على حافة الأفق
مئوية مشروع الجزيرة… “مساءلة نقدية”
د. صلاح عمر
يُعدُّ مشروع الجزيرة من أكبر المشروعات الزراعية المروية في إفريقيا والشرق الأوسط، وظل لعقود يُقدَّمُ باعتباره أنموذجًا يحتذى للتنمية الزراعية الحديثة في السودان، غير أن حصيلة ما يزيد عن قرن من الزمان تكشف عن مفارقة كبيرة بين ما يعلن رسميًا وما هو واقع فعلي، ما يدفع إلى مساءلة نقدية: هل كان مشروع الجزيرة -بالفعل- تجربة تنموية ناجحة، أم جزءًا مما يسمى بـ”أوهام التنمية”؟
أولًا: مشروع الجزيرة في الخطاب الرسمي- مارد التنمية:
منذ نشأته في العام 1925م ومروراً بالحكومات الوطنية بعد الاستقلال، كان الخطاب الرسمي يرسم صورة زاهية ومثالية مبالغًا فيها عن المشروع باعتباره ركيزة الاقتصاد السوداني، ومفتاح التنمية الشامل… إلخ، بينما كان الواقع مليئاً بالتناقضات والقصور البنيوي.
ثانيًا: المشروع في الواقع- تشريح تنموي:
1- التأسيس الاستعماري:
كان المشروع في أصله أداة اقتصادية لخدمة صناعة النسيج البريطانية، وتنمية السودان تجيء لاحقة لهذه الخدمة.
تم عرض نظام شراكة ثلاثية، يكون فيها المستعمر متحكمًا في “الأرض والمياه والعمل”.
الربح ذهب للمركز “لندن”، بينما تحمَّل الريف السوداني عبء الإنتاج.
2- ما بعد الاستقلال… استمرار البنية لا تجاوزها:
لم يعاد النظر في هيكلة المشروع جذريًا.
الدولة الوطنية اكتفت بإدارة المشروع كإرث استعماري، مع استغلاله كمصدر للعملة الأجنبية دون إصلاحات حقيقية.
لم تُبنَ صناعة تحويلية مرافقة، ولم تطوَّر القرى تنمويًا.
3- سُبات التحرير والبناء الدولي:
برامج التكيف الهيكلي في الثمانينيات أدى لانسحاب الدولة من التمويل والدعم.
تحوَّل المشروع إلى ساحة استثمار لرأس المال الطفيلي.
أجبر المزارعون على الاقتراض بأسعار فائدة عالية من دون حماية.
4- قانون 2005م… شرعنة الخصخصة- التفكيك:
تم تفكيك مؤسسات المشروع التاريخية.
سادت “فوضى زراعية” واحتكار مصرفي وشركات وسيطة مرتبطة بالسلطة.
5- الانهيار الكامل في ظل الحرب:
تدمير قنوات الري.
نزوح المزارعين وانهيار البنية الإنتاجية.
خروج المشروع بأكمله من الخدمة، بلا خطة إنقاذ ولا رؤية مستقبلية.
ثالثًا: مؤشرات (الوهم التنموي):
نستخدم هنا قياسات التنمية لبعض محاور المشروع لنتعرف على مجرياته التنموية:
العدالة في توزيع الفوائد؛ نجد هناك اختلالًا بائنًا لصالح الدولة والشركات، بينما يعاني المزارعون.
المشاركة الشعبية؛ في حالة غياب منذ التأسيس وحتى التفكيك، مع تمثيل رمزي محدود في مجلس الإدارة لفترات محدودة.
الصناعات الزراعية المصاحبة؛ لا توجد.
الاستدامة البيئية؛ يقابلها تدهور واسع في التربة ونظام الري وتأثير سالب لاستخدام المبيدات غير المُرشّد.
التنمية الريفية؛ لا توجد، حيث هناك انهيار في منظومة التعليم والصحة، مع تمدد العشوائيات في السكن.
مرونة المشروع أمام الأزمات انهارت كلياً في الحرب.
إذًا، على الرغم من رمزية المشروع، إلا أن نتائجه التنموية محدودة، مقارنة بضخامة الرمزية والمؤسسية.
رابعًا: بين الأسطورة والحقيقة- التنمية والوهم:
مشروع الجزيرة لم يكن خدعة بقدر ما كان نتاجًا لتداخل عوامل:
إرث استعماري غير مفكك.
ضعف الإرادة السياسية في الإصلاح الحقيقي.
هيمنة الدولة المركزية على القرار.
تغول رأس المال الطفيلي.
غياب الرؤية التنموية الشاملة، وبالتالي فإن “وهم التنمية” هو نتاج تراكمي لبنية غير عادلة، لا مجرد فشل إداري أو تقني.
خامسًا: ما هو المطلوب إذا أردنا تحويل “الوهم” إلى حقيقة؟
ندفع بهذه الحزمة كإطار متكامل لتمويل مشروع الجزيرة من “رمزية منهارة” إلى مشروع وطني للتنمية المستدامة.
المحور الأول: إصلاح الأرض وعلاقات الإنتاج:
تثبيت وضمان حقوق المزارعين في الأرض عبر تشريعات واضحة.
حظر المضاربات العقارية داخل المشروع.
المحور الثاني: إصلاح البنية التحتية والري.
إعادة تأهيل شبكة الري وفق تقنيات حديثة تراعي الكفاءة والبيئة.
إنشاء هيئة مستقلة لإدارة المياه وبمشاركة المزارعين والخبراء.
تحصين البنية ضد النزاعات والحروب.
المحور الثالث: الحوكمة والمؤسسية:
إلغاء قانون 2005م واستبداله بقانون جديد يضمن للمشروع أن يكون رائدًا تنمويًا.
المحور الرابع: الإنتاج الزراعي والتنويع:
إعادة تصميم المشروع إدارياً بحيث يتفادى مركزية “بركات” ويضفي مرونة “إدارية”.
إعادة تصميم الإدارة الزراعية لتوازن بين المحاصيل النقدية وغيرها.
المحور الخامس: التصنيع الزراعي والتكامل الاقتصادي:
إنشاء صناعات تحويلية حسب الدورة الزراعية.
إدخال التصنيع التعاوني المملوك للمزارعين.
المحور السادس: التمويل وعد:
إنشاء بنك تنموي خاص بالمشروع، وجعل انتشاره -في كل مكان بالمشروع- ممكنًا وميسورًا.
سن قوانين تمنع الابتزاز المصرفي.
المحور السابع: التنمية الريفية الشاملة:
إعداد خطة متكاملة للتعليم والصحة والإسكان.
بنية خدمية متكاملة “طرق، كهرباء وصرف صحي”.
بناء مدن نموذجية تكون عواصم لأقسام المشروع.
تشجيع الشباب والشابات للانخراط في برنامج الريادة الريفية.
المحور الثامن: البيئة وتغير المناخ:
معالجة تدهور التربة والمياه.
إدخال تقنيات زراعية مستدامة وذات قيمة بيئية.
إنشاء نظام إنذار مبكر للكوارث الطبيعية.
المحور التاسع: الحماية القانونية والسيادة على الموارد.
حظر أي اتفاقيات خارجية تتعلّق بالمشروع من دون إشراك المزارعين.
المحور العاشر: الحوكمة السياسية والتمثيل المحلي:
ربط المشروع بخطط الحكم الإقليمي حالما تم تطبيق حكم فيدرالي حقيقي.
خاتمة :
يمثل مشروع الجزيرة تجسيداً كلاسيكياً للهوة بين التنمية المعلنة والتنمية الخفية، وهو من حيث الشكل تجربة عملاقة، لكنه من حيث الجوهر أفرغ من مضمونه التنموي لصالح السلطة والمركز ورأس المال الطفيلي. إن إعادة النظر في مشروع الجزيرة لا تعني العودة إلى الوراء بل إعادة تأسيس شاملة على أسس العدالة والاقتصاد المنتج.