حكاية إعلامية نجت من الحرب

مايا قدير .. من مذيعة سودانية ناطقة بالإنجليزية إلى لاجئة تعمل في التنظيف بلندن

 

ترجمة _ أفق جديد 

في صباح رمضاني من أبريل/نيسان 2023 ، إستيقظت مايا قدير على صوتٍ لم يكن يشبه أي شيء سمعته من قبل . دوّي إنفجار عنيف ، تلاه صمت خانق ، ثم إرتجّت نوافذ شقتها بالطابق الثامن في منطقة العمارات ، وسط العاصمة السودانية الخرطوم . لم تكن تدرك أن تلك اللحظة ستكون نقطة التحول التي ستأخذها من كونها إحدى أبرز الأصوات الإعلامية في السودان إلى لاجئة مجهولة في مدينة بعيدة اسمها “ساوث لندن”.

مايا قدير ، الإعلامية المعروفة ، وأول مذيعة سودانية ناطقة بالإنجليزية ، لطالما شكّلت رمزاً لصوت المرأة السودانية المعاصرة . عبر أثير إذاعة “كابيتال 91.6 FM” ، لم تكن تنقل الأخبار فحسب ، بل كانت تبني جسوراً من الثقة والأمل ، وتمدّ مساحات التعبير للنساء والشباب . لكنها لم تكن تعلم أن صوتها سيصمت يوماً ، لا بفعل خطأ مهني أو إقصاء ، بل نتيجة حربٍ لا تُبقي ولا تذر .

مذيعة في زمن الإنهيار 

قبل الحرب ، كانت مايا جزءًا من الحياة العامة في السودان . قدّمت فعاليات وطنية ، وإستضافت رؤساء دول مثل بول كاغامي وآبي أحمد ، وقادت مبادرة نسوية باسم “الدائرة” ، جمعت من خلالها نساء من خلفيات مختلفة للتأثير في الخطاب الاجتماعي والإعلامي . وكانت لحظة ذروة مجدها حين قدّمت إحتفالات إستقلال السودان عام 2019 ، في بث حيّ تابعته 17 وسيلة إعلامية دولية .

لكن كل هذه الإنجازات ، والمكانة الاجتماعية والمهنية التي بنتها على مدى سنوات، لم تحمِها من قذائف الحرب ولا من شعور العزلة والفقد .

في ذلك الصباح الرمضاني من 15 أبريل ، إندلعت شرارة الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع . كانت شقة مايا قريبة من مطار الخرطوم ، الذي تعرّض لهجوم مباغت ، ومنه بدأ زحف الفوضى . حين بدأت الٕانفجارات تتوالى ، أيقنت أن الخرطوم لم تعد آمنة . لكن الخطر لم يكن خارجياً فقط ، بل كان يهدد أكثر من أي شيء حياة طفلها ، البالغ من العمر 11 عامًا ، المصاب بالشلل الدماغي ويستخدم كرسياً متحركاً .

مع غياب الكهرباء وشحّ الطعام وإنقطاع الإتصال ، تحولت الشقة إلى قفص . كانت مايا تطرق أبواب جيرانها باكية ، تطلب مكاناً أكثر أماناً . إستضافها أحدهم مع إبنها ، متجاهلاً ما تفرضه التقاليد حول إختلاط الرجال والنساء خلال رمضان . “لم تعد القواعد مهمة” ، تقول ، “بل سلامة إبني هي الأهم”.

من نوافذ الشقة ، كانت تشاهد الخرطوم تنهار . سيارات تحترق ، متاجر تُنهب ، قذائف تتساقط ، ومسلحون يجوبون الأزقة . عاشت أسبوعين على وقع الخوف ، تغلفها هشاشة الحياة ومرارة العجز . في بعض الليالي ، كانت تخبر ابنها بأن الموت ربما إقترب ، وأن عليهما أن يتقبّلاه بسلام . وفي كل لحظة ، كانت تحاول أن تبدو قوية، لكنها في داخلها كانت تنهار .

من الخرطوم إلى لندن

عبر مجموعات واتساب ، كانت مايا تتابع أنباء الإجلاء . وحين علمت أن المملكة المتحدة تُجلي رعاياها من قاعدة جوية في أم درمان، إتصلت . كان إبنها يحمل الجنسية البريطانية ، رغم انتهاء جوازه. “هو أولوية قصوى”، قالوا لها، “لكن عليكِ الوصول إلى القاعدة بنفسك”.

بمساعدة جارها الذي أقرضها 200 دولار، اتفقت مع سائق حافلة صغيرة للقيام بالرحلة المحفوفة بالمخاطر . كان من المفترض أن تستغرق ثلاث ساعات، لكنها امتدت إلى ست، مع مرورهم عبر طرق فرعية لتجنب نقاط السيطرة المسلحة . على الطريق ، شاهدت مايا مشاهد لن تنساها : منازل مدمّرة، وجثث على الأرصفة ، وأحياء إختفت معالمها . تقول: “لم أرد أن تكون هذه آخر ذكرياتي عن الخرطوم ، لكنها كانت كذلك”.

في إحدى نقاط التفتيش التابعة لقوات الدعم السريع، أُجبر الركاب على النزول. رفضت مايا الخروج، وأخبرت الجنود أن إبنها لا يستطيع المشي . ساد صمت ثقيل . ثم ، بطريقة غامضة، سُمح لهم بالمرور . وصلت إلى القاعدة، وأُعطيت أولوية في الطابور. بعد ساعات، كانت في طائرة نحو قبرص، ثم بريطانيا.

لاجئة رغماً عنها

أستُقبلت مايا وإبنها من قبل الصليب الأحمر ، ثم نُقلا إلى فندق ، ثم إلى شقة صغيرة في جنوب لندن . بسبب حالة إبنها ، تم منحها صفة لاجئة . لكنها تقول إن هذا الإعتراف القانوني لم يمنحها الشعور بالأمان ولا بالكرامة .

“اللاجئون من أفريقيا يُعاملون وكأنهم عبء”، تقول . “لا أحد يعتذر عن الألم ، ولا أحد ينظر إليك بعين الرحمة . فقط أوراق ، طوابع ، وتجاهل تام لما كنت عليه” . وبينما كانت تتنقل بين مكاتب اللجوء بحثاً عن أوراق الإقامة أو الرعاية ، لم يسألها أحد عن قصتها ، أو عن صوتها ، أو عمّا كانت تمثله في وطنها .

“كنت أقدّم فعاليات لرؤساء دول”، تقول بأسى، “أما الآن ، فأقصى ما يمكنني الحصول عليه هو عمل تنظيف أو تقديم رعاية” . في بلد غريب ، بلغة جديدة ، وسياق لا يشبهها ، تشعر مايا بأنها غير مرئية ، غير منتمية ، وأن الناس من حولها يرونها فقط كـلاجئة سوداء أخرى” .

اليوم، تمضي مايا أيامها في روتينٍ باهت ، تحاول فيه العيش بكرامة وسط عوالم لا تعترف بقصتها. تعيش على إعانات الدولة ، وتستخدم بنوك الطعام ، وتتلقى القليل من الدعم من عائلتها المقيمة في مصر. تحضر جلسات استشارية لتفريغ حزنها ، وتحاول أن تمنح إبنها حياة طبيعية قدر الإمكان .

لكنها لا تزال تحمل حنيناً قاسياً إلى ما كان . تتذكر رائحة الخرطوم بعد المطر ، وصوت الحياة في الشوارع ، والإحساس بالانتماء . “الآن أشعر أنني غريبة ، حتى في داخلي . أنتمي لمكان لا أستطيع العودة إليه، وأعيش في مكان لا أشعر أنه لي”.

لا تمتلك مايا جواز سفر ، ولا تستطيع مغادرة المملكة المتحدة ، ولا العودة إلى السودان . وفي كل مرة تنظر إلى أوراق إقامتها، تشعر أنها لا تعكس هويتها الحقيقية . “أنا لاجئة، هكذا تقول الأوراق”، لكن هذه ليست هويتها ، بل حال مؤقت لا تريد أن يكون نهاية قصتها.

عندما تُنزع الهوية

قصة مايا تكشف مأساة اللاجئين من زاوية مختلفة. فهي ليست ضحية عادية ، بل شخصية عامة ، صنعت إسمها بجهد وإبداع . ومع ذلك ، لم يمنحها ذلك درعاً ضد التهجير . الحرب ، كما تقول ، لا تفرّق بين غني وفقير ، أو مشهور ومجهول . إنها تسلب الجميع دون استثناء.

في ظل الغياب شبه الكامل لتغطية الحرب السودانية في وسائل الإعلام الدولية ، تقول مايا إن مأساة وطنها أصبحت “ضوضاء خلفية” في نظر العالم . لا أحد يهتم ، ولا أحد يتساءل عن مصير الملايين. “عندما يعاني الأفارقة، يُعتبر الأمر طبيعياً، وكأنه قدَر”.

رغم كل ما فقدته ، تصرّ مايا على الإستمرار . لا تريد أن تُختزل حياتها في كلمة “لاجئة”، ولا أن يُمحى صوتها . تتعلّم كيف تحيا بالحزن دون أن تستسلم له ، وكيف تتأقلم مع واقع جديد دون أن تفقد حقيقتها .

في صباح كل يوم ، تستيقظ على أملٍ صغير : أن تُحكى قصتها ، أن تُسمع ، أن يعرف العالم أن اللاجئين ليسوا مجرد أرقام أو صور حزينة، بل أصحاب تاريخ ، وأحلام، وصوت… مثل مايا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى