الفاشر.. الموت البطيء

أفق جديد

 

تعيش مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور غربي السودان أسوأ كارثة إنسانية، وتقف على شفير هاوية المجاعة، بسبب نقص الغذاء وتفشي الجوع والأمراض وانعدام الأدوية.

وحسب تنسيقية لجان مقاومة الفاشر (نشطاء) فإن “مواطني الفاشر يطحنهم الجوع. لا يوجد ما يأكلونه، ولجأ الناس إلى أكل (الأمباز) وكل هذا بسبب الحصار. يجب التدخل لإنقاذ المواطنين”.

مأساة الطفلة غفران :

تقول تنسيقية مقاومة الفاشر، إن “الطفلة غفران يونس ولدت في مدينة لا ينتهي فيها الألم؛ ولا تتوقف المأساة. فُرض عليها الجوع كعقوبة إضافية، لأولئك الذين لم يقتلوا برصاص الحرب. حرائق مشتعلة، ركام بيوت مهدّمة، نيران وقذائف، شهداء وجرحى، أشلاء وصراخ، معاناة لا تهدأ، تهجير قسري، وتجويع ممنهج”.

وذكرت التنسيقية أن “الطفلة غفران ترعرعت في حضن والدتها، تلك التي لا تتذكر متى كانت آخر مرة  مشطّت فيها شعر ابنتها  المُجعّد كسنابل القمح. أم لا يعنيها طول النهار أو قِصره، لا تعرف توقيت هذا العالم، ولا عاشت أمومتها كما يجب”.

نصف عمرها أمضته في النزوح، الركض، الهروب، تركلها أقدام الأوباش في الطرقات، وتدهسها عجلات العربات العسكرية. تستيقظ كل صباح على صراخ غفران، باحثة عن حليب من صدر أم جفّها الجوع. ولسوء حظ الطفلة، فقدت كل من كان لها سندًا: أمها، جدتها، وخالتها – سقطت عليهم قذيفة، أصابتها شظايا في قدمها، وظلت تبكي بين الوجوه الراحلة، وتركوها تواجه الموت وحدها وببطء”.

 عالقون في المدينة

تقول عائشة الزين – تقيم في مدينة ربك-  لـ”أفق جديد”: “أسرتي ظلت عالقة داخل مدينة الفاشر، وتضطر إلى السير مسافات طويلة للحصول على الماء، وعجزت عن شراء الذرة من أجل طبخ الطعام”.

وأضافت بالقول: “كل شيء معدوم والمنطقة أصبحت ثكنة عسكرية ومدينة أشباح، في ظل استمرار المعارك الحربية والقصف العشوائي”.

وتابعت: “عناصر الدعم السريع تمارس الإعدامات العشوائية، واستخدام المدنيين كدروع بشرية، ونهب الأسواق، وحرق الممتلكات العامة والخاصة”.

 انقطاع الطعام والدواء

 وتتسارع وتيرة المعارك في مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، وسط هجمات متكررة لقوات الدعم السريع في عدد من المحاور بالمدينة .

وتشهد مدينة الفاشر منذ ما يقارب العامين معارك وهجمات متواصلة تشنها قوات “الدعم السريع” بجانب القصف المدفعي والهجمات بالطائرات المسيرة.

بالنسبة إلى الناشط الإنساني فيصل آدم، فإن النساء والأطفال داخل مدينة الفاشر ومحيطها يعانون سوء التغذية بعد انقطاع الطعام والدواء.

وأوضح آدم في حديثه لـ”أفق جديد”، أن المستشفيات ومراكز الإيواء تشهد كارثة إنسانية بسبب الاكتظاظ ونقص الخدمات الضرورية”.

 وأضاف: “الأطفال يموتون بسبب سوء التغذية وتوقف التكايا التي تطعم الأسر. الوضع يمضي من سيء إلى أسوأ والموت يطرق الأبواب بعنف”.

 انعدام الأمن الغذائي

 أشارت تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 70% من سكان المدينة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، في وقت تغيب فيه معظم المنظمات الإنسانية عن المشهد بفعل غياب الضمانات الأمنية.

وفي 20 أبريل الماضي ذكرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان، أن الحصار المستمر منذ مايو 2024 ضرب حياة مئات الآلاف، ووجهت الدعوة لقوات الدعم السريع للإسراع برفع الحصا فورًا.

وأشار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، إلى أن هناك أدلة واسعة على ارتكاب جرائم حرب منظمة ضد الإنسانية في دارفور، وخصوصًا في الفاشر، ودعا إلى جمع البيانات حول هذه الانتهاكات.

 دعوات المغادرة

في بيان أصدره عضو المجلس الرئاسي ورئيس تجمع قوى تحرير السودان الطاهر أبوبكر حجر، دعا سكان الفاشر إلى مغادرة المدينة فورًا.

وأشار الطاهر حجر إلى أن الوضع الإنساني والأمني بلغ مرحلة خطيرة، وأن بقاء المدنيين داخل الفاشر أصبح مخاطرة حقيقية على حياتهم وسلامتهم.

وأضاف حجر: “لن نسمح باستخدام المدنيين دروعًا بشرية في حرب تخوضها قوى الإسلاميين، وبعض الحركات المسلحة التي قبضت الثمن على حساب أرواح الأبرياء”.

وشدّد البيان على أن “قوات الدعم السريع” لا تفرض أي قيود على حركة المواطنين، بل تعمل على تسهيل مغادرتهم وتأمين المساعدات لهم بالتعاون مع منظمات إنسانية دولية ومحلية.

من جهته، صرح الهادي إدريس عضو المجلس الرئاسي وحاكم إقليم دارفور المعين من حكومة “تأسيس”، في تسجيل مصور، بأن مدينة الفاشر أصبحت منطقة عمليات عسكرية، ويصعب على المنظمات الدخول إليها لأنها غير آمنة.

ووجه إدريس نداء للمواطنين بالخروج من الفاشر إلى منطقة قرني على البوابة الشمالية الغربية، وأشار إلى أن “قوات تأسيس” الموجودة في المنطقة مستعدة لتأمينهم وحمايتهم.

وأوضح أن القوات ستقوم بنقلهم إلى “كورما” أو أي منطقة أخرى يريدون التوجه إليها، مضيفًا أن هناك قوة مرابطة بين كورما وقرني للتعامل مع اللصوص وقطاع الطرق.

وتبعد منطقة “قرني” 30 كيلومترًا شمال غرب الفاشر، بينما تبعد مدينة كورما نحو 330 كيلومترًا عن الفاشر، وتسيطر على المنطقة قوات حركة تحرير السودان المجلس الانتقالي بقيادة الهادي إدريس، حيث ظلت تستقبل النازحين في كورما.

وأكد استعداد قوات “تأسيس” لتقديم الخدمات الضرورية في كورما، خاصة الدواء والغذاء، وناشد الأمم المتحدة الإسراع في تقديم المساعدات للنازحين.

 وكانت “منظمة مناصرة ضحايا دارفور” قد أعلنت في يونيو الماضي أن 890 أسرة على الأقل غادرت مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور إلى معسكر أبو شوك، مشيرة إلى أنهم يعيشون في ظروف إنسانية كارثية مع ظهور سوء التغذية بين النازحين.

وأكد البيان أن أكثر من مليوني مدني نزحوا من مدينة الفاشر ومعسكراتها بمحلية طويلة بولاية شمال دارفور، يعانون من العطش والجوع وانعدام الرعاية الصحية والعلاجية.

دعوات لعدم المغادرة

كرر والي شمال دارفور التابع للجيش السوداني الحافظ بخيت محمد، دعواته لسكان الفاشر بعدم مغادرة المدينة، متعهدًا بتوفير بعض المساعدات المحلية من خلال “التكايا”، رغم الأزمة المعيشية الخانقة وتزايد مؤشرات المجاعة، وهو ما اعتبره ناشطون محاولة لإبقاء المدنيين داخل دائرة النار واستخدامهم كورقة ضغط سياسي وعسكري.

وذكر أن المناطق التي ينقل إليها النازحون والخاضعة لسيطرة قوات الهادي إدريس وحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد نور “مناطق غير آمنة”.

ونتيجة للمعارك وإغلاق الأسواق انعدمت معظم السلع الغذائية في الفاشر بما في ذلك الدخن والذرة الرفيعة، فيما بات “الأمباز” – بقايا الفول السوداني والسمسم بعد استخراج الزيت منه على وشك النفاد – بعد أن اعتمده معظم سكان المدينة غذاء رئيسيًا بسبب نقص التموين.

 انتهاكات موثقة

 مع استمرار التدهور الأمني والإنساني داخل الفاشر تتعالى الأصوات الحقوقية والدولية للمطالبة بفتح تحقيقات مستقلة في الانتهاكات الموثقة، وضمان حرية التنقل للمدنيين، وحماية العائلات التي تقرر الخروج من المدينة بعيدًا عن قيود الجيش السوداني.

وفاقمت الحرب من حدة الأزمة الإنسانية في إقليم دارفور، خاصة في مخيمات النازحين، إثر تسبب الاشتباكات الناجمة عنها في تعطيل وصول المساعدات الإنسانية الدولية إلى الإقليم.

وخلفت الحرب الدائرة في السودان منذ منتصف أبريل/نيسان 2023 أكبر أزمة إنسانية على المستوى الدولي، إذ اضطر الناس إلى تناول أعلاف الحيوانات وأوراق الأشجار في دارفور، لعدم توفر الغذاء في مخيمات النزوح البالغة عددها 51 في ولايات دارفور الخمس.

‏وأُنشئت مخيمات اللجوء في دارفور عندما نزح السكان من القرى إلى المدن الكبيرة بحثًا عن الأمان بعد اندلاع الحرب في الإقليم 2003 بين القوات الحكومية وفصائل مسلحة متمردة.

ويشهد إقليم دارفور منذ 2003 نزاعًا مسلحًا بين القوات الحكومية وحركات مسلحة متمردة، أودى بحياة نحو 300 ألف شخص، وشرد نحو 2.5 مليون آخرين، وفق الأمم المتحدة.

 وتقول الأمم المتحدة، إن السودان الذي كان، حتى قبل الحرب، من أفقر بلدان العالم، يشهد “واحدة من أسوأ أزمات النزوح في العالم، وهو مرشح لأن يشهد قريبًا أسوأ أزمة جوع في العالم”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى