(كنداكة على نهر الراين).. سفر امرأة بين الهوية والوطن والمنفى
الكاتبة غادة حسين موسى: لا أكتب من المنفى بل من ضفة جديدة للانتماء
اللغة تمنحني الوسيلة للتعبير لكن المكان يمنحني البوصلة
فى ظل الحرب تصبح أسئلة الإبداع كأنها ترف
محمد إسماعيل- أفق جديد
استضاف ملتقى السرد العربي بالقاهرة الكاتبة غادة حسين موسى في فعالية تحدث فيها د. حسام عقل والأستاذة عزة عز الدين، عن كتابها (كنداكة على نهر الراين).
وشهدت الجلسة مناقشة الكتاب الذي يحمل اقتباسات كثيرة، وبلغة مكثفة، فيها وجع امرأة وسيرتها، وكتب بشكل أدبي تجاوز فيه حدود الذكريات والحكاية، ويجمع بين السيرة الذاتية والتوثيق الاجتماعي، خصوصًا لروح الأحياء السودانية، وعادات البيوت والأسواق وحكايات النساء.
كتبت غادة تجربتها الذاتية بين ثلاثة مجتمعات: المجتمعين السوداني والسعودي، وصولًا إلى المجتمع الهولندي، في كتابها (كنداكة على نهر الراين) الصادر عن المصرية السودانية الإماراتية.
(أفق جديد) التقت بالكاتبة غادة حسين موسى على هامش ملتقى السرد العربي، وطافت معها في بحر رؤيتها وأفكارها حول الكتابة وبدايتها، الطفولة بالسودان والإقامة في السعودية والسفر إلى هولندا، والتحديات التي واجهتها أثناء كتابة (كنداكة على نهر الراين).
*في البداية كيف تصفين نفسك للقارئ؟
غادة حسين موسى، امرأة سودانية تنتمي بجذورها العميقة لوطنٍ ينسج روحه من الطين والنخيل. ولدت في أرض الجزيرة مدينة (الحصاحيصا)، في أوائل السبعينيات. أحمل في قلبي مزيجًا ناعماً من ثقافات متعددة، عايشتها وتصالحت معها.
واعتبر نفسي إنسانة بسيطة، تحب الحياة وتؤمن بالجمال، وتعشق العطاء، كما تؤمن بالأمل مهما ضاقت المساحات.
أكتب لأتنفس، وأحب اللعب بالكلمات، كما يلعب الطفل بألوانه، أصوغ من الحبر حياة، ومن الألم أمل.
ناشطة اجتماعية وثقافية وإنسانية ومؤخرًا كاتبة، كرّست سنواتٍ طويلة من عمري في خدمة الإنسان والمجتمع، متطوعةً في الميادين التي لا تُضاء فيها الكاميرات، لكنها تضيء القلوب.
نلت تكريمات من جهات عالمية ومحلية، وظللت رغم كل ذلك وفيةً لفطرتي البسيطة وأحلامي الصافية.
على المستوى الأسرى متزوجة من المهندس أسامة محمد هاشم الهدية، وأم لثلاثة “شيماء، أحمد، ومصطفى”.
* الموهبة الكتابية، كيف ظهرت وتشكلت؟
الكتابة عندي لم تكن قرارًا عابرًا، بل تراكمًا شعوريًا من الطفولة، وقد كنت أحتفظ بقصاصات صغيرة أكتب فيها ملاحظاتي عن الناس والأشياء، وأدوّن اللحظات التي تشبهني أو تدهشني. مع مرور الوقت، تحولت القصاصات إلى صوت داخلي يبحث عن مخرج، حتى نضج على شكل كتاب. هي لم تكن فقط موهبة، بل وسيلة بقاء وتشكيل ذات وسط تغييرات قاسية (… ).
*حديثنا عن طفولتك في السودان، والإقامة في السعودية، ثم السفر إلى هولندا وطلب اللجوء وسنوات المعسكرات؟
بدأت طفولتي في السعودية، كان عمري وقتها شهورًا فقط، وهناك نشأت في بيئة مستقرة ومنضبطة. بعد أن كبرت وعرفت أن لي وطن أجداد وجذور، كنا دومًا ننزل في الإجازات، كان قلبي دومًا يشتاق للإجازات التي نقضيها في السودان، حيث الدفء الحقيقي في سنار الحصاحيصا ورفاعة والبنطون، مدني وسنار.
وحيث الأرض تتنفس بحكايات الجدات، والخالات والعمات، وضحكات الأطفال. السودان كان يشبهني لولا قسوته.
حين قررنا السفر إلى هولندا وطلب اللجوء، لم يكن الأمر هروبًا فقط، بل كان بمثابة طلب للاحتضان في بلد تفتح ذراعيها لكل من يأتي إليها وتحضنه بالإنسانية واحترام كرامة الإنسان، كنت أبحث عن نافذة مفتوحة نحو أفق أكثر عمقًا.
معسكرات اللجوء في هولندا مختلفة، ليست مثل معسكرات السودان المليئة بالشقاء والعشوائية، بل أشبه بالفنادق، أهم ما فيها هو التعامل الإنساني، وبرامج التأهيل لما بعد المعسكر، والدعم في إكمال الدراسة أو التدريب المهني داخل بيئة تحترم جوهر الإنسان قبل أي شيء. لكن لم أستمر طويلًا داخل المعسكرات، بسبب أن طلب اللجوء تم رفضه، وهكذا بدأت رحلة أكثر صعوبة، سنوات طويلة عشناها خارج النظام، في وضع غير قانوني، بلا حماية، ولا حقوق.
ومع ذلك، كان الشيء الوحيد الذي تمسكنا به هو الأمل، لأن المنح الدراسية التي تقدمها الحكومة الهولندية للاجئين الذين لهم خلفيات تعليمية عالية أو يؤدون الدراسة في الجامعات الهولندية، أنا وزوجي كنا منهم تم منحها لنا في أثناء وجودنا القصير في المعسكرات، وهذه هي الشرارة التي أبقتنا واقفين، نواصل، ونحلم، ونقاوم.
وظللنا نحاول حتى جاءت لحظة التغيير، عندما تم إقرار قانون خاص بفئة معينة من اللاجئين عبر البرلمان الهولندي، وكنا من ضمن هذه الفئة، وعلى أساسه تم منحنا إقامة دائمة مدى الحياة، وانتقلت من صفة لاجئة إلى مهاجرة معترف بها، تحمل أوراقها وكرامتها في آن معًا.
* روايتك “كنداكة على نهر الراين” قدمت فيها حكاية امرأة سودانية من خلال سيرة ذاتية. ما التحديات التي واجهتك أثناء كتابتها؟
أكبر تحدٍ كان المواجهة مع الذات، أن أكتب عن لحظات الضعف والانكسار دون أن أُجلد نفسي. التحدي الثاني كان لغويًا: كيف أنقل مشاعر عميقة بلغة صادقة وسلسة، فقد أخذت وقتًا طويلًا لأكتب بوجداني، بالإضافة إلى الخوف من عدم وصول الصوت، أو من أن يُساء فهمه.
كنت أكتب من مكان هشٍ، لكن مليء بالصدق، وتم نقد الكتاب ونقاشه ونال استحسان القراء.
*ذكرتِ أن المرأة وطن، وأنها روح المكان الذي تنتمي إليه. كيف ذلك؟
المرأة في نظري ليست فقط كائنًا يعيش الحياة، بل هي الحياة ذاتها. هي الأرض، الحضن، الملجأ، والمصدر الأول للنور. كتبت عن المرأة وأنا أستحضر أمي، وجدتي، وكل النساء السودانيات الصابرات. المرأة وطن لأنها تحتويك في غربتك، وتذكّرك بروحك عندما تتوه، فهي فعلًا وطن كامل.
*هل كانت الكتابة بالنسبة لك ملاذًا وطريق تشافٍ من المنفى؟
بكل تأكيد. كانت الكتابة ملاذًا داخل المنفى، حيث أهرب إلى الورق عندما يضيق المكان، أفرغ حزني، أصرخ بلا صوت، وأتشافى. منحتني الكتابة القوة على الصبر، وتحويل الألم إلى شيء جميل ومثمر.
*كنداكة على نهر الراين.. سفرُ امرأة بين ضفتي الهوية والحنين. هل كانت الحكاية بحثًا عن الذات بين الوطن والمنفى؟
نعم، هي رحلة لاكتشاف الذات وسط صراع بين الأصل والامتداد، بين بيت الطين وقطار الشمال، بين لهجة الأمهات ولغة الهولنديين. كنت أبحث عن صوتي الخاص، عن هويتي التي تفتتت بين الأمكنة، وعن نفسي الحقيقية وسط تعدد الأدوار والتجارب.
*تمضين في الرواية إلى محطات شتى: الحنين للنخلة، وقصور جدة، وبيوت الحصاحيصا الطينية، ورفاعة، والنساء السودانيات… فيمَ تتمثل هوية الكتابة عندك: في اللغة أم المكان؟
هوية الكتابة عندي تتشكل من تداخل اللغة والمكان والذاكرة، لكن المكان يحتل عندي بعدًا خاصًا جدًا، لأنه ليس مجرد خلفية للأحداث، بل كائن حي يتنفس معي، ويعكس حالتي النفسية والروحية>
أتعامل مع الأمكنة بحالة من التأمل الصامت، أراقب تفاصيلها الصغيرة، أسمع صوتها الداخلي، وأعيد تشكيلها في كتاباتي كرموز تحمل طبقات من المعنى.
عندما أكتب عن رفاعة أو الحصاحيصا البنطون أو قصور جدة أو حتى النخلة، لا أكتبها كأماكن جامدة، بل كأرواح سكنتني وتركت بصمتها في داخلي. رائحة النيم، ملمس تراب الطين، ريحة الدعاش، ظل شجرة الليمون أو المنقة، السماء الحمراء في أعمدتها، خرير النهر كل ذلك يتحول عندي إلى رموز للانتماء، والحنين، والطمأنينة، وأحيانًا حتى للحزن والمقاومة.
أنا كاتبة تتأمل الأماكن قبل أن تسكنها الكتابة. أراقب الضوء في الزوايا، وأصغى لصوت الجدران، واستدعي إحساسي بها في لحظات معينة، ثم أعيد تشكيلها في النصوص بطريقة تستدعي الذاكرة الجمعية لا الفردية فقط. اللغة تمنحني الوسيلة للتعبير، لكن المكان يمنحني البوصلة والجوهر.
وأشعر أحيانًا أني لا أكتب المكان، بل أكتبه من خلالي، كأنني مرآة لما يختزنه من ذاكرة وحياة وعطر.
*وضعتِ كتابك بين نهرين: الراين والنيل. ماذا أردتِ أن تقولي من خلال هذه الرمزية؟
النهر عندي ليس جغرافيا فقط، بل حالة وجود. النيل يمثل الجذور، الدفء، الذاكرة. أما الراين، فهو العبور، البرد، المنفى، التحول.
وضعت الكتاب بين النهرين لأجسد الصراع بين حضن الوطن وبرودة الغربة، وبين ما كنا وما أصبحنا عليه. ولا يمكن الانفصال عن الجذور مهما طالت سنين الغربة، ولذلك لم أستطع الانفصال عن النيل، حتى وأنا أذكر الراين وحده.
كان النيل حاضرًا في الذاكرة والوجدان، كمصدر أصيل للانتماء، وكأنني أكتب عن الراين بعينٍ تنظر دائما إلى النيل في الخلفية.
*هل دفعتك الصدف إلى الكتابة، أم كانت اختيارًا إراديًا؟
لم تكن صدفة، ولا قرارًا أيضًا، كنت أكتب دائمًا، لكن الظروف وحب الكتابة دفعتني للانفجار. الكتابة اختيار واعٍ، شفاء روحي، فيه مخاطرة، لكنني كنت مستعدة أن أتحملها لأني شعرت أن صوتي يجب أن يُسمع.
*ما هي مقومات الكاتب الناجح من وجهة نظرك؟
الصدق أولًا، ثم التواضع أمام الكلمة، الكاتب الناجح هو من لا يخون قلمه، من يكتب بروح ووعي ورؤية.
يجب أن يكون قارئًا جيدًا، ومتصل بالحياة وبنفسه وبالناس. النجاح لا يقاس بعدد الكتب أو الجوائز، بل بمدى تأثيرك في روح القارئ.
*هل تراجعت أسئلة الإبداع في السودان أمام سؤال الحرب؟
نعم، وبشكل واضح، الحرب بطبيعتها تفرض صوتًا عاليًا يطغى على كل ما هو داخلي وهادئ.
في ظل القصف والنزوح، التشرد والفقد، تصبح أسئلة الإبداع وكأنها ترف، أو كأنها لا تملك أولوية أمام مشاهد الموت والتشريد اليومية. يتراجع السؤال الجمالي، ويتقدم السؤال الوجودي: كيف نعيش؟ كيف نحمي أبناءنا؟ كيف نحزن وندفن ونواصل؟
لكن الإبداع الحقيقي لا يلغى، بل يعيد تشكيل نفسه. قد تتغير لغته، قد يخفت صوته، لكنه لا يموت، بل على العكس، في لحظات الانهيار الشامل، يصبح الإبداع ضرورة وليس خيارًا. يصبح شكلًا من أشكال الصمود، ومقاومة الهشاشة، وصرخة مكتومة في وجه الفقد الجماعي.
أؤمن أن المبدع لا ينفصل عن مجتمعه، لكنه لا يجب أن يذوب فيه تمامًا حتى يفقد قدرته على الرؤية.
دور الكاتب ليس فقط في التوثيق، بل في التنبّه، في طرح الأسئلة التي لا يجرؤ الآخرون على طرحها، في مساءلة العادي والمألوف، حتى وسط الدمار. الإبداع لم يصمت، بل غيّر نبرة صوته. وهذا هو جوهر الكتابة الصادقة… أن تظل حية، حتى في العتمة.
*أخيرًا قد يبدو أنك كتبت من المنفى، لكن الحقيقة أنت كتبتِ من وطنٍ ثاني ما رأيك؟
نعم وطن منحني اسمي من جديد، وصوتي، وكرامتي. لم أعد أرى نفسي في المنفى بمعناه التقليدي، لأن الوطن ليس فقط الأرض التي وُلدت فيها، بل هو المكان الذي ينبتنا من جديد حين نجف.
هولندا لم تكن مجرد محطة عبور، بل صارت امتدادًا لروحي فيها تعلمت كيف أكون إنسانة تُحب رغم المسافة، وتكتب رغم الحنين، وتزهر رغم الخسارات.
لم يعد البعد عن السودان يُشعرني بالغربة، بل صار سببًا لرؤية أعمق، وكتابة أنضج، وارتباط أصدق بالجذور.
أكتب من مكان لا يقصيني، بل يحتضنني. من وطن ربما لا يشبه النيل، لكنه لم يمنعني يومًا من أن أذكر النيل في كل سطر. لذلك لا أكتب من المنفى، بل من ضفة جديدة للانتماء، لقد عشت في هذا الوطن الثاني سنينًا طويلة أكثر ما عشته في وطني الأم .