جريمة الحياد

 

في زمن الحرب، لا يُطلب من الصحافي أن يكون مقاتلًا، ولا أن يحمل السلاح أو يصرخ بالشعارات، لكن عليه، في المقابل، أن يعرف جيدًا أي ضمير يحمله قلمه، وأي أثر يمكن أن تخلفه كلماته، ولعل من أخطر ما يُقال في مثل هذه الأوقات: “على الصحافي أن يكون محايدًا”، والسؤال الجوهري يرن في ضمير كل حامل قلم، هل يُعدّ الحياد موقفًا أخلاقيًا في زمن المجازر والانتهاكات؟

الخلط الشائع بين الحياد والموضوعية لا يخدم الصحافة، بل يُجرّدها من وظيفتها، الصحافة التي تُساوي بين الجلاد والضحية، بين القاتل والمقتول، لا تمارس مهنية محايدة، بل تشارك – بشكل ما – في التعتيم، والتضليل، وإطالة أمد الجريمة وتوحشها.

نعم، يُفترض بالصحافي أن يكون موضوعيًا.. يتحقق من مصادره، ويمنح الأطراف المتنازعة فرصة للرد، ويعرض الوقائع كما هي. لكن الموضوعية شيء، والحياد الأخلاقي شيء آخر تمامًا، ففي الحروب، يتجاوز الصحافي كونه ناقلًا للخبر، ليصبح شاهدًا على الانتهاكات، وصوتًا للضحايا، فهو آخر من تبقى لهم ليسجّل صرختهم في وجه النسيان.

الصحافة ليست قفصًا زجاجيًا يُراقب من بعيد، بل مرآة تعكس آلام الناس وتفضح من يعبث بحيواتهم، والمهنية لا تعني أن نتجاهل وجود معسكر للضحايا وآخر للجناة، وأن تحدد موقعك بدقة واختياراتك بإنصاف. بل إن أعظم تغطيات الحروب، من البوسنة إلى رواندا، ومن سوريا إلى ليبيا القريبة، حملت هذا الانحياز الأخلاقي الواضح إلى جانب الحقيقة، حتى لو كلف أصحابها الطرد أو النفي أو التهديد بالموت.

ومع أن كثيرين من الصحافيين يتذرعون بأن “المعلومة غير مكتملة” أو أن “الوضع معقد”، فإن المذبحة لا تحتاج إلى تدقيق مطول، فالدماء السايلة تفضح الجاني وتحدد موقع المجني عليه، فالضحايا لا ينتظرون تحققًا دقيقًا ليُعترف بمأساتهم. في بعض الأحيان، يكون التردد في قول الحقيقة نوعًا من الخيانة.

هل يمكن لصحافي أن يرى أطفالًا يُحرقون بالطائرات، أو مدنًا تُجرف، بالمسيرات أو نساءً يُغتصبن في وضح النهار، ثم يصمت أو يعود ليكتب تقريرًا “محايدًا”؟ أن يتحدث عن المهنية والموضوعية.. الحياد في هذا السياق لا يصنع احترامًا، بل يمسخ الكرامة، لأن الصحافي إن لم يرفع صوته بالحق، فصمته سيكون تواطؤًا وخزي يلاحقه حتى بعد الممات.

لقد علمتنا الحروب أن من يصمت اليوم عن القتل، سيُسأل غدًا عما كتبه أو ذاك الذي لم يكتبه، فالتاريخ لا ينسى من وقف مع الضحية، ومن ساند الجزار، كما لا يغفر لمن وازن بين النيران واللحم الحي، والوثائق تُحفظ، والمواقف تُسترجع، والأقلام تُحاسب، مهما طال الزمن.

وليس الحديث هنا عن شعارات أو خطاب عاطفي، بل عن جوهر الصحافة كما وُلدت: سلطة رقابية، وضمير شعبي، ومرآة للحقائق. من ينزع عن الصحافة هذه الوظائف، يجعل منها نشرة علاقات عامة، أو امتدادًا لغرف العمليات.

الصحافي لا يُطلب منه أن “يناضل”، لكنه يُطلب منه أن يقول الحقيقة، والحقيقة في زمن الحرب ليست رمادية، هنالك قاتل، وهنالك ضحية، وهنالك رواية بديلة تُطبخ في غرف الدعاية، وأخرى تُولد في وسط الجثث في القرى المحروقة والمشافي المدمرة.

من هنا، فإن السؤال لا يجب أن يكون، هل الصحافي محايد؟ بل، هل كان صادقًا؟ وهل نصر الحقيقة ولو بكلمة؟ وهل سمح لنفسه أن يرى بعينيه، لا بعدسة السلطة أو تعاليم المؤسسة؟

مطلوب من الصحافي، في أزمنة الدم، أن يجرؤ. أن يسمّي الأشياء بأسمائها، أن لا يكتفي بالمصطلحات الملساء،، بل أن يقول الحقيقة كاملة “مجزرة”، “إبادة”، “تطهير” وكل هذه الجرائم ارتكبت من الطرفين في هذه الحرب القذرة التي تدور رحاها في غرف المدنيين ومزارعهم ومراعيهم.

ولعل أقسى ما يكشف خواء هذا العصر الأخلاقي هو ما فعله – ويفعله – كثير من الإعلام العربي تجاه الحرب في السودان، حرب ضارية تمزق بلدًا يفترض أنه عربيًا، تنتهك فيها الحرمات، وتُباد فيها مدن بأكملها، ويُذل فيها ملايين المدنيين بلا حماية، ومع ذلك، اختار معظم الإعلام العربي الصمت، أو الأسوأ، التعامي المتعمد، والاكتفاء بالتغطية الكسولة أو المضلِّلة في كثير من الأحيان.

ليس الصمت هنا مجرد تقصير مهني، بل هو سقوط أخلاقي وتواطؤ مع الجريمة بصيغة الامتناع، كيف يمكن لمؤسسات إعلامية تُفاخر بانتشارها ومهنيتها أن تعجز عن موضوعية لأبشع حرب في المنطقة، بينما تُفرد ساعات البث لحروب الآخرين البعيدين؟

هذا العار لن تمسحه من صحائف معظم المؤسسات الإعلامية العربية، وكثير من الإعلاميين العرب، مرور السنوات سيظل محفوظًا في سجل ويوميات أهل السودان، لان المأساة أعمق، إذ لم يكلّف أغلب الإعلاميين العرب أنفسهم حتى عناء كتابة تغريدة شخصية واحدة على حساباتهم تُدين ما يحدث في السودان، وتناصر الضحايا فيه، مكتفين بترديد ما تنتجه غرف الدعاية الحربية.

 الصحافي في حالات الحروب لا يسأل فقط عمّا قال، بل سيسأل عمّا سكتَّ عنه، عمّا رأه وتغاضى عنه، ومر بجانبه دون أن يكلف نفسك بكتابة كلمة “لا”، وسيسطر التاريخ في سفره الخالد كيف تعامل الإعلام العربي مع حرب السودان، وكيف عالج مراسليه وكبار صحافية “أكبر كارثة” إنسانية في العالم بلا مبالاة  مدعين الحياد، وهم يعرفون أن الحياد في هكذا حرب جريمة أخلاقية.

Exit mobile version