الباحثون عن شرعية التقسيم.. شرق “الألم” غرب “الحرب”
أفق جديد
التنازع حول الشرعية
في بلد يواجه التشظي أكثر من الانقسام، أعلن علاء الدين نقد المتحدث الرسمي باسم تحالف السودان التأسيسي، تأسيسهم للرحيل بإعلان تشكيل حكومة أخرى في سودان الحرب. وفي ظل استمرار مشروع البحث عن “شرعية” في بلاد تتحكم فيها شريعة الغاب والموت والقتل والتدمير الممنهج.
بشكل غير متوقع فإن الحكومة التي يتزعمها قادة الدعم السريع وحركات مسلحة أطلق عليها اسم حكومة” السلام”، لتكون مقابلاً موضوعياً لحكومة الجيش التي اختارت أن تكون رمزيتها “الأمل”، في بلد انقلب فيها صاحب السلطة في الشرق بالتحالف مع صاحب السلطة في الغرب على حلم شعب كامل ثار ضد الكل مطالباً بالحرية السلام والعدالة.
في خضم الحرب المشتعلة والتنازع حول الشرعية وسلطة تتكي على البنادق، مقروناً ذلك بخطابات انفصال تزداد بعداً عن فكرة الحفاظ على وحدة وقومية الدولة، ينتهي الأمر بسودان النزاع لقيام “حكومتين”.
سلطة السلاح
رفض المتحدث بلسان تأسيس علاء الدين نقد، توصيف ما حدث بأنه تعبير عن قيام دولة جديدة، وإنما حكومة قال إنهم دفعوا دفعاً لإعلان تشكيلها كرد فعل لخطاب سلطة الأمر الواقع في بورتسودان .
لكن الواقع الآن يضع السودانيين بين كفي “رحى” سلطة في جزء تحت إمرة القوات المسلحة، وسلطة أخرى في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع وقوات الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو .
سمت “تأسيس” محمد حمدان دقلو رئيساً للمجلس الرئاسي خاصتها، وعبد العزيز آدم الحلو نائباً له مع تسمية حكام لأقاليم لا تمتلك عليها سلطة، مكررة ذات نموذج بورتسودان في تسمية ولاة على مناطق يسيطر عليها الدعم السريع، لكن حكومتين في بلد واحد تؤكد على حقيقة دي “العسكرية العاوزنها”.
المدنية تعطل مشروع التقسيم
وفي الجانب الآخر المكتوب عليه هذا هو حصاد “بل بس” لا تنتهي الدهشة هنا بل تستمر في مهاجمة أنصار طرفي النزاع لمن قالوا في وجه الحرب لا، ويحملونهم وزر ما اقترفت أياديهم الآن وفاتورة الانقسام الوطني في حال حدوثه.
لكن لماذا يحملون القوى المدنية الرافضة للحرب نتيجة تداعياتها الراهنة؟ يقول مدني عباس مدني، الوزير السابق في حكومة الثورة الأولى: من الوهلة الأولى للحرب كان واضحاً أن ثمة أناس مهمتهم الرئيسية هي إضعاف القوى المدنية، ليس بسبب موقفها الرافض للحرب حتى قبل اشتعالها، بل لأن وجودها يمكن أن يعطل مشروع التقسيم برمته وهو مشروع لم يكن وليد اللحظة فهو قديم.
وبحسب مدني، أن ديسمبر لم تنجح فقط في إسقاط عمر البشير، فهي لم تكن عثرة فقط في استمراره في السلطة، بل عثرة في مشروع التقسيم، وأكثر نظام كان يمكن أن يمرر هذا المشروع هو نظام حكم الحركة الإسلامية، فهو تنظيم عقدي مغلق وعنصري، لا يؤمن بمفهوم الدولة الوطنية ولا يقاتل من أجل الوطن بل من أجل التنظيم في السودان أو في أي مكان في العالم.
يرى مدني أن خطاب “تأسيس” الأخير هو نتاج لخطاب جهات “فيسبوكية” معلومة وغير معلومة، ظلت تعمل وعلى الدوام في سبيل تقسيم الوجدان الوطني بحيث يصبح بعدها تقسيم الجغرافيا أمرًا واقعًا ولا بواكٍ عليه.
السلام مقابل الأمل
حسنًا لا تعدو حكومة “السلام” غرباً عند البعض سوى نسخة رديئة من حكومة “الأمل” شرقاً، فقضايا مثل حق الناس في الحياة وفي السلام وفي تبادل المنافع وفي توفر الحق الأدنى من المطالب، لا تبدو في قاموس اهتمامات سلطتي الأمر الواقع شرقاً وغرباً، حكومتان في بلد تفتك بأهله “الكوليرا” والمجاعة.
وكون أن الحكومتين نسخة واحدة لدى المجتمع الدولي فإن هذا الأمر من شأنه أن يضعف الاعتراف بالمكون الجديد، بل سيواجه تشكيل سلطة جديدة في دارفور بالرفض من قبل المجتمع الإقليمي، وهو ما ظهر في البيان الصادر عن جامعة الدول العربية، التي طالبت من يقف وراء اعلان حكومة نيالا احترام إرادة ووحدة السودانيين .
إن ما يجري على أرض السودان التي يدفع شعبها فاتورة نزاع المتحاربين في سعيهم لتحصيل شرعية، يجعل مجرد التداول حول النموذج الليبي ترفًا لا يملك السودانيين بنية تحتية للحديث عنه. الحرب هنا من أجل الشرعية ونهب الموارد.
وصفت وزارة الخارجية السودانية إعلان تشكيل حكومة تأسيس بأنها خطوة تعبر عن استهتار وتجاهل لمعاناة الشعب السوداني من انتهاكات الدعم السريع، ووصفتها بـ”الوهمية” التي جاءت نتاجاً وتعبيراً عن انكسار “المليشيا” بعد هزيمتها في الميدان العسكري.
وطالبت الخارجية في بيان الدول بعدم الاعتراف والتعاون مع الهيكل غير الشرعي حسب وصفها، واعتبرت أن أي شكل من أشكال التعاطي مع هذه السلطة يعتبر انتهاكاً صارخاً لحقوق ومقدرات الشعب السوداني .
فيما وصف مقربون من معسكر الجيش إعلان تشكيل حكومة تأسيس بأنه محاولة من الدعم السريع لغسل انتهاكاته التي مارسها في فترة الحرب، ومحاولة تقديم نفسه للمجتمع الدولى بشكل جديد، خصوصاً في ظل التداول الكثيف لعملية العودة لطاولات التفاوض بالجزرة الأمريكية من أجل وضع نهاية لعبث الحرب السودانية.
تفاوض بين سلطتين
يطرح إعلان تشكيل حكومة موازية في السودان سؤالاً: هل هي مدخل لنهاية الحرب أم خطوة نحو المزيد من تعقيد المشهد السوداني؟. وفقاً للتحولات في المشهد الراهن فإنه سيصبح التفاوض بين سلطتين بدلاً عن كونه تفاوض بين الجيش والدعم السريع الذي سبق إلى ذلك بخطوة مطالبة أن تتم مخاطبته باعتباره جزءاً من مكون أكبر هو “تأسيس”، وهو ما يعني الصعود فوق مخرجات “جدة والمنامة”. والعمل على صياغة رؤية تفاوضية جديدة تتزايد معها المخاوف من الزج بحق تقرير المصير والمضي نحو مشروع انفصالي جديد في بلاد لم تغادر بعد تبعات انفصال جنوبها في وقت سابق، واستناداً على ذات مقومات الصراع والعجز النخبوي عن معالجة “التعدد” في إطار الوحدة.
بينما يرى “التأسيسون” في سلطتهم الافتراضية محاولة جادة للخروج من مركزية السلطة القابضة في “الخرطوم”، التي عينت تأسيس حاكماً لها فارس النور.
مجد البندقية
في مشهد “موازٍ” لسلطتي شرق “الألم” غرب “الحرب” ينظر السودانيون للحالة الراهنة بأنها مولود شرعي لمحاولة حكم الناس وفقاً لمجد البندقية، “البندقية” التي ظنوا أنهم أسقطوا شرعيتها بإسقاطهم لسلطة البشير التي فصلت جنوب السودان، لكنها سرعان ما ارتفعت فوهتها في وجوههم من قبل المنقلبين على ثورتهم ذات ليل.
لكن بندقية الانقلاب الواحدة سرعان ما انقسمت على نفسها في أبريل الحرب، من يحشونها بـ “الطلقات” ظنوا أنها ستعيدهم مرة أخرى للسلطة، وتعيد إليهم “كرامتهم” من أجل ممارسة إذلال الناس، حتى وإن بللوا كل الأرض بدم شبابها، أصحاب شعار “نحكم السودان وبالعدم سنجعله غير قابل للحياة”.
المثير للدهشة أنه وبالتزامن مع إعلان سلطة موازية في نيالا من قبل الدعم السريع أعلن قائد فيلق “البراء بن مالك” تفكيرهم في ترك السلاح والانخراط في مشروع العمل المدني، ناسياً وعده بتحرير كل السودان من الدعم السريع المتمردة، وفك حصار الفاشر، وتحرير الجنينة وغيرها.
متزامناً ذلك مع حالة الفرح التي انتابت مناصري دولة “البحر والنهر”، ما يؤكد بدوره الحقيقة: لتسقط كل الجغرافيا ويبقى لنا كرسي السلطة .