انتقال الصراع من الميدان العسكري إلى المجال السياسي بعد تشكُّل حكومتين مدنيتين
“وفي الماء كلنا أسود”
د. محمد الواثق عبد الحميد الجريفاوي
نهاية الانفراد العسكري وبداية التنافس السياسي
في يوليو 2025، شهد السودان تحوّلاً رمزياً عميقاً في طابع الصراع القائم، مع إعلان الجيش في بورتسودان تشكيل حكومة مدنية موالية له من بورتسودان، ثم إعلان مجموعة تأسيس المدعومة من جانب قوات الدعم السريع حكومة موازية في نيالا بغرب البلاد.
مدخلي في هذا التحليل ينطلق من حقيقتين:
الحقيقة الأولى: هي أن تشكيل حكومتين مدنيتين معلنتين من طرفي الحرب يُسقط إلى حدّ بعيد سردية الاتهام والمطعن “بالانحياز والعمالة”، التي لطالما وُجّهت نحو الفاعلين المدنيين المستقلين، ويفرض واقعاً جديداً يكون فيه المجال السياسي، لا العسكري، هو ميدان التنافس.
الحقيقة الثانية: هي أن تشكيل الحكومتين المدنيتين يُنهي عملياً احتكار الساحة السياسية من قبل طرف دون آخر، ويضع الطرفين المسلحين في موقع تنافس على الشرعية السياسية، لا على الحسم العسكري فقط. وبهذا، تنتقل المعركة من ميدان السلاح إلى المجال السياسي، حيث يصبح الصراع على من يحكم، لا على من يربح بالذخيرة.
وهنا تحضرني رمزية قصة “الأسد والتمساح”: حين ضرب الأسد التمساح خارج الماء ولم يقتله، فعاد التمساح إلى النهر وقال للأسد: إن كنت رجلاً، ادخل الماء؛ ففي الماء كلنا أسود.”أي أن الطرفين باتا داخل ساحة السياسة، حيث تتقارب موازين القوة، ويُقاس التفوّق بمدى القدرة على الإقناع، التنظيم، والتفاوض، لا بالعدة والعتاد.
وعلى مستوى تحليل التأثير السياسي، فيمكن تناول إعلان “التحالف التأسيسي” عن تشكيل حكومة مدنية انتقالية من زوايا متعددة، نظراً لتأثيره المركّب على المشهد السوداني. فمن جهة، يوفر الإعلان مكاسب سياسية غير مباشرة للجيش، تعزز موقعه الخطابي والدبلوماسي في مواجهة خصمه المسلح. ومن جهة أخرى، يُنتج الإعلان ضغوطاً وتحديات داخلية على وحدة القوى المدنية، لاسيما تلك التي تسعى إلى الحفاظ على موقف مستقل ورافض للحرب. كما أن هذا التطور يفرض معطيات جديدة على الأطراف الإقليمية والدولية، التي تجد نفسها مطالَبة بإعادة تقييم تموضعاتها ومقارباتها تجاه طرفي النزاع. وفي المقابل، فإن هذا التحول، رغم تعقيداته، قد يفتح أيضاً نافذة أمام الفاعلين المدنيين لإعادة تنشيط دورهم السياسي، إذا ما أحسنوا استثماره خارج ثنائية الاصطفاف مع أحد طرفي الصراع.
أولاً: المكاسب غير المتوقعة للجيش من دخول المعركة السياسية
- إعادة تصدير الجيش كحارس للشرعية
استثمر الجيش إعلان حكومة الدعم السريع ليقدّم نفسه من جديد كـ”الضامن للشرعية الدستورية” و”حامي وحدة الدولة”، كما ورد في تصريح البرهان في 27 يوليو 2025 (وكالة السودان للأنباء). وهذا التموقع أتاح له الخروج من مربع “طرف في حرب أهلية” إلى موقع “المدافع عن السيادة” في مواجهة كيان شبه عسكري يسعى لتقسيم السلطة.
- تعزيز موقفه أمام المجتمع الدولي
في ظل مساعي الرباعية الدولية (الولايات المتحدة، السعودية، مصر، الإمارات) لإطلاق تسوية سياسية، جاء إعلان الدعم السريع لحكومته كفرصة للجيش ليقدّم نفسه كشريك “منضبط” وأكثر قابلية للقبول الدولي، خلافاً لطرف أعلن سلطة سياسية أحادية خارج المؤسسات. وقد أشار تقرير مجموعة الأزمات الدولية (يوليو 2025) إلى أن الجيش استفاد بشكل غير مباشر من هذا التحول لتقوية موقعه التفاوضي.
ثانياً: الانعكاسات العكسية على تحالفات الدعم السريع الإقليمية
أربك إعلان الحكومة من نيالا بعض الدول الإقليمية التي كانت تحتفظ بعلاقات تكتيكية أو دعم غير مباشر مع الدعم السريع، ووجدت نفسها أمام التزام سياسي يصعب تبريره، خاصة مع زيادة الضغط الدولي لتفادي ازدواج السلطة.
تقرير مجموعة الأزمات الدولية أشار إلى أن بعض هذه الدول باتت تراجع موقفها، فيما عبّر دبلوماسيون غربيون (نقلاً عن وكالة الأنباء الأوروبية، يوليو 2025) عن خشيتهم من أن يؤدي هذا الإعلان إلى تعقيد جهود الوساطة وتكريس الانقسام، بدل تهدئته.
ثالثاً: مأزق القوى المدنية وتحالف “صمود” في معركة السياسة
1.انكشاف موقع “صمود” بين قوتين مسلحتين
كان تحالف “صمود” يراهن على موقف محايد يرفض الحرب ولا ينحاز لأي من الطرفين. لكن بعد إعلان الدعم السريع حكومة موازية دون تنسيق مع القوى المدنية، ووفق تحليل مركز الأهرام للدراسات (يونيو 2025)، بدا أن الخيار الوحيد أمام هذه القوى هو إما التبرير أو الإدانة—وكلاهما يحمل كلفة سياسية باهظة.
- تصدعات داخل التحالف المدني
مقابلات بُثّت في “الحدث” و”الجزيرة مباشر” (يوليو 2025) كشفت عن تباينات متزايدة داخل “صمود”، خصوصاً بين تيارات تميل لتفهم خطوة الدعم السريع، وأخرى تتمسك بخط مدني مستقل بالكامل. هذه التباينات قد تؤدي إلى تفكك جزئي أو إلى خلخلة صورة التحالف كممثل موحد للمجتمع المدني.
- تآكل فرص المشروع المدني المستقل
تحليل معهد السلام الأمريكي (USIP) (24 يوليو 2025) حذّر من أن هذه التطورات تُفقد القوى المدنية قدرتها على تقديم بديل ثالث فعلي، في ظل استقطاب ثنائي بين سلطتين عسكريتين تسيطران على الأرض، وتحاولان الآن السيطرة على المجال السياسي كذلك.
خاتمة: السياسة كساحة اختبار لا تقل ضراوة عن الحرب
إن دخول طرفي الحرب إلى حقل السياسة بتشكيل حكومتين مدنيتين لا يعني بالضرورة اقتراب نهاية الحرب، لكنه يُظهر أن المعركة لم تعد مقتصرة على السلاح. في “الماء السياسي”، كما في قصة الأسد والتمساح، تتساوى فرص الفاعلين، ويصبح البقاء للأصلح سياسياً، لا للأقوى عسكرياً.
في هذا السياق، تملك القوى المدنية المستقلة فرصة تاريخية لإعادة بناء مشروع انتقالي جامع، إذا ما نجحت في مقاومة محاولات الاستقطاب الثنائي، واستثمرت هذا التوازن السياسي الجديد لتقديم رؤية تتجاوز منطق التقاسم العسكري للسلطة.