إعادة البناء من الأطراف: الفيدرالية الإقليمية غير المتماثلة

Rebuilding from the Peripheries: Asymmetric Regional Federalism

 

د. عصام الدين عباس

ما إن انفضت جلسة البرلمان نهار التاسع عشر من ديسمبر 1955 معلنة بالإجماع استقلال السودان وإنهاء الحكم الإنجليزي الذي تجاوز نصف القرن بقليل، حتى أطلت برأسها سلسلة من الصراعات متعددة الأوجه. الكل رأى بعينيه وميض النار بين الرماد، واشتم دخانها المكتوم وهي توشك أن يكون لها ضرام، ولكنهم أداروا لها ظهورهم وتركوها تستعر وهم يظنون أن لهيبها لن يتجاوز تلك الأطراف النائية، فتراكمت وتفاقمت حتى انفجرت في شكل حروب أهلية، صراعات جهوية، وانقسامات مجتمعية عمت كل السودان. تبدت مظاهر الصراع في العنف المسلح والتدهور الاقتصادي والانقسام السياسي، إلا أن جذوره البنيوية تعود إلى ثلاث أزمات مركزية مترابطة: أزمة الحكم المتمثلة في فشل النُظم المتعاقبة في بناء دولة مدنية ديمقراطية تقوم على سيادة القانون والتداول السلمي للسلطة، وأزمة الهوية الوطنية الناجمة عن عجز الدولة عن الاعتراف بالتنوع الثقافي والإثني والديني، وسعيها لفرض هوية أحادية أقصت قطاعات واسعة من المجتمع، وأزمة الخلل الاقتصادي الناتج عن مركزية التنمية والتوزيع غير العادل للثروة، وتهميش الأقاليم التي ظلت محرومة من الموارد والخدمات لعقود طويلة. في ظل تعقيدات الواقع السوداني وتعدد مكوناته، لم تعد الحلول التقليدية مركزية النشأة قادرة على معالجة هذا الإرث المتجذر الصراع. وبرغم أن الدولة المركزية قد سعت كثيرًا لإيجاد حلول إلا أن جميع محاولاتها قد باءت بالفشل، لا لشيء سوى أن جميع المبادرات قد وضعت بروح الوصاية المركزية ولأجل اقتسام السلطة وإرضاء فئات بعينها، بينما يتم تجاهل المجتمعات المحلية وتغافل جذور الصراع. هنا برز السؤال المحوري، ألم يحن الوقت لتجاوز إعادة انتاج الفشل من خلال اتفاقيات تقاسم السلطة والانتقال إلى تصور استراتيجي يقوم على مخاطبة جذور الصراع واجتراح رؤى جريئة مصممة بإتقان على الواقع السوداني؟ هذه الرؤية، التي أتبناها وأدافع عنها، تستند إلى نموذج “الفيدرالية الإقليمية غير المتماثلة Asymmetric Regional Federalism” القائم على التعدد في إطار الوحدة، ومنح الأقاليم سلطات واسعة غير متماثلة لإدارة شؤونها وفقًا لخصوصياتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ضمن إطار سيادي اتحادي مشترك.

جذور الصراع في السودان

تعود جذور الصراع في السودان إلى تراكُم أزمات تاريخية في بنية الدولة، تتجلى أساساً في ثلاثية الحكم، الهوية، والتنمية الاقتصادية. فقد فشلت النُخب المتعاقبة منذ الاستقلال في بناء نظام حكم ديمقراطي شامل يعكس تنوّع البلاد الثقافي والجغرافي، مما أفضى إلى تهميش مناطق واسعة وتغوّل المركز على الأطراف. كما ظلت أزمة الهوية تمثل عامل تفتيت بدل أن تكون مصدر وحدة، نتيجة لغياب مشروع وطني يعترف بالتعدد الثقافي والعرقي والديني للسودانيين. وعلى الصعيد الاقتصادي، كرّست السياسات التنموية الاختلالات الإقليمية، حيث تركزت التنمية في الوسط والشمال، مقابل تهميش مزمن للشرق والغرب والجنوب، مما غذّى الشعور بالظلم وخلق بيئات حاضنة للنزاعات. إن إدراك هذه الجذور ضروري لفهم مسار الصراع والحلول الممكنة.

أولًا: أزمة الحكم

فشلت النظم السياسية المتعاقبة في بناء نظام حكم عادل وشامل يُراعي التعدد الإثني والديني والثقافي في البلاد، مما كرّس أزمة حكم مزمنة تجلت في بعدين أساسيين: أولهما انعدام الشرعية السياسية والدستورية، حيث اعتمدت الأنظمة المتتالية على القوة العسكرية والتحالفات المرحلية بدلًا من التوافق الشعبي، ما أدى إلى تكرار الانقلابات وإجهاض التجارب الديمقراطية القصيرة، وأضعف ثقة السودانيين في المؤسسات المدنية والدستورية. لم تولِ الحكومات، خاصة العسكرية منها، أهمية لبناء مؤسسات فاعلة، بل عمدت إلى تسييس القضاء والجهاز التشريعي، وتركزت السلطة في يد النخب الحاكمة دون مساءلة، ما أدى إلى تغوّل السلطة التنفيذية وتغييب حكم القانون. أما البعد الثاني فهو تهميش الأطراف والمكونات الاجتماعية، حيث احتكرت النخب المركزية السلطة والثروة لصالح مناطق بعينها في وسط وشمال السودان، بينما عانت الأقاليم الأخرى كدارفور، النيل الأزرق، جبال النوبة، والشرق من التهميش التنموي، والإقصاء السياسي، والهيمنة الثقافية. تمركزت الاستثمارات والخدمات في العاصمة الخرطوم، في حين حُرمت المناطق المنتجة للموارد من عوائدها، مما رسّخ شعور سكان الهامش بالاستغلال والإقصاء، وأسهم في نشوء حركات مسلحة تطالب بالعدالة والمساواة، أو حتى بالانفصال. إن فشل الدولة السودانية في إدارة هذا التنوع بعدالة ومشاركة، هو ما مهّد لانفجار النزاعات، وتقويض فرص بناء دولة وطنية مستقرة.

ثانيا: أزمة الهوية الوطنية

تتصدر أزمة الهوية جذور الصراع المستمر في السودان، إذ فشلت الدولة الوطنية، بل ومنذ فترات الاستعمار، في بلورة هوية قومية جامعة تعكس التعدد العرقي والديني والثقافي الهائل الذي يميز المجتمع السوداني. وبدلاً من ترسيخ مشروع وطني يقوم على الاعتراف بالتنوع والمواطنة المتساوية، انتهجت النخب الحاكمة سياسات إقصائية سعت إلى فرض هوية أحادية ذات طابع عروبي-إسلاموي كمكون “رسمي” للدولة، مما همّش المكونات غير العربية وغير المسلمة، وأسهم في إنتاج شعور عميق بالاغتراب الثقافي لدى سكان مناطق مثل دارفور، جبال النوبة، النيل الأزرق، وجنوب السودان قبل الانفصال. وبدلاً من أن تكون الهوية القومية أداة للوحدة، تحولت إلى أداة للصراع والانقسام، وانعكست على شكل نزاعات مسلحة وصراعات مستمرة على الاعتراف والعدالة.

في المقابل، يشكّل السودان لوحة معقدة من الهويات المتعددة: عرقية متجذرة، دينية متباينة، ثقافية، وإقليمية متنوعة، تعكس جميعها ثراءً حضاريًا كبيرًا لكنه غير معترف به مؤسسيًا. هذا التنوع، حين أُدير بسياسات مركزية إقصائية – من تعريب قسري، وإقصاء مؤسسي، وفرض قوانين ومناهج لا تعترف بالآخر – أسهم في تفكيك النسيج الاجتماعي، وزرع بذور التمرد والتهميش، خصوصًا في مناطق الهامش. فبدلاً من الاحتفاء بهذا التنوع كبنية تأسيسية للدولة، تم التعامل معه كمصدر تهديد، ما ولّد تاريخًا طويلًا من النزاعات، وجعل مشروع بناء الأمة السودانية في حالة تعثر دائم.

ثالثا: أزمة التنمية الاقتصادية

اتسمت السياسات الاقتصادية طوال العقود الماضية بعدم العدالة، وصاحبها سوء التوزيع الجغرافي للموارد، وغياب الرؤية التنموية الشاملة. فقد ركّزت الدولة على تنمية المركز، لا سيما العاصمة الخرطوم، بينما عانت الأقاليم من التهميش التنموي الممنهج، مما أفرز تفاوتات حادة في مستويات المعيشة، والبنية التحتية، والخدمات الأساسية. كما فشلت الحكومات المتعاقبة في استثمار الموارد الطبيعية الوفيرة – مثل الزراعة، المعادن، والمياه – لصالح التنمية المتوازنة، تم توجيه الثروة لدعم شبكات النفوذ السياسي أو للانفاق الأمني والعسكري. وأدى غياب فرص العمل، وانتشار الفقر والبطالة، وغياب خطط تنموية مستدامة، إلى تصاعد الاحتقان الاجتماعي، ودفع العديد من المناطق المهمشة إلى التمرد والمطالبة بحقوقها عبر السلاح. كذلك، أسهم الاقتصاد الريعي المرتبط بالفساد والمحسوبية في ترسيخ طبقة ضيقة من المستفيدين، مقابل إقصاء الغالبية من ثمار التنمية. ومن ثمّ، فإن غياب التنمية الاقتصادية العادلة والمتوازنة لم يكن فقط عرضًا للأزمة السياسية، بل كان محركًا مباشرًا للصراع وسببًا في تقويض الاستقرار الاجتماعي والسياسي. وإنهاء هذه الأزمة يتطلب إعادة هيكلة شاملة للنظام الاقتصادي تقوم على العدالة التوزيعية، وتنمية الريف، وتمكين المجتمعات المحلية من مواردها.

من الصراع الى الاستقرار: البناء من الأطراف

إن تفكيك جذور الصراع السوداني العميقة يتطلب تجاوز الحلول الجزئية والمؤقتة نحو رؤية استراتيجية شاملة تعالج قضايا الحكم، والهوية، والتنمية الاقتصادية التي فشلت الدولة السودانية في التعامل معها خلال الحقب. وانطلاقًا من هذه التحديات، يبرز تصوّر متكامل للحل يقوم على تبنّي نموذج “فيدرالية الأقاليم غير المتماثلة”، الذي يُقرّ بتنوع نظم الإدارة والحكم بنهج غي متماثل داخل إطار قومي موحّد، بما يتيح لكل إقليم تكييف نظامه السياسي والثقافي وفقا لخصوصياته المحلية. ويتكامل هذا النموذج مع مفهوم “الفيدرالية التنموية” التي تمنح الأقاليم سلطات حقيقية لتخطيط وتنفيذ سياسات تنموية مستقلة، تستجيب لاحتياجاتها وتضمن التوزيع العادل للثروة. هذا النموذج يسعى لإعادة بناء الدولة من الأطراف على أسس جديدة من الشراكة والمواطنة والعدالة، بما يضمن الاستقرار، ويُمهّد لسلام مستدام وتعايش حقيقي بين مكونات السودان المتعددة.

الفيدرالية الإقليمية غير المتماثلة  Asymmetric Regional Federalism

فيدرالية الأقاليم غير المتماثلة هي نموذج لمعالجة تعقيدات السودان، وهي مستوحاة من نماذج عالمية مثل تطبيق أسبانيا لـ”دولة الأقاليم ذاتية الحكم State of Autonomies “، الهند “النظام الاتحادي شبه المركزي Quasi-Federal System”، المملكة المتحدة التفويض غير المتماثل (Asymmetric Devolution)، الفيدرالية الإثنية في جمهورية إثيوبيا (Ethno-Federalism)، وفيدرالية الشعوب المتعددة في كندا (Multinational Federalism). تتلاءم هذه الفكرة مع الواقع السوداني المتعدد إثنيا وثقافيًا وجغرافيًا. فهي تعني الحفاظ على وحدة السودان كدولة ذات سيادة، لكن بإقرار نُظُم حكم وإدارة وتنمية مختلفة في الأقاليم، بما يتناسب مع خصوصية كل إقليم أو منطقة، من حيث ثقافته، أولوياته الاقتصادية، تنظيمه الاجتماعي، وهويته التاريخية. لا يعني ذلك الانفصال أو التقسيم، بل مرونة في الحكم وتعدد في الأنظمة داخل إطار سيادي موحد. يهدف مشروع دولة واحدة نظم متعددة إلى حل أزمة الحكم من خلال إعادة توزيع السلطة عبر أنظمة حكم محلية/إقليمية متعددة، وتحقيق العدالة التنموية بتمكين كل إقليم من إدارة موارده وتحديد أولوياته، وتأسيس هوية وطنية شاملة تعترف بالتنوع وتديره إيجابيًا.

ركائز فيدرالية الأقاليم غير المتماثلة

 النظام السياسي المتعدد

حل أزمة الحكم في السودان يتطلب تبني نظام فيدرالي مرن يضمن توزيع السلطة بشكل عادل، بحيث يتمكن كل إقليم من إدارة شؤونه الداخلية من خلال نظام إقليمي ديموقراطي واسع الصلاحيات بمستويات غير متداخلة تشمل السلطة التشريعية، والتنفيذية، والقضائية ومستقل عن المركز، مع التزام كل إقليم بإطار القانون الاتحادي. يُمنح كل إقليم الحق في تبني نظامه الإداري والقانوني بما ينسجم مع خصوصياته الثقافية والاجتماعية، شرط ألا يتعارض مع المبادئ الدستورية التي اتفق عليها توافقيًا على المستوى القومي. وفي المقابل، تتولى السلطة الاتحادية المسؤوليات السيادية المشتركة كالدفاع، السياسة الخارجية، العملة، والمواطنة، إلى جانب التكامل مع حكومات الأقاليم بما يحقق توازناً فاعلاً بين المستوى المركزي الذي يمثل الوحدة الوطنية للامة السودانية والمستوى الإقليمي الذي يعكس التنوع المحلي.

الفيدرالية التنموية – تنمية بالأولويات المحلية

الفيدرالية التنموية (Developmental Federalism) هي نهج اقتصادي يركز على تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الأقاليم والمستويات المحلية داخل دولة فيدرالية، مع منح هذه الوحدات صلاحيات واسعة في تصميم وتنفيذ سياساتها التنموية الخاصة. الهدف منها هو تسخير التنافس الإيجابي بين الأقاليم، وتشجيع الابتكار المحلي، وضمان أن تتناسب البرامج التنموية مع الاحتياجات والظروف الفريدة لكل منطقة، بدلاً من فرض نموذج مركزي واحد. في هذا السياق، تحتفظ الحكومة المركزية بالصلاحيات السيادية الكبرى (مثل الدفاع، السياسة الخارجية، العملة)، ولكنها تعمل كمنسق ومُمكن وداعم للتنمية المحلية، وتوفر الأطر الكلية والموارد لضمان تحقيق الأهداف التنموية الشاملة للدولة.

الهوية الوطنية والاعتراف بالتنوع

في الدول التي تتسم بتعدد ثقافي وعرقي وديني، يعتبر الاعتراف بالهويات الثقافية المتنوعة أحد الروافع الجوهرية لمعالجة أزمة الهوية ويكتسب أهمية خاصة في سياق نموذج “دولة واحدة – متعددة النظم”. يقوم هذا النظام على الاعتراف الدستوري الصريح بالتعدد اللغوي والديني والثقافي بوصفه مكوناً أساسيًا للوحدة الوطنية، لا تهديداً لها. ويتطلب هذا الاعتراف توفير حماية قانونية ورسمية للغات والثقافات المحلية، بما يضمن بقاءها ونموها في مواجهة سياسات الإقصاء أو الذوبان القسري في ثقافة مهيمنة. كما يُرسّخ مبدأ المواطنة المتساوية كقاعدة للعلاقة بين الدولة وأفرادها، بحيث لا تكون الهوية الثقافية أو الانتماء العرقي شرطاً للحقوق أو للانتماء الوطني. وفي إطار الدولة متعددة النظم، يُمنح كل إقليم حرية تنظيم مؤسساته الثقافية والتعليمية بما ينسجم مع خصوصياته وهويته المحلية، شرط الالتزام بالمعايير الوطنية العامة، مما يُحقق التوازن بين الوحدة والتنوع. هذا النموذج يتيح للدولة إدارة التنوع بوصفه مصدر قوة وتماسك، لا سبباً للتجزئة أو النزاع، ويمهد الطريق لبناء عقد اجتماعي جامع وعادل.

معايير تقسيم الأقاليم

النظام الإداري الحديث في السودان نتج عن تطورات سياسية وتاريخية بدأت خلال الحكم الاستعماري وامتدت إلى فترة الحكم الوطني. ففي الحقبة الاستعمارية (1898–1956)، اعتمدت الإدارة البريطانية نموذجًا مركزيًا هدف إلى تيسير الحكم من خلال تقسيم البلاد إلى مديريات (مثل دارفور، كردفان، الشمالية، النيل الأزرق، الخرطوم) تتبع للحكم المركزي في الخرطوم، لكن تتمتع بقدر من التنظيم المحلي المرتبط بالزعامات القبلية. أما في فترة الحكم الوطني بعد الاستقلال، فشهدت البلاد تحولات إدارية متكررة، اتسمت بعدم الاستقرار، شملت الانتقال من نظام المديريات إلى نظام الأقاليم في السبعينات، ثم العودة لاحقًا إلى نظام الولايات. تميزت هذه التحولات بضعف الرؤية الاستراتيجية، وغياب اللامركزية الحقيقية، مما أسهم في تفاقم التفاوت التنموي والاحتقان السياسي بين المركز والأطراف، وأبرز الحاجة لنموذج إداري جديد أكثر عدالة ومرونة. التقسيم الإداري ينبغي ان يراعي المعايير التالية:

العدالة التنموية (Developmental Equity)

العدالة في توزيع الموارد والخدمات بين أقاليم السودان هي حجر الأساس لضمان استقرار الدولة ووحدتها. يقتضي ذلك معالجة التفاوت التاريخي في التنمية بين المركز والأطراف، من خلال تمكين الأقاليم من إدارة مواردها الطبيعية والبشرية، وتحديد أولوياتها التنموية. كما يستلزم اعتماد سياسات تمييز إيجابي تجاه المناطق التي عانت من التهميش والنزاعات، وتخصيص ميزانيات عادلة تدعم البنية التحتية، التعليم، الصحة، والفرص الاقتصادية في الأقاليم الأكثر احتياجًا.

 الخصوصية الثقافية والهُوياتية (Cultural and Identity Recognition)

السودان بلد غني بالتنوع الثقافي والإثني واللغوي، وهذا التنوع يجب أن يُدار لا أن يُطمس. يتطلب التقسيم الإقليمي الاعتراف بالخصوصيات الثقافية للمكونات المحلية، واحترام هوياتها التاريخية والاجتماعية. يحق لكل إقليم أن يعبّر عن ثقافته، ويمارس لغته، ويحتفل بتراثه، ضمن إطار سيادي موحّد يضمن التعايش السلمي ويمنع الإقصاء الثقافي. ويشكل هذا الاعتراف مدخلاً أساسيًا لبناء هوية وطنية جامعة تقوم على التعدد لا الإلغاء.

 الحكم الرشيد والتمثيل السياسي (Good Governance and Political Inclusion)

يرتكز أي نموذج اتحادي ناجح على تفويض حقيقي للسلطات نحو الأقاليم، بما يضمن مشاركة فعّالة للمواطنين في إدارة شؤونهم المحلية. يجب أن تتوفر للأقاليم صلاحيات دستورية واضحة تُمكنها من انتخاب حكوماتها وبرلماناتها المحلية، وتشريع قوانين في مجالات مثل التعليم، الصحة، الزراعة، والتنمية المحلية. ويسهم هذا في تقليل المركزية، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، وتعزيز الرقابة المحلية على أداء المؤسسات.

 التاريخ المشترك والتماسك المجتمعي (Historical Continuity and Social Cohesion)

يجب أن يُراعي التقسيم الإقليمي التاريخ المشترك والانتماءات القبلية والمناطقية للمجتمعات السودانية، لضمان التماسك الاجتماعي وتفادي النزاعات الحدودية أو التنافسات الإثنية. إن الاستفادة من التقسيمات التقليدية للأقاليم (مثل دارفور، كردفان، الشرق، الشمال…) قد يشكل مدخلاً عقلانياً لإعادة البناء على أسس مقبولة من المجتمع، مع تحديثها لتستوعب التغيرات الديمغرافية والاقتصادية. إن الحفاظ على الروابط الاجتماعية داخل الإقليم الواحد يشجع على التماسك المجتمعي ويعزز الولاء الوطني.

 المعقولية الجغرافية والإدارية (Geographic and Administrative Rationality)

من الضروري أن يتم تقسيم الأقاليم وفق معايير عملية تأخذ في الاعتبار الجغرافيا الطبيعية (مثل الأنهار، الجبال، شبكات الطرق)، والتوزيع السكاني، والقدرة الإدارية. يجب أن تكون الأقاليم متوازنة في حجمها وعدد سكانها إلى حد معقول، وقادرة على بناء مؤسسات إدارية محلية فعّالة، مع توفر عاصمة إقليمية تكون مركزًا للحكم والخدمات. هذا يسهم في تقليل الفجوات بين الريف والحضر ويُسرّع من وتيرة التنمية.

 المرونة السياسية والدستورية (Political and Constitutional Flexibility)

إن واقع السودان المتغير سياسيًا واجتماعيًا يتطلب نموذجًا إداريًا مرنًا، يسمح بمراجعة التقسيمات الإقليمية وتطويرها حسب الحاجة. ينبغي أن يُنص في الدستور على إمكانية تعديل حدود الأقاليم أو إعادة توزيع الصلاحيات بينها وفق آليات ديمقراطية مثل الاستفتاءات أو الحوار الوطني. كما يجب أن تُنشأ مؤسسات مستقلة لمراقبة أداء الأقاليم وضمان التوازن في السلطة. هذه المرونة تمنح النظام قدرة على التكيف مع المستقبل، وتمنع الجمود الذي قد يقود إلى النزاع أو الفشل المؤسسي.

أختم بالقول إن الخروج من دوائر الفشل المتكررة والانقسامات المزمنة في السودان يتطلب تبني نموذج جديد في التفكير والبناء، يعيد صياغة العلاقة بين الدولة ومكوناتها على أسس العدالة، والاعتراف، والمشاركة. فـ”فيدرالية الأقاليم متعددة النظم” لا تمثل مجرد إصلاح إداري، بل هي مشروع لإعادة تأسيس الدولة السودانية على عقد اجتماعي جديد يُنهي المركزية الإقصائية، ويعترف بالتعدد بوصفه مصدرًا للقوة، لا للتهديد. إن هذا النموذج بما يتيحه من حكم ذاتي للأقاليم، وعدالة في توزيع الموارد، ومرونة سياسية ودستورية، يشكل أرضية حقيقية لتحقيق السلام والاستقرار، ويمهد الطريق لبناء دولة موحدة بتنوعها، قوية بمواطنيها، ومتصالحة مع ذاتها وتاريخها ومستقبلها.

Exit mobile version