رحاب فضل السيد
في منزلنا الأليف بقرية مشيري، يلتقط المذياع إشارة البث المرسلة من محطة ود المجذوب الواقعة شمال مدينة ودمدني عاصمة ولاية الجزيرة، ونشرة الأخبار تتصدرها أخبار المشروع، جولات المحافظ والمفتشين الزراعيين، موقف انسياب المياه في “الترع والمواجر”، مراحل العروات الزراعية، موعد صرف “الحساب الفردي”، مراحل ترحيل القطن إلى المحالج وغيرها من برامج الإرشاد الزراعي… “اتنين في ود مدني” تلك العبارة ظلت بمثابة الشعار المنحوت في الذاكرة الجمعية لمواطني ولاية الجزيرة ممن يعشقون الاستماع لإذاعة ود مدني، وكوب الشاي يغازل بخاره فضاءات المكان الأليف، هي طقوس العشق للأرض والمكان، أرض وَهَبَت الخير والخضرة، ووُهبت العمر بأكمله، طقوس وتفاصيل لا يحسها إلا من سكن أرض الجزيرة وسكنته، وصاغت وجدانه وشكلته بطينة الطهر وماء الوفاء. تأتي مئوية مشروع الجزيرة “1925 – 2025” وتغييرات كثيرة حدثت في الأرض والإنسان، وطال العبث إذاعة ود مدني صوت المشروع العملاق، وقد فقدت كثير من تلك الأصوات التي لا تعوض، رحم الله الأستاذ الصادق الساتي وعلاء الدين علي محمد وعبود سيف الدين وغيرهم، وتحيات الصحة والعافية للأستاذة عواطف سر الختم، هادية عبيد، إبتهاج قوي، أميمة سعيد، إيهاب الأمين، وكل صوت إذاعي صدر عن إذاعة ود مدني التي كانت “ملتقىً للأصدقاء” تعانقهم بجبين مطروح من “سوبا لسنار”.
أسهم مشروع الجزيرة في توفير فرص عمل كثيرة وأسهم في استقرار المجتمعات المحلية وخلق علاقات اجتماعية مميزة بحكم التداخل بين مواطن الولاية، وكل وافد جاء متنقلاً للعمل في المشروع، ونحن في بداية مراحلنا الدراسية، أسسنا علاقات صداقة أمتدّت لأزمان طويلة مع زميلات الدراسة من بنات المفتشين والمهندسين الزراعيين بالتفاتيش المحيطة بقريتنا وكنا نتبادل معهن الزيارات العائلية.. كانت طائرات الرش التي تأتي في الصباح الباكر يستفزنا منظرها وهي تكاد تلامس الأرض، وصوت أزيزها العالي يبعثر ما بقي من هدوء داخل المدرسة، هذا المنظر كفيل بنسف استقرار الفصل حتى وإن كان الأستاذ يلقي حصته، نهرول ناحية الشبابيك، وآخرون يتدافعون نحوهم ويسقط آخرون، وأما البقية يخرجون عبر الباب لمتابعة حركة الطائرة من خارج الفصل.
كنت وما زلت معجبة بمنزلنا وهو عبارة عن مشروع جزيرة مصغر بحكم عمل الوالد، أعداد كبيرة من جوالات البذور والأسمدة المرصوصة من أجل توزيعها للمزارعين، وأخرى يتم تجهيزها للترحيل لجهات مختلفة، دفاتر وإيصالات، أختام ومفاتيح. تعجبني طريقة تحضير “الحبر الأسود” المصنوع من حجارة البطارية لكتابة الاسم ورقم المكتب والتفتيش على جوالات القطن قبل تصديرها للمحالج، وهي طريقة أقرب لتحضير الدوايا التي تستخدم في خلاوى تحفيظ القرآن.
يأوي المشروع أكثر من ثلاثة ملايين ونصف نسمة يقيمون فيه بشكل مستقر، من المزارعين والعمال الزراعيين الدائمين والموسميين وعمال المؤسسات الخدمية، وتترواح مساحة قطعة الأرض التي يملكها الفرد الواحد من المزارعين ما بين أربعين فدانًا وخمسة عشر فدانًا حتى ثلاثة فدادين، وتعرف باسم الحواشة، ومنذ بداية تأسيس المشروع كان العمال الزراعيون وسكان “الكنابي” القوة الحقيقية التي قامت بالعمليات الزراعية والحصاد والري، وأسهموا حتى في شق الترع والكنارات، وبناء السرايات الإنجليزية والكباري والمنشآت الحيوية، وقد نجح هؤلاء في إقامة علاقات طيبة في مجتمعاتهم المُضيفة وتشاركنا معهم قاعات الدراسة والأفراح والأتراح.