استقلال القضاء في السودان: بين مثالية الشعارات وتحديات الواقع

 

محمد عمر شمينا

26/يوليو/2025

استقلال القضاء ليس ترفًا قانونيًا ولا مجرد أمنية نخب سياسية، بل هو أساس العدالة في أي نظام ديمقراطي. حين يكون القاضي حرًا في إصدار أحكامه دون ضغط أو تهديد، يشعر المواطن أن الدولة تنتمي إليه، وأن القانون يحميه لا يُستخدم ضده. أما حين يتحوّل القضاء إلى أداة بيد السلطة التنفيذية، فإنه يفقد شرعيته وتُقوَّض معه فكرة الدولة نفسها، إذ يصبح القانون غطاءً للقهر لا أداة لتحقيق العدالة.

في السودان، كان مطلب إصلاح القضاء واحدًا من أبرز شعارات ثورة ديسمبر، ليس فقط بسبب إدراك عام بانهيار العدالة في عهد الإنقاذ، بل لأن القضاء كان شريكًا صامتًا في انتهاكات ممنهجة، من قضايا القتل خارج القانون إلى تبرئة رموز الفساد وتبرير القمع السياسي. سقط النظام، لكن بنية القضاء لم تُمس. استمر العديد من القضاة والإداريين بذات المواقع، بذات العقلية، في ظل غياب خطة واضحة للتفكيك المؤسسي أو المراجعة الحقيقية.

لذلك جاء قانون (إصلاح المنظومة العدلية والحقوقية لسنة 2020) كأحد أدوات الانتقال، ونصّ على إنشاء مفوضية مستقلة لتقييم مؤسسات العدالة وإعادة هيكلتها، من القضاء إلى النيابة إلى الشرطة والسجون. وكان المفترض أن تلعب هذه المفوضية دورًا محوريًا في مراجعة الانتهاكات وتحديد معايير التعيين والعزل وترقية القضاة، لكن منذ صدورها ظلّت المفوضية محاصرة: لم تُفعّل كما ينبغي، ولم يُمنح أعضاؤها الاستقلال أو الحماية، وظلّت عرضة للتجاذبات السياسية والخلافات حول تشكيلها.

وفي جوهر هذه المعضلة يكمن سؤال جوهري: كيف يمكن تحقيق استقلال القضاء في نظام انتقالي، هش، تتداخل فيه السلطة المدنية والعسكرية، وتتنازع فيه شرعيات متعددة؟ التجربة السودانية تُظهر أن مجرد النص القانوني لا يكفي. فاستقلال القضاء يحتاج إلى إرادة سياسية، ووعي مجتمعي، ونظام قانوني متماسك يمنع تدخلات السلطة التنفيذية، ويضمن أن يكون القضاء سلطة لا تابعًا.

لكن المفارقة أن السودان لا يعيش هذه التحديات بمعزل عن العالم. حتى في ديمقراطيات مستقرة، برزت محاولات للهيمنة على القضاء تحت ذرائع مختلفة. التجربة الأميركية في عهد دونالد ترامب، رغم اختلاف السياق، تحمل دروسًا مهمة. فقد سعى ترامب إلى تعيين قضاة في المحكمة العليا والمحاكم الفيدرالية بناءً على مواقفهم الأيديولوجية، لا على كفاءتهم المهنية، لضمان انحيازهم لقضايا معينة مثل الإجهاض والهجرة. كما استخدم خطابًا عدائيًا تجاه القضاة الذين لا يوافقونه، ووصمهم بـ(القضاة المسيّسين)، بل شكك في نزاهة بعضهم لأسباب عرقية أو سياسية.

ورغم أن النظام الأميركي يملك من المؤسسات ما يكفي للحد من تغول السلطة التنفيذية، إلا أن هذه الممارسات كشفت هشاشة استقلال القضاء حتى في أعرق الديمقراطيات. وقد أثارت هذه التصرفات احتجاجات واسعة من نقابات المحامين، والقضاة المتقاعدين، والمنظمات الحقوقية، لكنها لم تمنع تغييرات جوهرية في تركيبة المحكمة العليا، ما أعاد تشكيل التوازن السياسي في المؤسسة القضائية لعقود قادمة.

وفي مقابل هذا النموذج، يظهر النظام القضائي في المملكة المتحدة كمثال مختلف. يعتمد هذا النموذج على تقاليد مؤسسية راسخة، ويُدار من خلال جهاز قضائي يحظى باحترام عميق، وتُجرى التعيينات فيه عبر لجان مستقلة مثل (لجنة التعيينات القضائية)، دون تدخل مباشر من الحكومة. يتميز القضاة هناك بدرجة عالية من الاستقلال، ويُنظر إليهم كمؤسسة قائمة بذاتها، لا كذراع من أذرع الدولة. ومع ذلك، لا يوجد في النظام الإنجليزي ما يُعرف بالمحكمة الدستورية، لأن البرلمان يُعتبر سيد القانون. وعلى الرغم من ذلك، فإن القضاء البريطاني يمارس رقابة فعالة من خلال التفسير والاجتهاد القضائي.

لكن هذا النموذج، رغم صلابته، لا يصلح بالضرورة للتطبيق في السودان. فالسياق السوداني مختلف تمامًا من حيث التاريخ السياسي، وضعف التقاليد المؤسسية، وطبيعة الصراع بين السلطات. كما أن السودان قد أنشأ بالفعل محكمة دستورية في مراحل سابقة، وهو ما يُخالف النموذج البريطاني جوهريًا. لذا فإن نقل التجربة الإنجليزية حرفيًا قد يكون غير مناسب، والأجدر هو استلهام المبادئ العامة لبناء مسار خاص يلائم تعقيدات الحالة السودانية.

هذه التجارب الدولية، في مجموعها، تضعنا أمام حقيقة بسيطة: لا نموذج مكتمل في أي مكان. المعيار هو مدى قدرة النظام القضائي على مقاومة الضغط السياسي، ومدى وجود الضمانات التي تحمي استقلال القاضي فعليًا، لا فقط نظريًا.

ولتحقيق ذلك في السودان، لا بد من تمكين مفوضية إصلاح الأجهزة العدلية، وإعادة النظر في طريقة تشكيلها، وتوسيع تمثيلها لتشمل قضاة مشهود لهم بالنزاهة، ومحامين مستقلين، وأكاديميين، وممثلين عن الضحايا، ومنظمات المجتمع المدني والنقابات المستقلة. كما يجب أن تُمنح صلاحيات واضحة في التحقيق، التقييم، وإعداد التوصيات الملزمة. إصلاح القضاء لا يمكن أن يكون شأنًا فوقيًا أو مغلقًا، بل يجب أن يُدار بشفافية، ويشمل من عاشوا آثار الانهيار العدلي بأنفسهم.

كذلك، فإن التشريعات التي تُبقي على تدخل السلطة التنفيذية في شؤون القضاء يجب تعديلها فورًا. لا يُعقل أن يكون تعيين رئيس القضاء والنائب العام بيد السلطة التنفيذية في نظام يفترض أنه ديمقراطي. يجب أن تُسحب هذه الصلاحيات، وتُحال إلى آليات مستقلة، تستند إلى معايير واضحة وشفافة، ويخضع أعضاؤها للمحاسبة.

استقلال القضاء لا يتحقق بالشعارات أو القوانين وحدها، بل بوجود منظومة كاملة تحمي هذا الاستقلال: من بيئة قانونية، وثقافة سياسية، وآليات مساءلة. وفي الوقت ذاته، يجب أن لا يُسمح باستخدام القضاء كأداة لتصفية الخصوم السياسيين تحت غطاء القانون، كما فعلت الأنظمة الشمولية، بل يجب تحصينه من كل أشكال التسييس، سواء أكانت صادرة من الدولة أو من الأحزاب.

العدالة ليست مجرد مؤسسة، بل قيمة، إذا غابت عن الدولة فقد الناس ثقتهم فيها، وإذا خضعت للسلطة تحولت إلى سلاح يُستخدم ضد الضعفاء. لذلك، فإن المعركة من أجل قضاء مستقل ليست معركة القضاة وحدهم، بل هي معركة مجتمعية، يجب أن يخوضها الجميع، كلٌ من موقعه، حتى نستحق دولة تُدار بالقانون لا بالمزاج السياسي.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى