بقلم: محمد عمر شمينا
في لحظات التحول السياسي العاصف التي تمر بها الدول، تصبح الرقابة الدستورية واحدة من أكثر المسائل إلحاحًا وإثارة للجدل، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بضمان استمرارية مبدأ سيادة حكم القانون وحماية الحقوق الدستورية في ظل واقع سياسي هش. والسودان، بتركيبته القانونية المختلطة وتجربته السياسية المتقلبة، يقدم نموذجًا جديرًا بالتأمل في هذا الصدد. فقد مرّ السودان بتجارب متعددة في تبني نماذج مختلفة للرقابة على دستورية القوانين، من دائرة دستورية ضمن المحكمة العليا إلى محكمة دستورية مستقلة، لكن دائمًا ما كانت السياسة تُلقي بظلالها الثقيلة على هذه المؤسسة العريقة والحيوية.
تاريخيًا، تأثر النظام القانوني السوداني بالنموذج الأنجلو-ساكسوني، حيث تتولى المحاكم العليا مسؤولية الرقابة الدستورية، لا من خلال محكمة منفصلة بل عبر آليات متضمنة داخل النظام القضائي العام. إلا أن السودان، خلال مراحل مختلفة من دساتيره، جرّب فكرة المحكمة الدستورية المستقلة، أبرزها في ظل دستور 1998 و2005 الذي بموجبه انشئت محكمة دستورية منفصلة عن القضاء العادي، بهدف تعزيز استقلالية الفصل في القضايا الدستورية. غير أن هذه المحكمة، وفي واحدة من أكثر المفارقات دلالة، تعطلت عن أداء دورها خلال الفترة الانتقالية 2019 التي أعقبت سقوط النظام السابق، لعدم تشكيلها من قبل السلطة الانتقالية، ما أدى إلى فراغ قانوني ودستوري فادح في لحظة كان فيها السودان و(الانتفاضة) في أمسّ الحاجة لتفعيل آليات الرقابة الدستورية.
هذا التعطيل لم يكن مجرد خلل إداري أو تأخير إجرائي، بل كشف عن هشاشة النموذج المؤسسي نفسه، وأثار تساؤلات جادة حول مدى فعالية المحكمة الدستورية المستقلة في السياقات السياسية المتأزمة، حيث يتعذر لأسباب سياسية أو توافقية تشكيل المحكمة في الوقت المناسب. في المقابل، يدافع البعض عن خيار الإبقاء على دائرة دستورية ضمن المحكمة العليا، باعتباره خيارًا أكثر واقعية في السياقات الانتقالية، إذ يمكن أن يضمن نوعًا من الاستمرارية المؤسسية ويجنب البلاد حالة الفراغ التي شهدناها بعد 2019، حين توقفت الرقابة الدستورية تمامًا بسبب غياب المحكمة المختصة. كما يُعتقد أن القضاة في المحكمة العليا، بحكم الخبرة القضائية والتدرج، أقدر على التعامل مع المسائل الدستورية دون الحاجة إلى إنشاء كيان جديد قد يُسيّس قبل أن يؤدي وظيفته.
لكن بالمقابل، فإن هذا النموذج يثير بدوره تساؤلات حول مدى استقلاليته، نظرًا لتبعيته الإدارية والتنظيمية لذات المؤسسة القضائية التي قد تكون طرفًا في صراعات السلطة. كما أن التجربة السودانية التاريخية تُظهر أن استقلالية القضاء نفسه قد كانت موضع تشكيك في فترات عديدة، خاصة حين تتقاطع السلطة القضائية مع السلطات السياسية أو الأمنية. لذلك يرى كثير من المختصين أن المحكمة الدستورية المستقلة (رغم كل العثرات) تظل الإطار الأمثل لضمان حياد حقيقي في الفصل في النزاعات الدستورية، شريطة أن يتم تأمين تشكيلها عبر آليات تضمن استقلالها وعدم خضوعها للترضيات السياسية.
السؤال الجوهري هنا لا يتعلق فقط بالشكل المؤسسي، بل بالسياق السياسي والاجتماعي الذي تُمارَس فيه الرقابة الدستورية. فما جدوى وجود محكمة دستورية مستقلة أو دائرة دستورية قوية إذا كانت الثقافة السياسية لا تعترف بعلوية الدستور، أو إذا كان احترام قرارات القضاء أمرًا انتقائيًا؟ لا يمكن النظر إلى هذه المسألة بمعزل عن أزمة بناء الدولة في السودان، حيث لم تترسخ بعد تقاليد احترام الفصل بين السلطات، ولا تزال الأجهزة القضائية نفسها عرضة للاستقطاب والتجاذب السياسي، ما يجعل مهمة أي نموذج رقابي، مستقلًا كان أو مدمجًا، محفوفة بالمخاطر.
وفي ظل هذا الواقع، يصبح النقاش حول مستقبل الرقابة الدستورية في السودان أعمق من مجرد تفضيل هيكلي أو إداري. إنه نقاش يتصل بجوهر العقد الاجتماعي نفسه، وبالآليات التي تضمن الحد الأدنى من الشرعية القانونية في مجتمع منقسم، ومؤسسات متآكلة، وانتقالات سياسية محفوفة باللا يقين. في هذا السياق، قد يكون الحل الأمثل في المزج بين عناصر النموذجين: إنشاء محكمة دستورية مستقلة من حيث التسمية والموقع الدستوري، لكن تُكوّن مؤقتًا (في فترات الانتقال) من قضاة المحكمة العليا الحاليين وفق معايير محددة، وبإجراءات تضمن الحد الأدنى من الاستقلال. على أن يُعاد النظر في تكوينها بعد استقرار النظام الدستوري واستكمال المؤسسات الانتقالية.
إن أزمة الرقابة الدستورية في السودان ليست فنية بحتة، بل تعكس إشكالات أعمق في بنية الدولة، وفي علاقة السلطة بسيادة حكم القانون، والمجتمع بالمؤسسات العدلية. لذلك فإن أي حديث عن إصلاحها يجب أن يتجاوز الجانب التنظيمي، ليشمل شروط البيئة السياسية، وضمانات استقلال القضاء، ومدى إيمان النخب بالدستور كمرجعية حقيقية وليست أداة للمناورة. دون ذلك، سيظل أي نموذج مهما بدا مثاليًا على الورق عرضة للتعطيل أو الاستخدام الانتقائي.
وفي رأيي الشخصي، إن النقاش الجاري اليوم حول مستقبل الرقابة الدستورية يجب أن يُقرأ كفرصة لإعادة تأسيس العلاقة بين حكم القانون والسياسة في السودان، بعيدًا عن الإملاءات الشكلية والمقاربات المتعجلة. ما نحتاجه ليس فقط محكمة أو دائرة، بل ثقافة دستورية تُرسّخ مبدأ أن حكم القانون يسمو فوق الجميع، وأن الشرعية لا تُؤخذ بالقوة، بل تُبنى بالثقة، وتُصان بالمؤسسات.
في سياق كالسودان، حيث تغلب الهشاشة المؤسسية ويغيب التوافق المستدام، يصبح أي نموذج عرضة للانحراف أو الشلل. لذلك، فإن النقاش حول مستقبل الرقابة الدستورية لا ينبغي أن يُختزل في شكل المؤسسة فقط، بل يجب أن يشمل ضمانات الاستقلال الحقيقي، والشفافية في التعيين، والقدرة على الصمود في وجه التسييس والانقسامات.
إن التجربة السودانية تُظهر أن بناء مؤسسات فعالة للرقابة الدستورية يتطلب أكثر من مجرد نصوص جيدة، يحتاج إلى إرادة سياسية جامعة، ومجتمع قانوني مهني، وثقافة دستورية راسخة بين الفاعلين السياسيين. وفي هذا السياق، قد يكون الحل الأفضل هو تبني نموذج مرن يجمع بين الاستقلال والتطبيق العملي، مثل دائرة دستورية قوية داخل المحكمة العليا مع ضمانات صارمة للاستقلال، ريثما تنضج الشروط لتأسيس محكمة دستورية مستقلة بحق.