مصير السـودان بين كَهف الإسلاموية وجُب العلمانية
محمد الأمين عبد النبي
أدخلت حرب الخامس عشر من أبريل 2023 السودان في نفق مظلم، فقد أخذت أبعاد خطيرة، وأدت تداعياتها الكارثية الي تعقيدات في كل الاصعدة؛ نتيجة خطاب الكراهية والتمييز العنصري والتطرف والشطط والقبح والتوحش والانتهاكات الواسعة والماسأة الانسانية والتدمير الممنهج لمؤسسات الدولة، وتنذر مآلاتها بتفكك المجتمع وتقسيم الدولة، فالسودان اليوم أقرب الي أن يكون دولتين، بما وفرته سرديات التعنت والإقصاء من مسوغات التقسيم والتشظي، الأمر الذي تَعُده بعض الدوائر الاجنبية فرصة لإسكات البنادق ووصفة للحل بتقنين الواقع وهندسته.
من الذي وصلنا الي هذا المنعطف؟ ومن يتحمل المسئولية؟ وأي مصير ينتظر السودان جراء السجال العلماني الاسلاموي؟ وماهي البوصلة الناظمة التي تضبط الصراع؟ وما هي الوصفة الممكنة التي تخاطب اللحظة التاريخية وترسم ملامح مشروع وطني يفتح الباب لبناء عقد إجتماعي جديد؟ هذه الأسئلة المشتبكة تستدعي حوار هادئ بعيداً عن اعتساف الرأي وقمعه وقريباً من تحرير الخلاف وتحوله الي صراع حول مصير الوطن وليس من أجل مستقبله ونهضته.
خطورة الحكومتين:
كل معطيات ومحددات الصراع الداخلية والخارجية تؤكد بأن تشكيل حكومتين في بورتسودان ونيالا ليس بمجرد أوراق ضغط تفاوضية وإنما تهديد فعلي ومباشر بتقسيم جديد لخريطة السودان الجغرافية والإجتماعية والدينية والسياسية؛ والتي تعد مسألة وقت؛ إذا لم تتغير ديناميات الصراع الذي يتغذى على التراكم الخبيث للمظالم التاريخية لصالح مصالحة وطنية شاملة تجيب على أسئلة الماضي والحاضر والمستقبل وتؤسس لعقد اجتماعي جديد ومشروع وطني.
حكومتان فاقدتان للشرعية لكل منهما دستور وجيش وتحالف سياسي ومناطق سيطرة ونفوذ وولاء مجتمعي وداعم خارجي كل منهما يمتلك أدوات تأسيس دولة على إنقاض تلاشي كيان الدولة الواحدة، لا سيما وان إنفصال جنوب السودان 2011 ليس حالة إستثنائية بل حالة ذهنية قابلة للتكرار، من ناحية اخرى ثمة عوامل كثيرة تشير الي أن الحرب خلقت إنقساماً خطيراً وجرحاً عميقاً في السودان الموحد وكرست لخطاب إنفصالي متخفي وراء سؤال اليوم التالي للحرب، في الوقت ذاته ترسخت قناعة خارجية بأن طبيعة الحرب لا تخرج عن نطاق الثروة والسلطة؛ وبالتالي فإن مدخل وقف الحرب هو إنتاج صفقة تقاسم السلطة والثروة بين المتحاربين، هذا التفكير القائم على سطحية ونمطية حتماً سيقود الي تقسيم السودان في نهاية المطاف ليس بسبب تعقيدات ديناميات الصراع وتناسل المطالب والمليشيات فحسب وإنما بتجاهل جذور الازمة المركبة وأبعادها المتشابكة.
التناقض الأساسي وجوهر الصراع:
القضية ليس بهذه البساطة بل أكثر تعقيداً، ففي جوهرها قضية فكرية وسياسية واجتماعية وإستراتيجية، حيث من الخطأ تجاهل رواسب مشروع مثلث حمدي كإستراتيجية للإسلامويين ودعوات تقرير مصير الشعوب السودانية وفصل الدين عن الدولة ووحدة بندقية الهامش كإستراتيجية للعلمانيين. ولا يمكن إغماض العين عن تداعيات الحرب والتغييرات الناتجة عنها لا سيما على المشهد الاجتماعي والإقتصادي والتراجع المريع في الذاكرة الجماعية للتراث والثقافة السودانية المشتركة بما توفره من قابلية للتقسيم. ومن الخطأ غض الطرف عن إستراتيجية أمن إسرائيل العدائية ضد السودان وتقسيمه الي خمس دول ضمن المخططات الصهيونية في الشرق الأوسط كما رسمها برنارد لويس في كتابه “الإيمان والقوة .. الدين والسياسة في الشرق الأوسط”. وكذلك موقع السودان الجيوسياسي ومكانته الاستراتيجية ووضعه في قلب خريطة صراعات النفوذ الدولية والمحاور الاقليمية والتي دفعت الأطراف الطامعة إلي التكالب علي تجزئة السودان ونهب ثرواته، هذه هي خطورة وابعاد وجود أكثر من حكومة في السودان. فالبعدين الثاني والثالث مرتبطان بالخارج ولكن؛ لا يمكن التعامل معهما الإ بحسم البعدين الأول والثاني المتعلقين بطبيعة الصراع الداخلية حول شكل الدولة ونظام الحكم.
تتفق كل التيارات الفكرية والسياسية على أن مسببات الحروب في السودان تتمثل في قضايا علاقة الدين بالدولة والهوية وإدارة التنوع والتهميش والخلل التنموي وغياب الفدرالية الحقيقية وغياب العدالة في مؤسسات الدولة لمدنية والقضائية والعسكرية والاقتصادية والاستبداد والفساد وتدخل المؤسسة العسكرية في السياسة والحكم، مما يجعل كل الحروب في السودان ذات طبيعة متشابهة واسباب شبه موحدة، وبالتالي فإن حرب الخامس عشر من أبريل لم تأتي من فراغ، وإنما تعتبر ذروة الحروب في سياق الصراع الفكري والسياسي الممتد، فجوهر الصراع والتناقض الأساسي يتمحور حول طبيعة الدولة ونظام الحكم وعلاقة الدين بالدولة، والتي تعد من أكثر القضايا الخلافية والعالقة منذ الاستقلال والي يومنا هذا، بالطبع دون التقليل من مسببات الصراع الأخرى أنفة الذكر والتي تعتبر إحدى تجليات قضية “طبيعة الدولة ونظام الحكم” وتمظهراتها ومنعطفاتها سوى صراع المركز والهامش أوالثروة والسلطة وغيرها. والتي فشلت النخب السودانية في معالجتها بشكل جذري؛ بل إنجرفت إلي مستنقع الحكم الديكتاتوري “العسكري” سوى كان إسلامي أو علماني بما وفراه من غطاء فكري وحاضنة سياسية، وقد برع الحكم العسكري في توظيف الهوس الديني وشطط الحداثة الغربية لإحكام هيمنته وبسط سلطته وتغييب إرادة السودانيين الحرة.
لعب التياران الاسلاموي والعلماني على السواء دوراً كبيراً في تأجيج الصراع ليس بما يحملان من اختلافات مفاهيمية وتطبيقية حول طبيعة الدولة في سياقها التاريخي والمعاصر فحسب وإنما بالتعصب والوصايا على الشعب، وبلا أدنى شك فإن سبب الحرب التي تدور رحالها في السودان منذ 15 ابريل 2023 تتحمل مسئوليتها النزعات الاسلاموية والعلمانية، هذه النزعات المتشددة هنا وهناك عمقت الإنقسام الهوياتي والشرخ المجتمعي والإستقطاب الفكري والسياسي وانتجت حكومتين متناقضين – حكومة في بورتسودان يسيطر عليها إسلامويين وحكومة في نيالا يسيطر عليها علمانيين – دون وعي إستراتيجي بمآلات الصراع وتحويله الي تناقض حكم ديني أم علماني بدلاً عن حكم عسكري إستبدادي أم مدني ديمقراطي، فكأن قدر السودانيين ومصيرهم بين خيارين إما حكم الإسلامويين أو العلمانيين، مع الأخذ في الإعتبار أن لإي خيار رهانات متضاربة ومبالغات وفزاعات تبدد التراكم الحميد لإجتماع السودانيين على قواسم مشتركة وتعظم الإختلافات سوى كانت دينية او مذهبية أو إثنية أو ثقافية وتجرم وتشيطن الآخر في الوطن من منطق “من ليس معنا فهو ضدنا”.
السياق التاريخي:
الصراع حول طبيعة الدولة ونظام الحكم بدأ منذ فجر إستقلال السودان في العام 1956، وأدى إلي حروب داخلية وعدم استقرار سياسي لفترات طويلة، فقد فرض إنقلاب عبود 1958 الأسلمة والتعريب بصورة قسرية مما فاقم المشكلة السودانية وأجج الحرب الأهلية وحولها لحرب دينية، وعقب ثورة إكتوبر 1964 طرحت الدولة الاسلامية والدستور الاسلامي بصورة اكثر وضوحاً، كما ان نظام مايو (1969 – 1984) بدأ علماني ديكتاتوري وإنتهى إسلامي ديكتاتوري يحكم بقوانين سبتمبر الإسلامية 1983، وبعد ثورة ابريل 1985 ظهر من جديد جدل الدولة الاسلامية مقابل الدولة الوطنية بوصف الاخيرة وريثة الإستعمار، والتباين كان في أشده بين تنفيذ قوانين سبتمبر او إلغاءها وفي الأخر تم تجميدها وتقديم بديل يجعل التأصيل الاسلامي مقتصراً على المسلمين وملتزماً بحقوق المواطنة على ان تحسم القضية في المؤتمر القومي الدستوري، ولكن الجبهة الاسلامية استخدمت تطبيق الشريعة مطية للوصول الي السلطة عبر انقلاب 1989، والذي فرض حكم إسلامي ديكتاوري عمد على إستغلال الدين للتكسب السياسي وتحويل الحرب في الجنوب الي حرب دينية جهادية ليوقع لاحقاً اتفاقية السلام الشامل لإقتسام السلطة ثنائياً مع الحركة الشعبية لتحرير السودان التي مهددت لإنفصال جنوب السودان في عام 2011، وإندلعت حرب دارفور في العام 2003 ضد التمييز وعدم المساواة وسياسات النظام الاسلامي والتي لها جذور منذ العام 1957 والاحتجاج المسلح في العام 1992، وطرحت قضية طبيعة الدولة الي جانب الخلل التنموي في كل الاتفاقيات، وكانت هناك عدة محاولات للوصول لصيغة مناسبة لفك الاشتباك العلماني الإسلامي اهمها في مقررات اسمرا للقضايا المصيرية في يونيو 1995 وإتفاق باريس في اغسطس 2014 بين حزب الأمة القومي والجبهة الثورية. وبرزت القضية من جديد عقب ثورة ديسمبر من العام 2019، خاصة في الوثيقة الدستورية للعام 2019 وإتفاق جوبا لسلام السودان في عام 2020 والتي رفضتها حركتي تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور والحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو وتمسكت بالعلمانية.
طلت القضية بصورة اكبر في سرديات حرب الخامس عشر من ابريل 2023، حيث ظهر منسوبي الحركة الاسلامية الذين يقاتلون بجانب الجيش رافعين ذات شعارات التنظيم والتوجهات الايديولوجية “إسلامية بس” ويؤكدون نفوذهم السياسي على الجيش السوداني، في المقابل تبنت قوات الدعم السريع الدولة العلمانية بعد إتفاقها مع الحركة الشعبية شمال وعدد من المكونات المدنية، ونص عليها صراحة في ميثاق تحالف السودان التأسيسي والدستور الانتقالي كتوجه إيديولوجي للحكومة الموازية.
تؤكد الخلفية التاريخية للصراع حقيقة أن السودان رغم مروره بعدة تجارب دستورية سوى كانت اسلاموية أو علمانية أو مدنية؛ إلا أن الصراع مازال محتدماً يضع مصير السودان في المحك.
كهف الاسلاموية ومأزقها التاريخي:
الإسلاموية وصف لتيار الاسلام السياسي الذي يعتمد الأصولية الاسلامية واعادة صياغة المجتمع والدولة وفق تصور معين تراه للإسلام، تقوم عليه مؤسسة دينية، تتخذ الجهاد والتمكين والعنف وسائل لإقامة الدولة الاسلامية والنظام الاسلامي، تستغل الإلتزام العقدي لدى عامة الناس للوصول الي السلطة، وتستند على شرعية دينية مناطها تطبيق الشريعة واعادة دولة الخلافة والحاكمية ومناهضة التيارات الغربية .
وهنا يجب عدم الخلط بين الحركة الاسلامية كتنظيم ايديولوجي يتستر بالاسلام وبين التدين لدى عامة المسلمين الذي يرتبط بالعقائد والعبادات والمعاملات التي تعبر عن خصوصيات المجتمع الثقافية والحضارية والاجتماعية. والتفريق بين “إسلامي” كتعبير يشير الي الالتزام بالنص الديني قطعي وروداً ودلالة والمعلوم بالدين بالضرورة وبين “إسلاموي” كتعبير ايديولوجي يشير الي فهم جماعة معينة للنهج الاسلامي. وبالضرورة أيضاً التأكيد على أن داخل المجتمع المسلم هناك تيارات عدة أكبر من الحركة الاسلامية “الاسلاموية” كالتيار الوسطي الذي يتبنى التوفيق بين الاصل والعصر وبين الدعوى والسياسي ويستند على تفسير وفهم مقاصدي للدين ويطرح نموذج الدولة المدنية لفك الإشتباك الإسلامي العلماني، والتيار الصوفي الذي يتمسك بالشعائر والاخلاق والمعاملات الاسلامية وليس له علاقة بالسياسة، والتيار السلفي الذي يدعو للتوحيد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر واستقامة المسلم وتزكية المجتمع.
تعد الحركة الإسلامية السودانية النموذج الأبرز لحركات الإسلام السياسي في المنطقة بكل ما تحمل من أفكار راديكالية وتنظيم أيديولوجي تتداخل فيه الأبعاد السياسية والعسكرية والدينية والقبلية والاقتصادية، والتي إستلهمت تجربة الثورة الاسلامية الإيرانية بحزافيرها، وتعتبر قدوة للحركات الإسلامية في المنطقة، ويكاد السودان البلد الوحيد التي طبق فيه النموذج الأصولي لمشروع الإسلام السياسي في الحكم.
مأزق الإسلامويين السودانيين الفكري يتمثل في تبني رؤى ماضوية لتطبيق الشريعة “الإسلام هو الحل” دون إجتهاد ومراعاة للواقع ومعطياته، وإطلاق شعارات بلا تصورات معرفية، مما يشير الي خلل الأصول النظرية والمفاهيمية وغياب أفق التعامل مع المتغيرات المعاصرة وعدم إستيعاب التعدد والتنوع الثقافي في المجتمع السوداني والتناقض بين النظرية والتطبيق؛ ولذلك فشلت التجربة وجاءت بنتائج عكسية لإصطدامها بتعقيدات الواقع الذي يتطلب رؤى متجددة. عطفاً على موقف الإسلامويين الملتبس من قضايا الديمقراطية والتعددية والوطن والمواطنة والدولة القطرية الحديثة وعلاقة الدين بالدولة والحريات العامة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وقضايا التربية والتعليم والقيم الاجتماعية وحكم القانون والعلاقات الخارجية وطبيعة النظام الاقتصادي، المواقف المتزمتة من هذه القضايا تؤكد على أن الإسلامويين مازالوا يعمهون في كهفهم وينم على ازمة بنيوية في العقل الإسلاموي الرافض للتجديد، فلم تخضع هذه المواقف الي مراجعات مؤسسية عميقة كما حدث في عدد من البلدان، سوى بعض المحاولات الفردية الجادة التي قمعت بقوة لصالح المواقف البراغماتية والإجابات السطحية التي تشير الي إفلاس معرفي وتكريس خطاب أسير للماضي ومشكلاته وبعيد عن إحتياجات الناس وتطلعاتهم وأسئلة الواقع المتغير ومفارق لجوهر الدين ومقاصده.
أما الورطة السياسية للاسلامويين تتمثل في الإستيلاء على السلطة بالإنقلاب العسكري، قال الدكتور خالد التجاني النور”لا يعفي الاسلاميين من المسئولية أنهم إستغفلوا من قبل قيادتهم أو غاب عن وعيهم خطورة عواقب عسكرة المشروع الاسلامي والاشتراك في تنفيذ الانقلاب عن سلطة شرعية منتخبة ثم قبول أكثرهم بالتحول الي مجرد موظفين في وزارات ودواوين الحكم يتسابقون على مكاسب السلطة ومغانمها، أو قبول البعض بأن يصبح بيارق تستخدم لقمع الاخرين من أجل البقاء في السلطة بأي ثمن حتى ولو كان ذلك خصماً على القيم الاخلاقية للإسلام”، ومن أكبر جرائم الإسلامويين السياسية إختراق المؤسسة العسكرية والأمنية وتكوين مليشيات موازية للجيش، وممارسة أسوأ أنواع الإستبداد والفساد والقهر والإفقار بإسم الدين، وإرتكاب مجاذر القتل والتشريد وجرائم التعذيب والإغتصاب وإنتهاكات حقوق الانسان والحريات العامة، وإتباع سياسة التمكين والمحسوبية وتقديم الولاء على الكفاءة مما شوهت كافة مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية والقضائية، وتسييس الادارات الاهلية وتجييش القبائل وتاجيج النعرات الإثنية والجهوية مما أدى الي ضرب النسيج الاجتماعي السوداني، وتدمير مقدرات وثروات البلاد وتحويلها الي جحيم، وأشعال الحروب في كل بقاع السودان بإسم الدين مما أدى لإنفصال جنوب السودان وبروز نزعات إنفصالية جديدة، فلم يجد الاسلامويين أي فاصل بين غايتهم وطريقة الوصول لها – الغاية عندهم تبرر الوسيلة – وبهذا الشعار أذاقوا السودانيين الامرين.
يتحمل الإسلامويون المسئولية الكاملة في تقويض الفترة الانتقالية عقب ثورة ديسمبر 2019 وهندسة إنقلاب اكتوبر 2021، وإشعال حرب الخامس عشر من ابريل 2023، وكل تداعياتها الماسأوية، وجرم الإصرار على إستمرارها ، والوقوف حجر عثرة أمام اي فرصة سلام تلوح في الأفق، والتخفي وراء الجيش لإستعادة سلطة مفقودة على انقاض وطن مدمر بذات الوسائل غير المشروعة؛ وهذا هو المأزق الكبير والخسران المبين، هذه التركة الثقيلة من الجرائم والإنتهاكات والممارسات التي اوصلت البلاد الي هذا المنعطف؛ زادت من الرفض الشعبي للإسلامويين خاصة وأنهم مازالوا يتبنؤن ذات التوجهات الراديكالية والتصورات الضيقة والشعارات الاقصائية، وقد بأت من العسير عودتهم الي السلطة من جديد، والتي مرهونة بتغيير المنهج والتخلي عن نمطية الخطاب السياسي والإعتراف بالإخطاء والإستعداد للمحاسبة ضمن مصالحة وطنية شاملة.
لعل المشكلات التنظيمية التي تعاني منها التنظيمات الإسلاموية لها أثراً جدياً على حاضرها ومستقبلها خاصة بعد ما طالتها الانشقاقات العميقة والإنقسامات العديدة والصراعات المتناسلة والجمود القيادي وضياع المشروع السياسي بفشل الاسلام السياسي في المنطقة، وأصبحت فقط تعتمد على مشروعية المؤسسة العسكرية وقيادتها ورمزيتها. صحيح؛ سعت الحركة الاسلامية لتجميع شعث الجماعات الاسلامية المنشقة عنها في التيار الاسلامي العريض على شاكلة الجبهة الاسلامية للدستور 1955 وجبهة الميثاق الاسلامي1965 والجبهة الاسلامية القومية 1985 ووفق اطروحة المنظومة الخالفة للدكتور حسن الترابي 2015، ولكن تجربة التيار الاسلامي العريض منذ تكوينه في 2022 كإطار تنسيقي لترتيب الأوراق وعودة دولة الشريعة ولكنه؛ ظل حبيس التصورات الماضوية وفشل في تحقيق وحدة إندماجية وفي تصحيح الأخطاء الكارثية التي إرتكبت في حق الوطن، فأصبح إسماً بلا معنى وشكلاً بلا مضمون وسرعان ما عادت كياناته تعبر عن ذاتها بعيداً عنه.
الحقيقة التي لا جدال حولها ان التطلع الإسلامي يحظى بتأييد كبير وقاعدة إجتماعية واسعة وسط السودانيين رغم التباين في المرجعية الاسلامية حول الفهم الصحيح للإسلام والقضايا الفقهية والسياسية، فالتوجه العام يتبنى إيجاد مقاربة بين تحقيق التطلع الاسلامي وإحترام حقوق المواطنة المتساوية. ولكن طرائق تفكير الحركة الاسلامية واستغلالها للدين وتحويله الي انتماء ايديولوجي يوظف هذا التطلع لتحقيق مصالح سلطوية وإقتصادية بصورة غير شرعية على حساب المجتمع المسلم قد أضر كثيراً بالإسلام والسودان، وبالتالي تعد الحركة الاسلامية معول هدم ومخلب قط ليس بسبب إرتباطاتها الخارجية في سياق وحدة الامة على حساب وحدة الوطن فحسب وإنما تعمدها تقطيع أواصل المجتمع وتقسيم السودان على مقاس مشروعها الأصولي، وهذا هو الوزر التاريخي الذي تتحمله الحركة الإسلامية “وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى”.
جُب العلمانية وأزمتها الوجودية:
العلمانية على حد تعريف هارفي كوكس أنها ” إدارة قَفَا الانسان من عوالم غيبية، ولفت نظره الي هذا العالم وهذا الزمان، إنها طرد الغيبات من الطبيعة، وطرد القداسة من السياسة، وتحرير القيم من الجمود، وهي حركة تاريخية مستمرة بموجيبها يرتقي الانسان من الطفولة الفكرية الي النضج، ويتحرر من الوصايا ليصبح مسئولاً عن مصيره”، ومنذ أواخر القرن التاسع عشر تم تعريفها بإعتبارها “فصل الدين عن الدولة” كتصور سياسي وإخفاء البعد الفلسفي حول الأسئلة الكونية، وقد أشار المفكر عبد الوهاب المسيري الي أن العلمانية التي تحققت في الواقع تعني أن ثمة إنتقالاً من الإنساني الي الطبيعي المادي وأعدها سقوطاً في الفسلفة المادية، وميز المسيري ما بين “العلمانية الجزئية” التي تعني الفصل بين الدين والدولة من ناحية، ومن ناحية أخرى ما أسماه “العلمانية الشاملة” وهي رؤية شاملة للكون بكل مجالاته، والتي تفصل كل القيم الانسانية والاخلاقية والدينية عن كل جوانب الحياة الي ان يتم نزع القداسة تماماً عن العالم. على ضوء ذلك ظهرت عدة علمانيات تتراوح ما بين علمانية إلحادية متشددة كعقيدة مقابلة للدين الي علمانية معتدلة تنادي بفصل الدين من الدولة.
العلمانية المطروحة في السياق العربي والإسلامي بما في ذلك السياق السوداني لحد كبير تندرج تحت النوع الثاني القائم على فصل الدين من الدولة، فالمبادئ فوق الدستورية التي طرحتها الحركة الشعبية شمال قيادة عبد العزيز الحلو تؤكد على فصل الدين عن الدولة دون الاعتداء على مظاهر الدين وممارساته، وبذلك فإن الحركة الشعبية شمال ترفض النموذج المتوحش والأشمل للعلمانية.
التطلع العلماني في السودان مستمد من التجارب المعيبة للتطبيق الاسلامي ومن النقل الأعمى للتجربة الغربية، وبالتالي غرق في جُب تناقضات الحداثة وتفكيك منطلقاتها النظرية وتعقيدات الواقع وإشكالات التطبيق، وعجز عن الإجابة على سؤال الفصل التام، ومعلوم بالضرورة ان الدولة هي شعب وأرض وسلطات تنفيذية وقضائية وتشريعية؟، فكيف يفصل الدين عن الشعب؟، وكيف يفصل الدين عن السلطات الثلاث؟، كما ان عملية الفصل تفرض رفض تدخل الدين في السياسة بما يتعارض مع مبدأ الحرية وحق المجتمعات التي تقوم على الالتزام بالتصور الديني في تنظيم نفسها والمشاركة في إدارة الدولة، فكيف إذاً يتم الفصل دون انتهاك حرية هذه المجتمعات؟، صحيح؛ ان السودان بلد متعدد الثقافات والاثنيات والاديان وهذا ليس مسوغ لفرض مشاريع آحادية كالعلمانية والإسلاموية بقدر ما يستدعي الادارة الحكمية للتنوع وبناء هوية سودانوية جامعة.
أزمة العلمانيين ليس في إغفالهم للسياق التاريخي الذي أنتج العلمانية في الثقافة الغربية نتيجة الصراع الطويل في مواجهة ثيوقراطية الكنيسة ومحاولة استجلابها كحلول جاهزة فحسب وإنما إغفال الغايات والمقاصد ومعاني الحياة والإنسان، وإغفال الواقع السوداني الذي يعاني من إشكالات مختلفة عن الغرب المسيحي، فمن ناحية تبنى علمانيو السودان ذات التبريرات والدوافع التي يسوقها الغرب لمقاربة معالجة اشكالاته، ومن ناحية آخرى تبرير دعوة علمانية الدولة كردة فعل ممارسات الإسلامويين بإسم الدين – التي لا تعبر بالكاد عن مجتمع المسلمين – الأمر الذي أدخل العلمانية في عداء صريح مع منظومة القيم الدينية والأخلاقية في المجتمع السوداني، فقد أدى شطط طرح المطلب العلماني الي تغذية مضادة تتمسك بالدولة الاسلامية وتكفر دعاة العلمانية، وذلك بطرحها كمصطلح إشكالي وكمفهوم هوياتي يؤجج الصراع أكثر من يقدم حلول له، مع الأخذ في الإعتبار المؤثرات الخارجية وتداعيات إستمرار الصراع الاسلامي العلماني لأكثر من قرن من الزمان في عدد من دول المنطقة.
مازق العلمانيين في السودان أعمق من مأزق الإسلامويين حول قضايا الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة؛ لأنهم ينادون بها في المعارضة ويتنكرون لها في السلطة، بالإضافة الي مشاركة العلمانيين في الأنظمة الإستبدادية والإنقلابية ومساندة حكم العسكر وتبرير بطش وقمع نظام مايو 1969 للشعب السوداني، وهذا ليس إستثناء فتجارب العلمانية في العالم من لدن هتلر وستالين كلها تكشف زيف إدعائها الديمقراطية وإحترام إرادة الشعوب، وبالتالي باتت العلمانية من قضايا التكسب السياسي والتي تثيرها بعض القوى لإستقطاب شرائح معينة في المجتمع وفرضها على ارادة الشعب دون تفويض إنتخابي، فقد نادت الحركة الشعبية لتحرير السودان بالعلمانية ولكنها تخلت عنها في إتفاقية نيفاشا وإقتسمت السلطة ثنائياً من النظام الإسلاموي الشمولي وقبلت بتقسيم البلاد على اساس ديني، كما تناست القوى الموقعة على إتفاق جوبا لسلام السودان عن مطلب العلمانية لصالح مشاركتها في السلطة.
مجمل القول ان ليس هناك إتساق فكري وسياسي لدى القوى العلمانية التي لا تؤمن بالديمقراطية رغم النص عليها في مرجعياتها، وتتعامل معها ككرت للإبتزاز والمزايدة والمساومة. وقد لا تجد حرجاً في الإصطفاف مع أحد طرفي الحرب وتنخرط مع قوات الدعم السريع في تحالف تأسيس الذي نص على علمانية الدولة في دستور الحكومة الموازية في مناطق سيطرة الدعم السريع وتحت حماية بندقيته، مما يفتح الباب على مصرعيه لتقسيم السودان ما بين دولة علمانية في الغرب ودولة إسلاموية في الشرق.
فك الإشتباك ومدنية الدولة:
ان أساس الصراع في السودان الإستبداد وهو ملة واحدة سوى كان علماني بإسم الحداثة أو إسلاموي بإسم الإسلام بإستخدام وسائل قهرية لفرض مشروع آحادي، وان المطلب الرئيسي للسودانيين إدارة التنوع والإستجابة للتعددية كأساس للديمقراطية، وضبط الهوية السودانية بكل ما فيها من رصيد إيجابي يعزز الوحدة الوطنية والإندماج القومي في إطار التاريخ الحضاري والمنتوج الثقافي المشترك مع كفالة حق إنتماء أي فرد لهويته الثقافية والتعبير عنها بالوسائل الديمقراطية.
الصيغة الموضوعية لطبيعة الدولة ونظام الحكم تلك التي توفق بين الأصالة والحداثة وتفك الإشتباك بين الدولة الدينية القائمة على الحاكمية والإستخلاف والدولة العلمانية القائمة على فصل الدين من الدولة، هي الدولة المدنية التي تستمد مشروعيتها من مواطنيها ما يجعل المسلمين منفتحين لتطوير نظم الحكم الذي يندرج ضمن الخطاب القيمي والمقاصدي؛ كما أشار الامام الصادق المهدي عليه الرضوان ” ليس في الاسلام نظام حكم معين لان نظام الحكم ليس من الثوابت كالتوحيد والنبوة والمعاد والاركان الخمسة بل قابل للحركة الإجتهادية ضمن مبادئ ومقاصد سياسية”. مؤكداً على ” أن فصل الدين عن الدولة غير ممكن وأن أنواع الفصل المطلوبة هي الفصل بين المواطنة والانتماء الديني، والفصل بين السلطة السياسية والعسكرية، والفصل بين المؤسسات الدعوية والمنظمات السياسية، والفصل بين ممارسة الحكم وممارسة التجارة.” وقد قدم التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة “صمود” صيغة لمسالة الدين والدولة في رؤيته السياسية لإنهاء الحروب وإستعادة الثورة وتأسيس الدولة يونيو 2025 ” بناء وتأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية تقوم على الفصل التام بين الانتماء الديني للمواطنين والدولة، على أن تقف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان والمعتقدات، وان تكون المواطنة المتساوية هي أساس الحقوق والواجبات الدستورية دون أدنى تمييز على أساس ديني أو ثقافي أو اثني أو لغوي أو جهوي أو بسبب الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي أو الإعاقة أو أي شكل من أشكال التمييز”.
على الرغم من أن النسخة الإسلاموية المطروحة الآن إنتهازية، والنسخة العلمانية المطروحة مخففة، إلا أن حدية الصراع العلماني الإسلاموي بكل حمولاته التاريخية والأيديولوجية تلقي بظلالها على مصير السودان سيما وأن الصراع إتخذ وسائل عنيفة، هذا الإنقسام الإجتماعي والسياسي الذي ينذر بتقسيم جغرافي في ظل حرب ضروس يستوجب بناء رؤية توافقية قادرة على فك الإشتباك حول طبيعة الدولة ونظام الحكم وضبط العلاقة بين الدين والدولة كأهم القضايا التي ينبغي استيعابها بجدية في مشروع وطني ينتج عقداً اجتماعياً جديداً يتعايش بموجبه السودانيين بسلام وديمقراطية، وهذا ممكناً، فقد تمت عدة صيغ توافقية من قبل في فترة الديمقراطية الثالثة 1985 بأن يكون التشريع بوسائل ديمقراطية، وفي مقررات أسمرا للقضايا المصيرية 1995 والتي حددت أسس الحكم بعيداً من العلمانية، وفي الوثيقة الدستورية الإنتقالية 2019 التي نصت على دولة المواطنة بلا تمييز، وطرح الامام الصادق المهدي 2020 صيغة توافقية في مقال “يسالونك عن الدين والدولة” مستنداً على رؤية تأصيلية لفك الاشتباك، وأدارت مجموعة من مدارس إسلامية وعلمانية حواراً في فبراير 2017 بنيروبي حول علاقة الدين بالدولة، واتفقوا على أن للدين دوره في الحياة، ولا يمكن إبعاده، مع التأكيد على أن الدولة يجب أن تقف موقفاً واحداً تجاه كل الأديان، مع التزامهم بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، لا سيما حرية التعبير والتفكير، وكافة الحريات الأخرى.
إذن إمكانية التوافق موجودة ومتوفرة إذا حسنت النوايا وتوفرت الإرادة، فهل نشهد تحول يخرج السودان من كهف الاسلاموية وجب العلمانية؟. فقضية الدين والدولة بكل ما تحمل من خطورة وتعقيدات لا يمكن فرضها على الشعب السوداني بأي شكل من الأشكال، وبلا شك ستكون محل جدل مستمر فلا يمكن حسمها الا عبر مؤتمر قومي دستوري جامع وبرلمان منتخب، والي حين ذلك من المهم التعاطي الهادئ حول قضايا المصير الوطني والانخراط في حوار مائدة مستديرة سوداني يتواضع فيه السودانيين على رؤية توافقية لإنهاء الحرب وفتح الطريق أمام التحول المدني الديمقراطي وإعادة اللحمة الوطنية.