النفط والأزمة الاقتصادية في جنوب السودان
بين إرث الخرطوم وشراكات أبو ظبي
محمد أحمد شبشة
منذ اندلاع الحرب في السودان، تسارع جوبا إلى تبرير أزمتها الاقتصادية بأنها نتيجة مباشرة للصراع في الشمال. غير أن تفكيك الإطار القانوني والسياسي لعقود النفط يكشف أن جذور الأزمة الاقتصادية في جنوب السودان أعمق من مجرّد آثار الحرب. إنها أزمة مركبة، بدأت بهيكل تعاقدي غير عادل صُمّم في الخرطوم، ثم تكرّست بإعادة إنتاجه في جوبا، وانتهت بشراكات جديدة، آخرها مع الإمارات، تعيد إنتاج النموذج الريعي نفسه.
يعود أصل المشكلة إلى العقود السودانية المعروفة بنموذج المشاركة في الإنتاج (PSA)، التي ورثها جنوب السودان بعد الاستقلال. فعلى الرغم من احتفاظ الدولة نظريًا بالسيادة على النفط، فإن هذه العقود منحت الشركات الأجنبية – خاصة CNPC الصينية وPetronas الماليزية وONGC الهندية – سيطرة فعلية على 85% من الإنتاج، من خلال بنود استرداد مفرطة وصلت إلى خصم 70% من الإيرادات كـ”تكاليف”، وإعفاءات ضريبية تمتد حتى 25 عامًا، كما ورد في العقد السري بين السودان وCNPC في 1997.
هذا النظام التعاقدي لم يكن مجرد خلل اقتصادي، بل كان نتاج سياسة ممنهجة للإقصاء المؤسسي والجغرافي. فقد حُرمت المجتمعات المحلية في مناطق الإنتاج، مثل الوحدة وأبيي، من التمثيل في مفاوضات العقود ومن نصيب عادل من العائدات، مقارنة بتجارب أخرى مثل أنغولا، حيث تحصل المجتمعات المنتجة على 12% من الإيرادات. وتحولت الشركة الوطنية “سودابت” إلى مجرد واجهة رمزية لا تتجاوز حصتها 8%.
لكن المأساة تكررت بعد الاستقلال. بدلاً من مراجعة تلك العقود وإعادة التفاوض حول شروطها، كرّست حكومة الجنوب النظام نفسه، موقّعة عقودًا جديدة – مثل عقد “ديركون” النرويجية عام 2012 – ببنود سرية، وبعيدًا عن أي رقابة برلمانية أو مشاركة من المجتمع المدني. ووفق تقرير “إنقاذ الأرض” (2023)، فإن 0% من عقود النفط في جنوب السودان خضعت لنقاش داخل البرلمان. واستمرت الدولة في تفضيل الشركات الآسيوية لما توفره من “المرونة والسرية”، حسب تصريح وزير النفط السابق في 2016.
وفي الوقت الذي نجحت فيه دول إفريقية مثل غانا في تعديل شروطها التعاقدية لتخفض حصة الشركات الأجنبية إلى 35%، وتأسيس صندوق سيادي بلغت موجوداته 1.2 مليار دولار في 2023، ظل جنوب السودان رهين نموذجٍ نفطي بلا شفافية أو التزام بيئي. بل أن كارثة تلوث نهر الغزال في 2020، التي خلّفت 12 ألف حالة تسمم، تكشف عمق غياب الحوكمة.
الأكثر إثارة للقلق هو تزايد الأدلة على أن الحرب ليست السبب الوحيد في الأزمة، بل تُستخدم كذريعة لإخفاء عمق الفساد. فرغم تراجع الإنتاج بسبب الصراع، كشفت تقارير الأمم المتحدة أن 40% من النفط كان يُهرّب عبر السوق السوداء قبل الحرب. كما أشار تحقيق “ذا سانتينل” إلى اختفاء 3.1 مليار دولار من حسابات النفط بين 2018 و2023.
أمام هذا الانهيار في العدالة التوزيعية، لم يعد مستغربًا أن تفقد الدولة شرعيتها في أعين مواطنيها. فحسب استطلاع رأي نُشر في 2023، عبّر 70% من سكان مناطق الإنتاج عن تأييدهم لانفصال جديد عن الدولة المركزية، بينما حدثت 82% من النزاعات المحلية بين 2015 و2023 في ولايات نفطية، ما يدل على ارتباط مباشر بين توزيع الثروة وتمدد النزاعات.
وفي خضم هذه الأزمة، وقّعت حكومة جنوب السودان اتفاقًا نفطيًا جديدًا مع شركة إماراتية مملوكة للدولة في 2023. ووفقًا لوثائق مسربة، تضمن العقد بنودًا سرية مشابهة للنموذج القديم، مع نسبة استرداد تتجاوز 65%، وامتيازات حصرية للشركة تشمل مناطق غير مستكشفة في أعالي النيل والوحدة. ولعل ما يفاقم الأمر هو أن هذا الاتفاق جاء في ظل غياب أي إطار قانوني محلي يضمن مراجعة العقود أو مساءلة البرلمان. ورغم ما يحمله من فرص استثمارية، فإن العقد مع الإمارات يعمّق من استمرارية نموذج الريع، ويرسّخ تحالفات خارجية على حساب تطوير البنية القانونية والرقابية للدولة.
ما العمل إذن؟ لا يمكن الحديث عن إصلاح اقتصادي دون معالجة الإطار التعاقدي من جذوره. المطلوب هو إعلان حالة طوارئ تعاقدية، تنشر فيها الحكومة جميع العقود الموقّعة، وتجمد بنود الاسترداد لحين مراجعة مستقلة. يمكن الاستفادة من نماذج مثل العراق (2004) في الشفافية، وسيراليون (2018) في تشكيل محكمة موارد طبيعية تضم خبراء دوليين ومحليين.
وعلى المدى المتوسط، يجب إعادة التفاوض لرفع حصة الدولة إلى 60%، وربط العقود بمعايير مبادرة الشفافية الدولية (EITI). كما ينبغي إنشاء صندوق تعويضات للمجتمعات المتضررة، على غرار تجربة نيجيريا مع منطقة أوغوني. أما استراتيجيًا، فلا بد من التخلص من نموذج PSA، والتحول إلى عقود الخدمة كما في المكسيك، مع تأسيس شركة وطنية بإدارة فنية دولية، تستلهم من تجربة “ستات أويل” النرويجية.
إن ما يواجه جنوب السودان ليس أزمة اقتصادية فحسب، بل هو انهيار للعقد الاجتماعي، وارتباك في البنية القانونية، واستمرار لثقافة الإقصاء والسرية. لذلك، فإن الطريق نحو الخروج من الأزمة يبدأ بإعادة تأسيس العلاقة بين الدولة والمجتمع، عبر مؤتمر دستوري للموارد، وآلية دولية للإشراف، وربط أي اتفاقيات سلام مستقبلية بإصلاح العقود النفطية. فبدون ذلك، سيظل النفط لعنة، لا نعمة.
المصادر:
Global Witness Report on Sudan Oil Contracts, 2022.
EITI Reports, South Sudan, 2015–2023.
UN Panel of Experts on South Sudan Reports, 2019–2023.
The Sentry Investigations on Missing Oil Revenues, 2023.
Save the Land Report on Civic Participation in Oil Governance, 2023.
South Sudan Ministry of Petroleum, Press Releases and Statements, 2012–2024.
Leaked Agreement with UAE State-Owned Oil Company, 2023 (on file with author).
Comparative Analysis: Ghana Petroleum Contracts (2017–2019), Nigeria Ogoni Initiative, Iraq Contract Transparency (2004), Mexico Oil Reform (2013), Norway Statoil Model.