هل يقوم رئيس الوزراء بفتح أبواب حرية الإعلام، وإلغاء البلاغات الكيدية ضد الصحفيين السودانيين، إيذانا بعهد جديد.