حرب السودان على طاولة الكبار.. بئر تدويل بلا قرار
عثمان فضل الله
فيما يستعد المجتمع الدولي لعقد اجتماع رباعي جديد بشأن الأزمة السودانية، بدعوة من العاصمة الأميركية واشنطن، تدخل بلادنا رسميًا مرحلة “تدويل الحل”، بعد أن تجاوز عدد الاجتماعات التي انعقدت في غياب أي تمثيل سوداني مباشر اثني عشر اجتماعًا، وهو رقم يكشف بوضوح لا لبس فيه أن الأطراف السودانية – سواء كانت مدنية أم عسكرية – لم تعد تُرى إلا باعتبارها أدوات على رقعة شطرنج كبرى، تحرّكها إرادات خارجية لا ترى في السودان إلا ساحة نفوذ تتقاطع فيها مصالحها.
لقد استُبعد السودانيون من مشهد تقرير مصيرهم، لا لأن المجتمع الدولي يهوى إقصاءهم، بل لأن النخب السودانية، بشقيها المدني والعسكري، تخلّت طوعًا عن موقع الفعل والمبادرة، وسقطت أخلاقيًا وسياسيًا حين اختارت إطلاق الرصاصة الأولى في حرب عبثية لا منتصر فيها. أطلقوها وهم لا يدركون أن الهدف الحقيقي لم يكن خصمهم، بل الوطن نفسه، ومستقبل أجياله، فكل رصاصة أُطلقت لم تصب خصمًا بقدر ما أصابت الحلم الوطني في مقتل.
توهم قائد
في خضم هذا الخراب، يتوهّم الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش، أنه قادر على مغازلة واشنطن وتل أبيب علّهما تنصبانه حاكمًا عامًا على السودان، وكأن عجلة التاريخ قد عادت لتدور في زمن الطغاة بوجوه جديدة. البرهان الذي يقدم نفسه كضامن للخلاص من الإسلاميين، يفتقر إلى أي قاعدة سياسية أو دعم شعبي حقيقي، بل يراه كثيرون من داخل المؤسسة العسكرية ذاتها بأنه الرجل الذي مكّن لقوات الدعم السريع، وأدخل البلاد في أتون حرب طاحنة، بسبب تردده، وتخاذله، وعجزه عن اتخاذ القرار الصحيح بالوقت الصحيح في اللحظة المصيرية.
أما خارج الجيش، فالرجل معزول، لا يلتف حوله سوى مجموعة من المتطفلين وكثير من المنتفعين والانتهازيين الذين يدورون حوله في جولاته، بينما تحتفظ ذاكرة الشعب السوداني بصور دارفور الملطخة بالدماء حين كان البرهان مجرد ضابط يوزع الموت والرتب على من يسميهم اليوم بـ”عرب الشتات”، وذاكرة الناس لم تسقط بعد صور مجزرة القيادة العامة التي لا تزال دماء الشهداء على جدرانها تفضح من كان حاضرًا بصمته أو قراره، وتُطلّ من يده الأخرى دماء الأبرياء الذين تنهش الكلاب جثثهم في شوارع العاصمة، بينما يتحدث هو عن كرامة الوطن.
اللعب مع الكبار
البرهان، الذي يظن أن اللعب مع الكبار سيمنحه السلطة، يجهل أن من يفرّط في استقلال قراره الوطني لا يحصد سوى الخيبة. إنه يسير في طريق نهاية واضحة: مزيد من العزلة، مزيد من الدماء، ومكان محجوز في هامش مظلم من تاريخ البلاد. لا تصنع تل أبيب ولا واشنطن الزعامة، بل الزعامة قد أتته مجرجرة أذيالها فركلها، وطفق يبحث عنها في تل أبيب، الزعامة تُصنع من بين الناس الذين لم تأبه لصراخهم ولم يحرك فيك جوعهم ولا موتهم مشاعر الإنسانية، الزعامة تصنع في الشوارع التي أحرقتها بتبنيك لحرب الإسلاميين، وتصنع من قلوب أمهات الشهداء الذين سعيت ليلًا ونهارًا لطمس قضيتهم.
والسؤال المفجع، هل القوى الأخرى التي تقاتل البرهان أفضل حالًا؟
الجواب المؤلم: لا. فهذه القوى، التي كانت بالأمس شريكته في الانقلاب، صارت اليوم ألد خصومه، لكنها لا تختلف عنه إلا في الشكل لا في الجوهر. فكل الجرائم التي ارتكبها البرهان من انتهاكات سياسية وإنسانية، يدها ملطخة بها وزادت عليها أن نهبت وسلبت ممتلكات المواطنين، وروّعت المدنيين في أحيائهم، وساومت على الكرامة الوطنية من أجل مكاسب آنية.
لقد اختارت هذه القوى الاحتماء بالخارج أيضًا، متوهمة أن الدعم الدولي يمكن أن يصنع سلطة، أو يمنح شرعية. لكنها – مثل البرهان – تفتقر إلى الرؤية، وتغرق في الحسابات الضيقة، غير مدركة أن الخراب الذي يزرعونه اليوم، لن يحصدوا منه سوى لعنة التاريخ.
عجز القادرين
وها نحن اليوم، نترقّب ما ستصدره واشنطن من قرارات وتوصيات بشأن الأزمة السودانية. قرارات، لن تُرضي أي طرف، ومع ذلك سيجد الجميع أنفسهم مجبرين على تنفيذها، لا اقتناعًا، بل عجزًا عن تقديم أي بدائل. هذا هو جوهر المأساة: العجز الكامل عن الفعل الوطني المستقل، والانبطاح أمام الخارج بحثًا عن حلول مستوردة لا تمثل سوى مسكنات مؤقتة لجرح عميق.
نحن أمام لحظة فارقة في تاريخ السودان. لحظة تسقط فيها كل الأقنعة، وتنكشف فيها عورة الخطاب السياسي السوداني، الذي تحول إلى مبارزات إعلامية لتسجيل النقاط، بدلًا من أن يكون وسيلة لحمل المشروع الوطني، وتقديم حلول حقيقية.
لقد أثبتت كل القوى السياسية، بما لا يدع مجالًا للشك، أنها عاجزة عن قيادة البلاد نحو الخلاص. فبين قوى ما زالت تلهث خلف مغانم السلطة، وأخرى تتناحر على المواقع، وثالثة غارقة في ماضٍ من الثأر والانقسام، ضاعت بوصلة الوطن.
فشل داخلي
الاجتماعات التي ستُعقد في واشنطن، وما سيتبعها من لقاءات في الرياض، أو أديس أبابا، أو غيرها، ليست سوى تتويج لفشل داخلي ذريع، وضع البلاد على حافة الانهيار الشامل. ومع استمرار هذا الفشل، فإن القوى المدنية مطالبة الآن – وليس غدًا – بالارتقاء إلى مستوى اللحظة، فالوطن لم يعد يحتمل ترف الخلافات، ولا مناوشات الغرف المغلقة، ولا صفقات الكواليس.
النداء اليوم موجه لكل القوى الوطنية: ارتفعوا إلى مستوى التحدي. فالسودان لا يحتاج إلى بيانات إنشائية، بل إلى مشروع وطني واضح، جامع، يضع حدًا للحرب، ويعيد بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة والمشاركة.
لسنا في مقام التهويل، لكن التاريخ لا يرحم من خذل شعبه. إن لم تتقدم القوى المدنية الآن لصناعة السلام الحقيقي – لا الشعاراتي – فإن ما ينتظر البلاد هو مزيد من التدويل، ومزيد من فقدان السيادة، ومزيد من التشظي الذي لن يبقي ولن يذر.
ونُذكّر هنا أن السياسة، مهما أخفقت، تبقى الأداة الوحيدة القادرة على صناعة السلام، إذا صفت النوايا وتقدّمت العقول على البنادق. لقد آن الأوان لتتقدم الكلمة الصادقة على الرصاصة، ولتنحني الأجندات الحزبية أمام مصلحة الوطن.
هذا النداء لا يخص جهة دون أخرى، بل يخاطب كل من اختار الوقوف ضد الحرب، سواء في الداخل أو في المنافي، وسواء من التزم الحياد أو شارك في أحد أطراف النزاع. السودان أكبر من الجميع، ولن ينهض إلا بالجميع، في مواقعهم الصحيحة: مواقع البناء، لا الخراب.
ميثاق وطني
إننا في أمسّ الحاجة إلى “ميثاق مدني وطني” جديد، لا يُبنى على المحاصصات، بل على المبادئ، لا ينطلق من مرارات الماضي، بل من مسؤولية الحاضر. ميثاق يستوعب الجميع: من تورطوا في الحرب، ومن رفضوها، ميثاق ينصف أولئك المساكين الذين دفعوا ثمنها الباهظ. فالوطن يحتاج إلى كل أبنائه المخلصين أن يعملوا لبنائه، ويقفوا صفًا واحدًا ضد الساعين لتدميره، وبعد عامين من الخراب باتوا معروفين لا يحتاجون تسمية.
المستقبل لن يُصنع في مكاتب واشنطن، ولا في دهاليز أديس أبابا، ولا في فنادق الرياض، بل سيُصنع داخل الوطن في الخرطوم، أو بورتسودان أو نيالا، إنْ وجدت القوى من الشجاعة ما يكفي لتجاوز مصالحها الضيقة، وتقديم المصلحة الوطنية على كل ما سواها.
لا سلام مستدام بلا وقف شامل للحرب.
ولا انتقال ديمقراطي بلا شرعية شعبية حقيقية.
ولا بناء وطن بلا مشروع وطني متكامل، تتشارك فيه كل القوى.
إنّ بلادنا الآن في مهبّ الريح، ومع كل يوم يمر، تزداد المأساة عمقًا. فلا مجال للمزيد من الانتظار. فإما أن ننهض، أو نُدفن تحت ركام الفشل.
القرار بأيدينا، إن أردنا
لنصنع إرادتنا، قبل أن يصنع لنا الآخرون ما لا نرضى، ولنكن نحن.. لا مجرد أوراق على طاولات الآخرين.
ورغم الواقع السوداوي لا نقول “رفعت الأقلام وجفت الصحف”، بل نقول إن الفرصة مواتية أمام القوى الوطنية الديمقراطية لالتقاط القفاز والعمل بشكل جاد لجلب السلام لارض السودان وأهل السودان، فهي وهم يستحقونه.