أوجلان.. يوتوبيا حركات التحرر والتغيير بقوة السلاح

 

كمال بولاد

ثمة إشارات عديدة تجعل النظر بعين زرقاء اليمامة إلى رسالة القائد الكردي عبدالله أوجلان، إلى مقاتلي حزبه في 27 فبراير 2025م ذات أهمية، والداعية إلى إلقاء السلاح وترك العمل المسلح وحل الحزب المقاتل، لصالح التوجه إلى العمل السياسي المدني، بعد مواجهة عسكرية للسلطة المركزية فى أنقرة استمرت على مدى أربعين عامًا، قدم فيها الحزب والقومية الكردية والدولة المركزية التضحيات والضحايا، وسفكت الدماء التي بلغت أكثر من أربعين ألف قتيل بإحصائية السلطة الرسمية في تركيا، واستطالت المواجهات والملاحقات والسجون والتصفيات لقادة الحزب المقاتل وكوادره وعلى رأسهم مؤسسه وقائده ومفكره الأول عبدالله أوجلان .

نشأ عبدالله أوجلان وتشكلت أفكاره الأساسية وسط اليسار التركي في ظل مناخ حدة الصراع مع المجموعات اليمينية التركية المتطرفة، على خلفية منتصف عمر اليسار الراديكالي العالمي في سبعينيات القرن الماضي، وبروز أزمات التجربة السوفيتية إلى السطح والعلن، ثم خرج من تنظيماته وأسس مع آخرين حزب العمال الكردستاني في 1978م على هدى الأفكار القومية الثورية، وتبنى بعد ست سنوات من التأسيس الكفاح المسلح من أجل تحقيق دولة كردية مستقلة، وقاد مواجهات مسلحة مع الدولة المركزية التركية، وصنف لاحقًا من طرفها بالمنظمة الإرهابية وتبع ذلك التصنيف فى إطار الصفقات السياسية الدولية واستراتيجيات أمريكا في المنطقة أن تطور الموقف الدولي دعمًا للدولة التركية في تصنيف الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي الحزب المقاتل فى خانة المنظمة الإرهابية أيضًا. واشتد الحصار على الحزب الثوري القومي وعلى قائده المقيم في سوريا، وهو يقود الحزب على نمط وأفكار التحرر الوطني والقومي، وإلهام تجارب مثل تجربة كاسترو في كوبا وجيفارة النضال الثوري الحر، وغيرهم من ملهمي حركات التحرر الوطني الثورية، بالرغم من حصار وتحديات رياح التغيير المتسارع وقتها في توازن العالم نتيجة تداعي التجربة الروسية التي أدت إلى إنهيار الاتحاد السوفياتي بعد سنوات قليلة آنذاك، تمسك أوجلان وحزبه بمبادئ الثورة التي أشعل فتيلها، ولم يتراجع بسبب غياب حليف هام مثل السوفيت وغياب قطب موازٍ لإمبريالية الغرب الرأسمالي، وانعكاس ذلك الزلزال على العالم، وحجم الأسئلة التي وضعها أمام أفكار التحرر والتنظيمات الثورية والأحزاب الاشتراكية وحركات التحرر الوطني والأنظمة الحاكمة باسمها، ومن ثم تصاعد وانفراد القطب الأمريكي الإمبريالي المنتشي بالانفراد والسيطرة، وبث ثقافة ودعاية نهاية التاريخ والاستهلاك.. إلخ.. وضخ ماكنة الآلة الإعلامية والفكرية الغربية منتجها سريع الانتشار، ويحف الحزب المقاتل الحصار من كل الاتجاهات، وقائده المطلوب الأهم في المنطقة نتيجة كارزميته الفكرية والنضالية وتأثيرها على كافة أكراد المنطقة، وشدد الحصار على دمشق لدرجة التهديد من تركيا بشن الحرب عليها فى العام 1998م بسبب إقامة أوجلان مما جعله يطلب حق اللجوء في روسيا، وترفض موسكو طلبه حتى يدرك أنه أخطأ العنوان ولم يكن دقيق التقدير لصورة روسيا ما بعد (البروسترويكا)، أو أن الضغوط الشديدة قد تجعل الخيارات أمام المحاصر محدودة، ويبتلع القائد مرارة أول صفعات التغيير الذي حدث في العالم والمنطقة، ومن ثم ينتقل إلى إيطاليا ويحاصر ثم ينتقل إلى اليونان ويحاصر أيضًا، ليعود من جديد إلى إيطاليا ويعتقل من المطار، وأوشك أن يسلم إلى تركيا إثر أزمة تدخل فيها الرئيس الإيطالي حتى يتم اخلاء سبيله شريطة الخروج من البلد، ويغادر إلى نيروبي حيث تم اعتقاله هناك في فبراير 1999م بواسطه قوات مخابراتية تركية، فى أكبر عملية تواطوء غربي تعكس طبيعة العالم فيما بعد زوال مناخات الحرب الباردة، لتشكل هذه العملية المخابراتية العلنية إشارة مهمة تقود مع غيرها من الإشارات مثل اجتياح أفغانستان الأمريكي وغزو العراق وإسقاط نظامه الوطني وغيرها، تشكل ملامح العالم الجديد ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كما أكدت هذه العملية سيطرة أمريكا على كل المنظمات الدولية والحقوقية العاملة باسم الأمم المتحدة واختلال عدالتها المدعاة، وظل أوجلان إلى اليوم فى معتقله بجزيرة (أمرالي) فى بحر مرمرة بعد أن حكم عليه بالإعدام فى يونيو 1999م بتهمة (الخيانة والنزعة الانفصالية)، وخفف في العام 2002م إلى السجن المؤبد، كتب أوجلان في معتقله أفكارًا تنظيربة كبيرة حول الدولة وإدارتها والعمل الثوري والقوانين الدولية والعدالة والمرأة، وطبعت في سلسلة كتب وترجمت إلى أكثر من لغة تعكس قدرة هذا القائد على التنظير وكتابة أفكار التغيير ووضع إجابات لبعض الأسئلة الكونية الكبرى من وحي تجربته، وبهذه التجربة الثرة تصبح رسالته للحزب بإلقاء السلاح ذات أهمية شديدة الخصوصية، حتى يتم تفسير تفاعل قادة حزبه بهذه الرسالة لدرجة الموافقة على تسليم وحرق بعض هذه الأسلحة وهو ما يزال سجينًا، في عملية رمزية تشير إلى مرحلة جديدة من الصراع ونيل الحقوق، هذا يستحق التأمل والتقييم الواقعي لهذا المسار ومعرفة بواعث وأسباب التفكير الذي قاد هذا القائد بكل هذا التاريخ النضالي، وتحديدًا من النواحي الفكرية والتجربة النضالية بالاستناد إلى خلفيته الأيديولوجية التى انطلق منها وأرسى عليها قواعد حزبه الفكرية والتنظيمية، حتى يتم التقييم الموضوعي والواقعي لدعوة أوجلان، وفي الذهن والفم ثمة قول مهم، مهما كانت قسوته هو إدراك الفارق فى حجم وسعة التطور التقني الذى حدث في الغرب مقارنة بدول ما يسمى بالعالم الثالث، التطور الذى صنع فوارق ضخمة ما بين أقطار العالم المختلفة شمالها وجنوبها وحرك بدرجات كبيرة مراكز القوى والضعف بينها وضيق هوامش المناورة إلى الحد البعيد. وأمامنا سيناريو ونتائج حرب أمريكا (ترمب) والكيان الصهيوني على إيران وفلسطين وطريقة تفكيك حزب الله في لبنان، وكيفية استخدام تقنية ما يسمى بالذكاء الاصطناعي في العمل العسكري والاستخباراتي، في تجاوز مذهل للأخلاق والإنسانية والقوانين الدولية التي صاغها الغرب نفسه وصادق عليها، لا يمكن قراءة رسالة القائد أوجلان بعيدًا عن هذه المعطيات، ‌بالرغم من أن محاولات تسوية الصراع في تركيا ظلت مستمرة، كجند عند الحكومة التركية وتكتيكات الإدارة الأمريكية منذ تغييرها فى عهد الرئيس بوش 2006م، بخصوص التعامل مع القضية الكردية من سياسة (الاستخدام) في مواجهة أنظمة المنطقة التي تمانع أمام الأجندة الأمريكية فى المنطقة (إيران، سوريا) وقتها، وإلى سياسة (الاحتواء والتوظيف) باستثناء حزب العمال الكردستاني الذى ظل الحصار عليه مستمرًا بسبب الخلفية الأيديولوجية من جانب والتحالف مع النظام التركى الرسمى من جانب آخر، وتوظيف واحتواء (قسد) في سوريا والديمقراطي الكردستاني في العراق، وظلت محاولات طرح التسوية من قبل الحكومة فى تركية مستمرة إلى أن طرحت مفاوضات جادة مع الحزب في العام 2013م فى إطار محاولات البحث عن حلول سلمية لأزمة الصراع العسكري مع الدولة ولم تصل إلى نتيجة .

 صعود (ترامب) الى عرش أمريكا، كشف بشكل سافر الرباط الوثيق ما بين دولة الكيان الصهيونى وأمريكاـ كما كشف دور الكيان في صياغة السياسات الأمريكية في المنطقة، وتأثير ضغوطهم على مراكز اتخاذ القرار في البيت الأبيض، مما أفسح المجال لسياسات التوسع الإسرائيلي بالترهيب والتهديد الأمريكي لترتيب وصياغة المنطقه، واحتلال مناطق جديدة في لبنان بدعوى تسليم سلاح حزب الله، وفي سوريا التوسع واحتلال الجنوب والدخول إلى محافظة السويداء بمباركة (ترامب) للسيطرة على الدولة السورية بدعوى حماية الدروز الذين لهم امتداد طائفي في إسرائيل، وحصار لبنان بفرية سلاح حزب الله الجريح، والتمدد في فلسطين حتى خان يونس، كل ذلك استنادًا على التفوق التقني المخابراتي والعسكري، وغياب وصمت المؤسسات الدولية وبالذات القانونية، مما يؤشر طبيعة المرحلة الجديدة، كل هذا بالضرورة يستدعي النظر إلى الأسئلة المركزية من جديد، وامتحان الركائز التي قامت عليها إجابات القرن الماضي على ضوء الحاضر، من شاكلة هل تستطيع دول المنطقة وتحديدًا ما يسمى مجازًا بدول العالم الثالث والمنطقة العربية معالجة هذا الفارق التقني؟ وهل تستطيع هذه الأنظمة القائمة مجرد توطين التقنية في بلدانها وتوفير رؤوس الأموال المطلوبة، ولا شك أن واقع السلع والخدمات التقنية وأدواتها تحتاج أموالًا ضخمة بسبب توفير خطوط غمدادها واستدامتها ثم صناعة منتوجها، في عالم تربطه شبكات عنكبوتية صعب الفكاك منها، ومن ثم أسئله أكثر خصوصية حول الذات فكريًا وتنظيميًا، ومعايير الرجوع إلى البدايات بهدف المراجعات والتقييم، وهي التي قامت ركائزها الفكرية ومنها حزب العمال الكردستاني في ظل مناخ مواجهة الاستعمار السياسي ومرحلة تشكل دول المنطقة، والنضال من أجل التخلص من الاستعمار الغربي المباشر، واستقلال أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت أدواتها مصممة لمواجهة واقع الاستقلال السياسي وإلى حد محدود الاقتصادي والاجتماعي في إطار معطيات تلك المرحلة، أصابت بعض هذه الحركات وأخطأت التقديرات أخرى، وبعضها ما يزال على هدى تلك الأفكار مع تغيير طفيف في الأدوات والتكتيكات.. هل هذا كافٍ لمواجهة واقع اليوم؟ وغيرها من الأسئلة التفصيلية والموضوعية التي لا يمكن الحكم على توجه عبدالله أوجلان الجديد ودعوته دون الوقوف عندها مليًا، بتأدب فكري ونضالي متجرد أمام مجسم أسئلتها الصعبة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى