العودة إلى الثغر… حين يصبح الوطن مشهداً من وجع
د .أحمد حسن الفانابي
عدتُ اليوم إلى بورتسودان، بعد غيابٍ قسريّ فرضته الحرب، لا رغبةً في الرحيل بل انكساراً أمام واقعٍ لم يدع لنا خياراً. من علُوّ السماء، بدا ثغر السودان باسماً كما عهده الطيبون؛ الميناء ينتظر السفن مصطفةً كحلمٍ لم يكتمل، ومياه البحر الأحمر تداعب الشاطئ كأنها تهمس: لا يزال في هذه البلاد بعض أمل.
لكن، ما إن وضعتُ قدمي في صالة الوصول حتى تبدد الحلم، وتكشّفت الحقيقة القاسية. المكان أقرب إلى إسطبل مهجور منه إلى بوابة لوطنٍ يستقبل أبناءه. سقف مهترئ، جدران متسخة، ازدحام خانق، لا تكييف، ولا إنسانية. واثنان فقط من رجال الجوازات يواجهان طوفان المسافرين، وكل شيء يصرخ بالفوضى، وكأن السوداني لا يستحق إلا هذا النوع من “الاستقبال”… بل هذه الإهانة.
وعلى الطرف الآخر من المطار، تتجلى المفارقة في أقسى صورها. صالة كبار الزوار، مكسوّة بالفخامة، مخصصة لأولئك الذين لا يلامسون شيئًا من واقعنا. مسؤولون لا يرون هذا البؤس، لأنهم محمولون فوق عالمٍ آخر، تحرسه السيارات الفارهة والزجاج المعتم.
وعند مغادرتي المطار في رحلة العودة، وفي لحظةٍ ظننتُ أن المشهد بلغ منتهاه، استوقفني رجل بملابس مدنية. لم يقدّم نفسه، لم يسأل، بل مدّ يده إلى جيبي دون استئذان، وهمس: “معك عملة؟”
وقفت مشدوهًا… لا أعرف إن كنت أمام مشهد أمني أم مَهزلة، أم أنها سرقة ترتدي قناع السلطة. مهنية غائبة، كرامة مداسة، وسؤال يطاردك منذ أن تطأ أرض الوطن: هل نحن حقًا نستحق كل هذا الانحدار؟
وفي شوارع المدينة، وجوهٌ منهكة، وأرواحٌ تحمل فوقها غبار الحرب ووجع السنين. لكل إنسان هنا قصة تستحق أن تُروى في كتابٍ من مآسٍ. حربٌ لا يعلم ضحاياها لِمَ قُتلوا، ولا بأي ذنبٍ سُحقت بيوتهم، وتشردت أحلامهم. سؤالٌ يطارد الجميع: لماذا؟
الجواب موجع وبسيط: طموح العسكر في السلطة. لا أكثر.
أما ما يُسمّى بـ”الحكومة”، فتغيب حتى في حضورها. حكومة لا يشعر بها أحد، ولا يكاد الناس يعرفون اسم رئيسها، وإن عرفوه فلا شأن لهم به، ولا أمل يربطهم به. وجودها وعدمها سواء، لا نراها إلا في مواكب السيارات التي تجوب الطرقات، تُذكرنا فقط بأن الثورة قد سُرقت، وبأن السلطة قد استقرت على أنقاض الحلم.
حكومة نصفها من قبيلة واحدة، في وطنٍ يحتضن أكثر من 570 قبيلة، كأن التنوع في السودان لعنة لا نعمة. سلطة لا شرعية لها سوى فوهة البندقية، ووزارات لا تدار إلا بمنطق “الغنيمة”.
عدتُ إلى الوطن، فوجدت الوطن موجوعًا، متعبًا، صامتًا تحت أنقاض حرب لا تزال تقضم من جسده، دون أن تبقي شيئًا سوى الأنين.