الخرطوم في البعد أجمل..

الزين عثمان

  الخرطوم الجميلة التي بات الموت فيها أكثر من الحياة، يقاتل أهلها لإبدال آلامهم آمالًا، يمضون في شوارع لا تعرفهم ولا يعرفونها، رفيقهم الخوف لما يمكن أن يحدث، حيث لا أمان في مدينة عبرت بشوارعها الحرب.

مدينة غادرها الموت بالرصاص والقذائف مؤخرًا بين المقاتلين، دون أن تغادرها أسباب الموت، فلا تزال آثار الدماء في الطرقات، يحتقب الناس أحزانهم في رحلة العودة للمنازل قبل حلول الظلام، والسائد هو أن “لا أحد يأمن من سلوكيات حملة السلاح وما أكثرهم”.

 الكهرباء أوقات غيابها أكثر من أوقات حضورها، الحصول على مياه صالحة للشرب يحتاج جهدًا، المشافي العامة معظمها مغلق، مؤسسات الخدمة العامة يسكنها “الخراب”، وموظفوها يوقعون أمام أنفسهم بـ “الغياب”، بين نازح أو لاجئ أو ثالث لا يملك قيمة المواصلات للوصول.

والي الخرطوم أحمد عثمان حمزة، الممسك بالمنصب منذ انقلاب أكتوبر 2021 رغم التقلبات السياسية والأمنية، مشغول بافتتاح “التكايا” الحكومية المركزية في العاصمة الخرطوم، بينما آلاف الكيلومترات تبعد سكانها الذين أجبرتهم الحرب على مغادرتها، وهم يرددون “الغربة عنها ميتة ممرحلة والرجعة إليها انتحار”.

 لجنة تطبيع الحياة

من عاصمته المؤقتة مستنداً على الوثيقة الدستورية المعدلة، وبواقع كونه رئيساً لمجلس السيادة يصدر القائد العام للجيش الفريق عبد الفتاح البرهان، قراراً بتكوين لجنة هدفها إعادة الحياة للمدينة الميتة، واختار لها عضو مجلس السيادة الفريق إبراهيم جابر رئيساً، وتضم اللجنة أعضاء من مجلسي السيادة والوزراء ووالي الخرطوم، وممثلين عن مؤسسات ذات الصلة.

وتختص اللجنة بإعادة المؤسسات الحكومية بصورة عاجلة إلى العاصمة، واستعادة الخدمات مع إعادة المواطنين.

ومنذ نجاح الجيش في استعادة العاصمة من قوات الدعم السريع تنطلق مبادرات لتشجيع عودة المواطنين للمدينة.

 إخلاء من المليشيات المسلحة

مثلت عودة المواطنين للخرطوم إحدى القضايا المختلف حولها بين فرقاء المشهد السياسي، بل تحولت نفسها لدعاية سياسية، تحاول السلطة توظيفها لخدمة أجندة تخصها.

 وسرعان ما أنتج قرار تطبيع الحياة في الخرطوم معركة أخرى انطلقت من دعوة لإخلاء العاصمة من الوجود العسكري والمظاهر الحربية.

وهو المطلب الذي يضعك في مواجهة حقيقة أن العاصمة صارت مسرحاً للمليشيات، حيث تم تحريرها من الدعم السريع بواسطة الجيش والقوة المشتركة للحركات المسلحة و كتائب البراء بن مالك ودرع السودان.

بينما اتجه البعض التلميح بإمكانية رفض القوات المشتركة مغادرة الخرطوم إستجابة لترتيبات هيئة الأركان، وهو الأمر الذي من الممكن أن ينقل البلاد نحو حرب كرامة جديدة قبل حسم معركة الكرامة الأولى.

 كامل في الخرطوم

  وصل كامل إدريس، رئيس الوزراء المعين إلى العاصمة الخرطوم، الجمعة، في زيارة هي الأولى التي يغادر فيها إدريس مقر إقامته في العاصمة المؤقتة بورتسودان، بعد ما يقرب من الشهرين من تعيينه.

 ومثل وصوله للعاصمة المتأثرة بالحرب فرصة عظيمة لمناصريه من أجل مواصلة تبشيرهم بمشروع “الأمل”. وبدأ إدريس جولته من مصفاة الجيلي والتقى المواطنين.

 الأوضاع ستستمر

 كان لافتًا أن يتوجه كامل إدريس إلى منزل الفنان ابو عركي البخيت في حي العرضة. وكان الفنان أبو عركي البخيت تمسك بالبقاء في منزله طوال فترة الحرب ولم يغادره، حاول البعض توظيف زيارة رئيس الوزراء لأبو عركي في سياق محاولاته من أجل التقارب مع كل المكونات، وعلى رأسها تلك المحسوبة على اليسار، بينما انتقدها فريق آخر يرى أن زيارة أسر الشهداء أكثر أولوية من الهبوط عند فنان موقفه داعم للسلام والسلم، بحسب تعبيرهم .

 وفي مرافعته عن الوضع الراهن في كامل البلاد، قال الفنان أبو عركي البخيت في حضور رئيس الوزراء “امتلأت سعة العقول هلعاً وأصبحت مرتعاً خصباً للرعب والجنون”، واكمل “ح تستمر الأوضاع على ما هي عليه في ظل استمرار الجدل العقيم”.

غادر رئيس الوزراء عركي من أجل الوصول للحارة 100 في أم درمان وتحديدًا مدينة الصحفيين، وفي ضيافة الصحفي يوسف عبد المنان وآخرين.

 جدل آخر

 بالتزامن مع زيارة كامل إدريس ثار جدل آخر كان بطله الناشط السياسي والموظف السابق في مكتب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، والمناصر للجيش لاحقًا والداعم للحرب حالياً “امجد فريد”.

 تمحور الجدل حول أسباب وجوده، وهل يمتلك صفة في الحكومة الجديدة، أم أنه هنا لكونه ابن أخ رئيس الوزراء؟

 نصف عام لتعمير المدينة

 تفقد رئيس الوزراء جسر “شمبات” الذي تدمر جزيئًا في فترة المواجهات بواسطة القوات المسلحة، وفي حضور والي الخرطوم.

وتعهد رئيس الوزراء بإعادة تعمير المدينة خلال ستة شهور، قال بعدها: “سنودع دمار الخرطوم وللأبد”.

 تعهدات رئيس الوزراء سرعان ما تطرح سؤالها حول إمكانية تحقيقها على أرض الواقع؟ وهل الفترة الزمنية التي تعهد بها كافية لإعادة الحياة للمدينة المدمرة، أم أن الأمر لا يعدو سوى كونه تصريحات لبث الطمأنينة، سينطبق عليها ذات ما حدث في تعهدات الرجل بتشكيل حكومة للأمل بعيداً عن المحاصصات الجهوية والحزبية، وهو ما كذبه الواقع في نهاية الأمر، حين تم تشكيل حكومة أطلق عليها الشارع تهكما حكومة “التكنوكلاش”. حيث لم يستطع رئيس الوزراء التغلب على الواقع، حيث أن “المجد للبندقية”، وانحنى لعاصفة حركات سلام جوبا وضغوطات رئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان مني أركو مناوي، والآخير صرح “ما عندنا مرشح بتم رفضه” بعد أن أحدث ترشيح نور الدائم طه لوزارة المعادن جدلًا، وبالفعل لم يتم رفض وزير للحركات، وعين نور الدائم وزيرًا للمعادن في حكومة كامل إدريس.

 تطبيع للحياة

 بعد ساعات من وصول رئيس الوزراء هبطت طائرة رئيس مجلس السيادة في مطار الخرطوم، كأول طائرة مدنية تهبط في المطار الأكبر في السودان منذ اندلاع حرب أبريل.

وهو مشهد آخر حاول دعاة تطبيع الحياة في زمن الحرب توظيفه بغية خدمة دعايتهم السياسية، وهي الدعاية التي دفع بها رئيس الوزراء حين طالب مواطني المدينة بالعودة الآن.

 مشاهد متناقضة

 في المدينة التي تحاول أن تلقي عن كاهلها حمل الحرب الثقيل يمكنك متابعة مشاهد ومحاولات لتطبيع الحياة أو استعادتها، أفواج العائدين من منافيهم، أصوات أبواق البصات القادمة للأحياء من مصر، واحتفال بإعادة افتتاح شارع الحرية المشهور ببيع الأدوات الكهربائية “تلاجات مكيفات وشاشات وغيرها”، وهي أكثر ما تم نهبه من قبل المتحاربين.

 وأسواق أخرى في المدينة تحاول معاودة نشاطها، هذا فيما يتعلق بمحاولات تطبيع الحياة، بينما يمكنك أن تتابع في المدينة ذاتها مشاهد أخرى تؤكد استحالة الحياة.

في سوق صابرين بمنطقة الثورة، وهو السوق الوحيد الذي لم يغلق أبوابه طوال فترة الحرب، يضطر التجار لإغلاق متاجرهم استباقاً لمواجهة عسكرية كادت أن تحدث بين قوات الجيش وبين القوات المشتركة، والسبب أن قوات المشتركة قامت بنصب ارتكاز لها في أحد مداخل السوق من أجل الجبايات قبل أن يتم تلافي الأمر.

وفي أم درمان ذاتها وعند موقف “الأمان” بحي العرب ينفذ مسلحون وملثمون هجمة سريعة تنتهي بنجاحهم في نهب المواطنين وجوالاتهم، قبل أن يفروا هاربين، حدث ذلك في وقت وجود رئيس الوزراء في الخرطوم.

عليه يظل هاجس الأمن وهشاشة الأوضاع وانتشار السلاح والمليشيات أحد أكثر القضايا تعقيداً فيما يتعلق بعملية تطبيع الحياة.

مشاكل أخرى

 الخرطوم مدينة لا يمكنك الحصول فيها على مياه صالحة للشرب في ظل التدمير الممنهج للبنية التحتية التي كانت في الأصل تعاني من اختلالات، والمفارقة أن رئيس الوزراء كان قد وجه بتقديم حافز لعمال المياه بعد نجاحهم في تشغيل محطة بنسبة 30% من طاقتها القصوى، مع أزمة المياه فإن ثمة أزمة أخرى وهي أزمة الكهرباء، عمليات النهب الممنهج للكوابل وللمحطات وسقوط أسلاك نقل التيار الكهربائي بفعل المواجهات تجعل من عملية إعادة التيار الكهربائي في الوقت الحالي على درجة عالية من الصعوبة، يضاف إليها الأزمة القديمة والمتعلقة بضعف التوليد الذي يقل عن الاستهلاك بنسبة كبيرة، مقروناً ذلك أيضاً بالمشكلات المتعلقة بالجوانب البيئية، تراكم الأوساخ والجثث التي تجرفها المياه مثلما حدث مؤخراً في منطقة الوادي الأخضر، وما تترتب عليها من عملية تفاقم الأمراض مع بنية صحية ومستشفيات شبه منهارة وخارج الخدمة، تجعل من العودة للخرطوم في الوقت الراهن مجرد تجربة للدخول نحو الجحيم وبقدميك، أو أنها خيار المضطر الذي أغلقت أمامه كل الأبواب.

قرار شخصي

بالنسبة للكثير من الخرطوميين فإن أقسى ما يجابههم الآن هو إجبارهم على الابتعاد عن مدينة حياتهم، وأن أمنية العودة إليها هي الأولى في قلوبهم، لكن الأمر يطرح سؤالًا آخر هل انتفت عوامل البقاء خارج المدينة؟ وهل عادت إليها الحياة؟ إن عدنا إليها الآن فهل سنجد منازلنا وممتلكاتنا داخلها؟ البعض عاد ووجد منزله يسكنه آخرون، والبعض عاد ليجد كل ما تبقى من شقاء عمره مجرد جدران بلا أبواب ولا شبابيك، “البيت شارع وما يحدث في الشارع أسوأ”.. لا يمكنك أن تبقى في مدينة بلا ماء وبلا كهرباء وبلا مشافٍ، لا يمكنك أن تبقي تحت رحمة “المليشيات” ومن ينتحلون صفات كونهم مليشيات، حيث أصدرت القوى المشتركة لحركات الكفاح المسلح السبت بياناً كشفت فيه عن توقيف استخباراتها لأشخاص يقومون بانتحال صفتها ويثيرون الرعب في أوساط المواطنين، يمارسون السلب والنهب، لكن في كل الأحوال يظل قرار العودة من عدمه قرار شخصي.

ومع ذلك لا يمكنك البقاء في مدينة قانونها هو قانون “القوة”، والمجد فيها لمن يحمل بندقية ويوجه لك اتهامات بكونك متعاون.

 يحسم أحد سكان الخرطوم وهو لا يزال بعيدًا عن مدينته الجدل بقوله “سأعود في اللحظة التي يعود فيها رئيس مجلس السيادة ورئيس الوزراء وطاقم حكومته لممارسة مهامهم من العاصمة والإقامة في المدينة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى