أفق جديد
لا تزال أنشطة التنقيب عن الذهب في السودان بمادة “السيانيد”، تقتل وتدمر كل أشكال الحياة في المناطق القريبة من المناجم، في مناطق واسعة في البلاد.
خلال اليومين الماضيين، بدأ أهالي “حلة يونس” بمحلية غرب بربر بولاية نهر النيل، اعتصامًا احتجاجيًا على تزايد عمليات استخلاص الذهب بواسطة الأحواض التي تستخدم فيها مواد كيميائية ضارة بالإنسان والبيئة.
وتم تنظيم الاعتصام وفق تجمع الأجسام المطلبية (تام)، بالقرب من المنطقة التي شهدت تزايدًا لافتًا لأحواض السيانيد، وأصبحت تستقبل كميات ضخمة من مخلفات التعدين (الكرتة)، بغرض إعادة معالجتها كيمائيًا.
وشدّد تجمع الأجسام المطلبية (تام) في بيان تلقته “أفق جديد”، على ضرورة الاستجابة العاجلة لمطالب الاعتصام، وأشار إلى أهمية ضبط عمليات التعدين، ودرء المخاطر المتعددة المترتبة على غياب الرقابة التي تؤثر على حياة المواطنين في كل مناطق التعدين.
مطالبات بالتدخل العاجل
وأفاد شهود عيان من المنطقة “أفق جديد”، أن المعتصمين طالبوا الحكومة بضرورة التدخل العاجل لحماية البيئة من الكوارث الإنسانية.
ووفق شهود العيان، أن استخراج الذهب عبر استخدام مواد كيميائية تعتبر جريمة ضد البيئة، ويجب أن تتوقف في أسرع وقت، لأنها تهدد الحياة الطبيعية في المنطقة.
القاتل الصامت :
وحسب خبراء فإن المادة المستخدمة في السودان هي سيانيد الصوديوم، وهو مركب في غاية الخطورة، يسبب التعرض المطول له وبتركيز منخفض آلامًا حادة ودائمة في الرأس، وانعدام الشهية والدوار والتهيج في الأعين وفي الجهاز التنفسي، ونموًا غير عادي في الغدة الدرقية، ويتسبب أيضًا في تغيير الجينات وينتج أطفالاً مشوهين، وتصيب المادة البيئة بأضرار بالغة ما لم يتم معالجتها بمعادلتها بالماء.
وعادة ما يحتج المئات من سكان القرى المجاورة لشركات تنقيب الذهب، شمالي السودان، وجنوب كردفان، على استخدام الشركات لمادة “السيانيد” السامة في عمليات استخلاص الذهب، فيما يستخدم المعدنين التقليديين مادة “الزئبق”.
احتجاجات تقاوم القتل البطيء :
سبق أن نجح أهالي بلدة “صواردة” شمالي السودان، في انتزاع قرار حكومي بإيقاف العمل بمصنع يستخدم مادة “السيانيد” السامة في عمليات استخلاص الذهب، إثر احتجاجات على شارع رئيسي.
وفي 2016 كشفت هيئة برلمانية لنواب الولاية الشمالية، عن شكوك حيال تسرب مادة “السيانيد” المستخدمة في التعدين إلى النيل، ما أدى إلى نفوق عدد كبير من الحيوانات بمنطقتي “دلقو وحلفا” في الولاية، بجانب تأثيرها على الإنسان.
وحسب خبراء جيولوجيا، فإن خطورة مادة “السيانيد” أنها تدخل الجسم عن طريق الجلد، والاستنشاق، فالتربة الملوثة بالمادة بمجرد أن يلمسها جسم إنسان، أو حيوان، فإنه يتعرض للتسمم، وتزداد خطورة هذه المادة عند هطول الأمطار على التربة الملوثة، حيث تجرف المياه التربة، وتذوب هذه السموم في الماء الذي يشربه الإنسان والحيوان في المناطق النائية، دون معالجته، كما أن جُزءًا مقدرًا من هذه المياه تغذي المخزون الجوفي الذي يتسمم هو الآخر، وتُرى أكوامًا من مخلفات “الكرتة” التي تمت معالجتها بالسيانيد في شكل جبال في الهواء الطلق، تنقلها الرياح وتجرفها مياه الأمطار وتنشرها.
وطبقًا للخبراء فإن المشكلة ليست فقط في استخدام هذه المواد السامة، ولكن المشكلة تكمن في التخلص من النفايات في دولة مثل السودان، خاصة وأن هناك تجربة ماثلة في تلوث البيئة، وهي عدم التقيد بمعايير السلامة في استخدام الزئبق. ففي فترة السبعينيات نتج عنه تلوث إشعاعي حصد الأرواح في مناطق التعدين، ولا يزال يسبب السرطانات، خاصة في الولاية الشمالية؛ التي أصبحت توصف بمنطقة “وادى الموت”، كما أن من ضمنها منطقة (الشعير) و(مرتا)، محل إنشاء مصنع السيانيد.
القاتل الصامت :
“سيانيد البوتاسيوم” هو مادة سامة تؤثر على أجهزة الجسم المختلفة، وتؤدي للموت بسرعة، وهي مادة بيضاء تأتي في شكل حبيبات أو بلورات صلبة، وقد يتم استعمالها لأغراض القتل أو الانتحار.
كما يستخدم سيانيد البوتاسيوم لأغراض صناعية مثل الطلاء الكهربائي، واستخراج الذهب والفضة من مصادرها الخام.
ينتج سيانيد البوتاسيوم غاز سيانيد الهيدروجين، وهو مادة كيميائية عالية السمّية تعيق عملية استخدام خلايا الجسم للأكسجين، أي أن السيانيد يخنق الجسم من الداخل.
وقد يكون التعرض لسيانيد البوتاسيوم مميتًا بسرعة لا تتجاوز دقائق، إذ إنه يؤثر على كامل الجسم وأعضائه، وخاصة التي تتأثر أكثر بنقص مستويات الأكسجين، مثل الدماغ والجهاز العصبي المركزي والقلب والرئتين.
ويمكن لسيانيد البوتاسيوم أن يؤثر في الشخص عبر طرق عدة مثل استنشاق رذاذ يحتويه أو بخاخ، أو عبر تلويثه مياه الشرب أو الطعام. وهو يقوم بتأثيره عبر البلع أو الاستنشاق أو ملامسة الجلد أو العينين.
ويُستعمل السيانيد الاصطناعي في عدة مجالات من بينها مجال التعدين والصناعة المنجمية، بهدف استخراج الفلزات الثمينة كالفضة من معادنها الخامة، وتتم عبر سحق الحجر الخام بدقة، بواسطة كسّارات آلية ضخمة، وغمر المسحوق الدقيق في محلول السيانيد. بعد مدة من التفاعل وتكون أوحال وجزيئات معدنية، يتم استخراج الفضة أو الذهب، بإضافة نجارة الزنك أو الألومنيوم إلى المحلول، ثم تحميضه بحامض “الكبريتيك” لإزالة الزنك أو الألومنيوم الزائد، وبعد ذلك يتم تجفيف الوحل وتسخينه في فرن خاص تصل فيه درجة الحرارة إلى أكثر من 900 درجة مئوية مع التهوية لأكسدة الحديد والرصاص الموجودين، ينتج عن ذلك منتوج أولي قد يتكون من 90% من الفضة أو الذهب.
أرباح عالية وتكاليف منخفضة
أما البقايا الناتجة عن هذه العملية، فهي عبارة عن نفايات صناعية شديدة السمية بسبب أملاح السيانيد التي تحتويها.
وقد يتم تخزين هذه النفايات عادة في أحواض يتم بناؤها بطريقة خاصة، ومفتوحة للهواء الطلق، وغير نافذة بإحكام تام على شكل سدود، وتحت تأثير الشمس والرياح على هذه الأوحال يتم تجفيفها عن طريق التبخر مما قد يجعل السيانيد يتلاشى ويكوّن السيانات ثم الكربونات، وهي مركبات غير سامة.
لكن الشركات الرأسمالية تتفادى هذه العملية، نتيجة تكاليفها، ويطرحون تلك النفايات على شكل أوحال شديدة السمية مباشرة في الوديان ومجاري المياه، ليتم دمج تلك السموم في الفرشاة المائية الباطنية ودمجها في السلسلة الغذائية المحلية، لينتج عن ذلك أمراض خبيثة وعاهات صحية مستدامة.