جبال النوبة تئن تحت الحصار والجوع
أفق جديد
في جنوب كردفان لم تُعد المجاعة مجرد خطر؛ بل أصبحت واقعًا ينهش الأجساد ويسحق الأرواح، ويهدد الآلاف الذين يحاولون النجاة تحت وطأة حصار خانق وغياب شبه تام لأي دعم إنساني فعّال.
في مدن جبال النوبة كل لحظة هي لحظة فاصلة بين الحياة والموت؛ أطفال ينامون على بطون خاوية، وآباء وأمهات يبحثون عن لقمة تسد الرمق وسط الركام والنار، وتتعالى عبارات التنديد وتتصاعد خطابات التضامن، لكن ما يصل إلى السكان هناك هو مجرد صدى لمدى العجز.
الغلاء يلتهم الناس
أبلغ شهود عيان “أفق جديد”، أن مدينة كادوقلي عاصمة ولاية جنوب كردفان تشهد حاليًا أسوأ موجات غلاء وتدهور الاقتصادي، وسط صمت رسمي قاتل وغياب واضح للمعالجات الإنسانية.
ووفق الشهود فإن الأسواق سجلت ارتفاعًا جنونيًا في أسعار السلع الأساسية، وانعدامًا كاملًا للمواد الحيوية، وعلى رأسها الذرة والزيوت والسكر والبصل والأرز والعدس.
وطبقًا للشهود فإن سعر كيلو السكر بلغ 24 ألف جنيه، كيلو الدقيق، 20 ألف جنيه، رطل اللبن 60 ألف جنيه، لوح صابون الغسيل 28 ألف جنيه، كيلو لحم الضأن 40 ألف جنيه، جالون البنزين 250 ألف جنيه، جالون الجازولين 600 ألف جنيه.
قلق أممي
وأعربت الأمم المتحدة عن قلقها البالغ إزاء تفاقم الكارثة الإنسانية وتشديد القيود على الوصول في جميع أنحاء السودان، وخاصة في منطقة كردفان حيث تستعر الأعمال العدائية. وأفاد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) باندلاع اشتباكات الأسبوع الماضي في مدينة كادوقلي، عاصمة ولاية جنوب كردفان، ونقل عن مصادر محلية قولها إن مسلحين حاولوا الاستيلاء على المواد الغذائية في الأسواق الرئيسية.
وقال المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك في مؤتمر صحفي: “مع تفاقم أزمة الجوع في السودان، لا تزال المدينة معزولة عن المساعدات الإنسانية، حيث تم إغلاق آخر طريق إمداد من ولاية شمال كردفان المجاورة”.
حصار يطول والسلع اختفت
المواطن يوسف عبد الجبار، أوضح أن زيادة الأسعار سببها الحصار الطويل المفروض على المنطقة. وأشار عبد الجبار في حديثه لـ”أفق جديد”: “لا نستطيع شراء المواد الغذائية الأساسية، والجوع يهدد أطفالنا، والسلع الأساسية اختفت من المخازن بصورة مفاجئة”. وأضاف: “نحتاج إلى تدخل سريع من المنظمات الإنسانية لإنقاذنا من الجوع، وتخفيف المعاناة للسكان في مدينتي كادقلي والدلنج”.
الكارثة تتصاعد
يقول موسى يعقوب، أحد التجار في سوق كادوقلي: “الأسعار ارتفعت بصورة غير مسبوقة، واختفت السلع الغذائية من المخازن بصورة مفاجئة”.
وأضاف يعقوب في حديثه لـ”أفق جديد”: “انعدم الدقيق والزيت من الأسواق بصورة غريبة، ما أدى إلى تصاعد الكارثة، والمواطن أصبح يواجه أزمة حقيقية”.
وتابع: “طالعنا في الأخبار أن السلطات الأمنية استولت على مساعدات غذائية تم شراؤها من قبل برنامج الأغذية العالمي من أحد التجار المحليين بغرض توزيعها على المحتاجين”.
كما تعيش مدينة الدلنج واقعًا مأساويًا يُهدّد أكثر من مليون نسمة، ويشهد سوق المدينة غلاءً فاحشًا غير مسبوق، حيث بلغ سعر كيلو السكر 24 ألف جنيه، كيلو الدقيق 30 ألف جنيه، كيلو العدس، 40 ألف جنيه، كيلو الأرز 35 ألف جنيه، عبوة البصل 90 ألف جنيه، كيلو لحم الضأن 50 ألف جنيه وبرميل المياه 6 آلاف جنيه.
اشتباكات مسلحة
وعلى وقع كارثة الحصار والجوع، اندلعت اشتباكات مسلحة داخل سوق كادوقلي عاصمة ولاية جنوب كردفان، بين عناصر الجيش السوداني وجماعة مسلحة يتزعمها أمير إمارة “البرام” كافي طيار.
وظل كافي طيار، رغم تحالفه الوثيق مع الجيش السوداني، يهدد بفتح مخازن التجار في الأسواق لتوزيع الغذاء على السكان الجوعى. ووفق تقارير إعلامية، فإن الجيش السوداني تصدى لعناصر من جماعة كافي طيار حاولت الاستيلاء على بضائع وسلع في سوق مدينة كادوقلي، وأشارت إلى أن التصدي تحول إلى اشتباكات بين الطرفين.
وأفاد شهود عيان “أفق جديد”، أن سكان مدينة كادوقلي يصطفون في طوابير طويلة للحصول على كمية صغيرة لا تكفي أفراد أسرة متوسطة من الذرة الرفيعة، في ظل تناقص معروض المحصول جراء الحصار المفروض على المدينة.
وتحاصر الحركة الشعبية – شمال المدينة، باستثناء الطريق المؤدي إلى مدينة الدلنج، فيما تمنع قوات الدعم السريع المتمركزة في الدبيبات وصول الإمدادات إلى الدلنج من الأبيض بولاية شمال كردفان.
وعلمت “أفق جديد” أن غرف الطوارئ (نشطاء) بدأت في تقديم حلول سريعة إثر توقف عمل المنظمات الإنسانية بسبب القيود التي فرضتها السلطات الأمنية في المنطقة.
اعتقالات وإيقاف أنشطة المنظمات
جدير بالذكر أن السلطات السودانية أوقفت في أبريل الماضي نشاط غُرف الطوارئ التي تعمل في المدينة، وتقدم المساعدات الطارئة للمتضررين من الحرب في دور الإيواء والأسر الضعيفة. كما أوقفت السلطات الأمنية أنشطة المنظمات الإنسانية تمامًا، واعتقلت عددًا من المتطوعين تحت ذريعة مصادر التمويل المشبوهة، في استهداف للعمل الإنساني في المدينة.
وأجرى المجلس الدنماركي للاجئين والمجلس النرويجي للاجئين تقييماً لأوضاع 450 أسرة تقيم في ملعب كادقلي، نزحت من مناطق داميك وتباه إثر الاشتباكات بين الجيش والحركة الشعبية – شمال وقوات الدعم السريع.
وذكر التقييم أن 96% من المشاركين أفادوا بعدم القدرة على تلبية احتياجاتهم الأساسية بسبب فقدان الأصول وغياب شبكات الدعم وتدهور سبل العيش، فيما أبلغ 54% عن مخاطر تتعلق بالحماية، مثل انعدام الأمن والفصل الأسري وعمالة الأطفال.
وأوضح أن 74% من الأسر بها طفل يعاني من سوء التغذية، بينما تفتقر 64% من الأسر إلى المأوى، فيما شكا 27% من صعوبة في الوصول إلى المرافق الصحية بسبب المسافة.
وأوقفت حكومة جنوب كردفان في 21 أبريل الماضي عمل 30 منظمة دولية ومحلية، منها المجلس النرويجي للاجئين ومنظمة الرؤية. وتسيطر الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بقيادة عبد العزيز الحلو على المناطق الجنوبية من جبال النوبة منذ العام 2011 وتتخذ من مدينة كاودا عاصمة لها، ويعيش في المنطقة حوالى مليون نسمة.