المرفعين
محمد أحمد الفيلابي
كان مستلقٍ يدندن:
“يا اللوري.. عليك الرسول بوري..
سول بوري.. عليك الرسول بوري”
هو لا يعرف من الأغنية أكثر من هذا المقطع الذي يلبي أشواقه، يدندن به كلما سمع بكاء ماكينات اللواري في صراعها مع رمل الوادي عند منتهى شجرات الغابة. إنه الشهر الثاني، أو قد يزيد، منذ غاب ذلك البوري الذي يعشق.. النداء الذي يعلن عن قدوم صديقه. ربما هي ثلاث سنوات أو أكثر منذ جاء إلى هنا، لا يدري كيف كانت ستمضي لولا العلاقة التي نشأت بينه وبين (المرفعين)!
المرفعين لدى السودانيين المرفعين، كما أنه لدى المصريين “السعلوة”. ويقال إنّه الحيوان الأسطوري “تشوباكابرا” الوارد في العديد من الأعمال الفنية والحكايات. ويعتقد البعض أنّه نتاج للتزاوج ما بين ذئب وضبع، وينفي البعض ذلك بحجة اختلاف عدد الصبغيات في الضباع والذئاب، مؤكدين أنّ التزاوج بين الذئاب والكلاب جائز لتشابه الصبغيات.
منذ جاء إلى هنا مداناً ومطروداً من جماعته، ظل في صراع مع المرفعين، يسمع صوته كل ليلة يحوم حول المسكن الذي شيده على مدى يومين. وأحزنه أنه لم يأت معه بسلاح ناري، رغم توفر الأسلحة بكافة أنواعها في تلك النواحي، لكنه حمد الله أن كان من بين أدواته فأس وسكين، وأداة شحذ (حجر مسن)، وبطارية، بجانب مستلزمات من يُجبر على سكنى الغابة. إذ كان عليه أن يمتثل لأمر القبيلة ويأتي إلى هنا وحيداً، ولا يدري لماذا لم يفكر في السفر إلى أي مدينة بعيدة كما يفعل المنفيون من أمثاله، ولعله أراد أن يعيش العقاب كما هو جراء ما قام به.
من القواعد والتقاليد غير المكتوبة التي تحكم سلوك الأفراد في بعض الأعراف القبلية، هناك عقوبات يحكم بها كبار زعماء القبيلة في حال ارتكاب العضو جريمة تتعلق بانتهاك قواعد الشرف، أو الأعراف القبلية، أو أي جريمة ضد أفراد القبيلة ورموزها المقدسة. ومن ذلك الخيانة كالتعاون مع قبيلة معادية، أو التجسس لصالحها، أو أي عمل يضر بمصالح القبيلة، وكذا القتل العمد خاصة إذا كانت الضحية من ذات القبيلة، وحين يقبل أهل المجني عليه بعقوبة النفي حقناً للدماء. وفي بعض القبائل تعد السرقة من الجرائم التي تستوجب النفي، وكذا الاغتصاب وانتهاك الحرمات. ووفقاً لذلك، ومن أجل حماية تماسك القبيلة يطرد الجاني من دار القبيلة ويحرم من حقوقه ومكانته داخلها. وبعض القبائل تنفي الفرد الذي لا يظهر الاحترام لكبار رجال القبيلة، أو الذي يهين رمزاً من رموزها. كما يتم نفي الجبناء ممن يتهربون من القتال، أو الدفاع عن القبيلة. بل حتى الذين يمارسون السحر والشعوذة.
لن يحدّث أحداً عن جريمته، وعليه أن يقبل بالأمر، ويحزم ما يحتاجه من متاع قليل، ويخرج بحثاً عن حياة جديدة بعيداً عن دياره، حياة لا تنسيه ما فعل، ولا تلهيه عن (الإحساس اليومي بالعقاب)، كما عبّر يوم أن حكى لصديقه سائق اللوري.
كان يقضي جل ساعات النهار في البحث عن الفرائس وقطع الأشجار حول مسكنه ليتمكن من رؤية الوحش المتربص به، فقد ظل يعاني لليالٍ طويلة من محاولات هش المرفعين، رغم أنه لم يره إلا بأذنيه، فكل صوت حوله مبعثه المرفعين كما يظن، وإن كان خشخشة أوراق، أو حركة حيوانات صغيرة من التي تصيد فرائسها من الحشرات والطيور ليلاً.
بعد أيام اهتدى إلى صوت الفأس صاحب عربة نقل (لوري) تعطلت عند طرف الوادي، فجاء يطلب الماء والمؤانسة ريثما تصله قطعة الغيار فيصلح عربته. خلال اللقاء، حكى القروي قصته مع المرفعين حين ألح عليه الضيف الذي ضحك مبيناً أنّه – للمفارقة – يُلقّب بـ (المرفعين)، لأنّ الاسم مكتوب على صندوق سيارته. فقد اعتاد أصحاب السيارات أن يطلبوا من الخطاطين الجوالين في أسواق المدن، وورش إصلاح السيارات رسماً على صندوق السيارة، أو ليكتبوا عبارات تعبر عنهم عن أمزجتهم حينها.
وفي كل مكان تجد من ينتظر (اللوري) ومن عليه.. في شوق عبر عنه المطرب الشعبي (آدم شاش) في أغنيته، التي ردّدها بعده الكثيرون، وأعادت مجموعة عقد الجلاد بعثها من جديد..
يا اللوري عليك الرسول بوري
يعود عمر استخدام “اللوري” في السودان لأكثر من مئة عام منذ جلبه المستعمر البريطاني في 1918 من مدينة بيدفورد شرق إنجلترا، حيث كانت تصنعه إحدى الشركات التابعة لجنرال موتورز. وذكر الشيخ بابكر بدري في كتابه (حياتي) أنه “زار رفاعة فريق من ضباط الجيش الذي حارب بالميدان الغربي في فرنسا، حيث جاء الضباط محمولين على لوريات (سيارات ناقلات جنود)، وكانت تلك المرة الأولى التي نرى فيها هذه الشاحنات”.
ويقول الباحث الأنثروبولوجي مبارك حتة “ظهر (اللوري) في الحياة السودانية خلال فترة الاستعمار، وكان يأتي عن طريق ميناء بورتسودان، ويدخل بكابينة فقط (رأس) ويتم تصنيع صندوق له بواسطة ورش متخصصة في تركيب الحديد الذي يتوافق مع حجم (اللوري) ووظيفته، سواء في نقل الناس (بصات) أو البضائع أو الدواب إلى أماكن متفرقة في السودان”.
وذكر أن اللوري في السودان يحمل تفاصيل الحنين إلى حقبة القرن الماضي، فعلى رغم الحداثة التي طاولت وسائل النقل، فإنه ظل ولا يزال يواصل رسالته بين مدن وقرى السودان المختلفة، فهو نبض وريد يضخ حنيناً في جسد التواصل السوداني، وحلقة وصل اجتماعية لم تنقطع إلى الآن. (1)
كان اللوري هو وسيلة النقل الرئيسية في المناطق التي تفتقر إلى الطرق المعبدة والسكك الحديدية، مما جعله جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية. إذ يرتبط اللوري بذكريات السفر والتنقل، والأغاني الشعبية، والقصص التي تروى عن الرحلات والمغامرات. ليغدو في الثقافة السودانية، ليس مجرد شاحنة نقل، بل هو رمز ثقافي واجتماعي يرتبط بالذاكرة والتقاليد.
وكان اللوري قد أبعد الجمل حتى من المشاوير القصيرة الأخرى إلى الاسواق والمزارع. وأبعد عنه كثير من راكبيه لأداء مهام رسمية أو شعبية. فأول فئة انتقلت من ظهر الجمل إلى متون الشاحنات هم موظفو الحكومة الذين انتقلوا إلى الكومر والشاحنات الاخرى من ورثة الكومر.
هناك “وجدانيات في الثقافة والأدب نشأت بين اللوري وعموم أهل السودان. حتى أنّ اللوحة التي تعبّر عن السودان في مبنى الاتحاد الأفريقي بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا هي لوحة يظهر فيها لوري أوستن تعرّض للوحل، ومجموعة من الناس تجره. لا بد أنها من قبيل حكاية اللوري قبل إنشاء الطرق، عندما كانت تكثر الأوحال فتتوقف اللّواري، ولا زالت في المناطق خارج طريق الإسفلت. فيقولون “بكرة يجي الخريف واللّواري تقيف” (2).
ودون خريف توقف اللوري (المرفعين) لأيام طويلة عُقدت خلالها صفقة تجارية قضت بتحميل العربة الأخشاب المتراكمة التي قطعها القروي، الذي لم يكن يدرك أن الخشب يباع، بيد أن صاحب اللوري أقنعه بذلك، بل ساعده على فتح الطريق وسط أشجار الغابة حتى المسكن. وجاء في الصفقة أنه سيعود كل مرة بعد إنزال حمولته في المدينة ليحمل ما تم قطعه من أخشاب.
وها قد أصبح القروي يقطع الأشجار لـ (المرفعين) اللوري، بعدما كان يقطعها خوفاً من (المرفعين) الحيوان، في مفارقة تجسد تدرُّج الإنسان في علاقته مع الطبيعة، من طور التقديس والخوف منها، والابتهال لقواها المختلفة، إلى طور السيطرة على قواها، والتعرف إلى قوانينها، وصولاً إلى إيذائها والفتك بها.
يورد الكاتب أحمد السعد أنّ “الإنسان ظلّ يعايش البيئة بخوفٍ ووجلٍ وترقبٍ، وهي تهدّده ببراكينها وعواصفها وزلازلها، ووحوشها. ولم يكن يتأخر عن تقديم قرابين الطاعة والتقرّب حتى يأمن غضبها وتقلباتها، وفي الوقت نفسه كان يستخرج طعامه وشرابه منها، ويبني مسكنه. وبعدما كان صراعه معها صراعاً من أجل الحياة وتحقيق القدر الأدنى من متطلبات البقاء، لضمان حفظ نوعه من الانقراض والزوال، انقلب السحر على الساحر، وصارت الضحية تمارس دور الجلاد. وبات هذا الطموح الإنساني للسيطرة على الطبيعة يلهي ويشغل عن مقدار الدمار والتلوث الذي يمارسه البشر ضد الطبيعة، الذي ظهرت آثاره المدمرة على الجانبين (الإنسان والبيئة)، بل باتت تهدد مستقبل العيش عِلى كوكب الأرض، من دون أن يكون هناك مجال لأساطير جديدة، مثلما كانت في معارك الإنسان ضد الطبيعة في الماضي فرص لنسج الخرافات والأساطير”.
وإلى اللقاء في حكاية أخري من بيئتي.
الهوامش
(1) منى عبد الفتّاح – اللوري السوداني.. ذاكرة الفرح والفراق – إندبندنت عربية 1 ديسمبر 2022.
(5) الصادق عبد الله عبد الله – حكاية اللوري – سودانايل14 مايو 2015.