الخرطوم – أفق جديد
في بلدٍ لم يعد الموت فيه نهاية، بل بوابة لذكريات أشد فتكًا، انفجرت مواقع التواصل السودانية في الأيام الماضية بنقاش حاد، حول مقتل شاب في مقتبل العمر، اسمه محمد أبوبكر، ولقبه الأشهر “أحمد خفاش”. سقط الشاب في منطقة أم سيالة بولاية شمال كردفان، ضمن معارك الجيش ضد قوات الدعم السريع. لم تُشيّع له جنازة، إذ مات في مناطق العمليات، حيث لا يُعاد الجسد ولا يُقام العزاء، لكن النعي الذي خرج من الإسلاميين على صفحاتهم الرسمية، كان كافيًا ليشعل حربًا أخرى… هذه المرة، في فضاء الذاكرة.
ففي سودان ما بعد الحرب، لا يشبه الموت موتًا، ولا الجنازة جنازة. كل دمٍ مسفوح يعيد طرح الأسئلة المؤجلة: من القاتل؟ ومن الشهيد؟ وما الثمن.. سخرية تسيل مع الدماء من جديد؟
من القيادة إلى كردفان… طريق الدم
في الذاكرة الجمعية لكثير من السودانيين، ليس “أحمد خفاش” شخصًا عاديًا. بل هو أحد الأسماء التي ارتبطت بمجزرة فض اعتصام القيادة العامة في 3 يونيو 2019، عندما كان شباب الثورة معتصمين أمام مقر القيادة يطالبون بالحكم المدني، لتُفتح عليهم أبواب الجحيم. حينها، ظهر “الخفاش” في فيديو متداول، يقدّم نفسه كأحد أفراد كتائب الظل التابعة لحزب المؤتمر الوطني، معترفًا بمشاركته في القمع، والقتل والسحل الذي تم فجر ذلكم اليوم، وساخرًا من ضحايا المجزرة، في مشهد مثّل استفزازًا قاسيًا لجراح لم تندمل.
اعتُقل لاحقًا، لكن سرعان ما أُطلق سراحه بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي أعاد الإسلاميين تدريجيًا إلى المشهد السياسي، وأوقف مسار العدالة الانتقالية ولجنة تفكيك التمكين، وأعطى “خفافيش الظلام” فرصة للعودة من الظلال.
غياب الجنازة… وحضور النعي
سقط “أحمد خفاش” في جبهة القتال بكردفان، ودفن حيث قُتل، كحال كثير من القتلى في معارك “حرب الكرامة”، لكن رغم غياب الجنازة، خرج نعيه مدويًا. صفحات ومنصات الإسلاميين وصفوه بـ”الشهيد”، ومنهم من تغنّى بسيرته واعتبره واحدًا من حماة المشروع الإسلامي.
نشرت خبر مقتله صفحات مؤيدة للجيش والتيار الإسلامي، مرفقًا بنعي حمل نبرة تعظيم وتقديس واضحة، متجاهلين أن الشاب أعلن في فيديو مبذول مسؤوليته عن مقتل ما لا يقل عن 200 شاب في حادثة وجدت استنكارًا واسعًا. وأبرز من نعوه، القيادي الإسلامي المعروف، د. أمين حسن عمر، واصفًا أحمد بـ”الشاهين”، في محاولة واضحة لاستبدال لقبه “الخفاش”، الذي ظنه مشينًا أومقترنًا بـ”عبارة خفافيش الظلام”.
كتب أمين في وداعه:
“كان أحمد محمد أبو بكر (الشاهين) شوكة في حلوق الفاسقين، فاعتقلوه مرة ومرة ثانية وثالثة حتى لم يعد لهم عليه سلطان… أبغضوه حيًا وميتًا، ويا طوبى له ببغض الفاسقين والفاسقات… إنك إذا أردت أن تعرف مقام عبد عند ربه، فانظر إلى من يحبّه ومن يبغضه من الصالحين والفاسقين.”
كان أحمد محمد أبوبكر (الشاهين) شوكة في حلوق الفاسقين، فاعتقلوه في العام 2019 في أيام المهزلة الأولى ثم مرة ثانية ومرة ثالثة حتى لم يعد لهم من سلطان… أبغضوه حيًا وأبغضوه ميتًا… ويا طوبى له ببغض الفاسقين والفاسقات، فلو أنك أردت أن تعرف مقام العبد عند ربه، فانظر إلى من يحبه ومن يبغضه من الصالحين والفاسقين، فهو استفتاء من أية جهة أتيت.
رحم الله أحمد… غادر لا يلوي إلا على صوت النداء بعد أن نادته الجنة (بإذن الله) إذ ناداها: “يا جنة ناديني”… مضى وترك في حلوق المحبين غصة، وفي حلوق المبغضين شوكة، وكذلك كان أحمد… كان دائمًا ملء الوقت والحضور”.
هكذا حاول د. أمين، عبر النعي، إعادة صياغة صورة “الخفاش”، بمنحه لقب “الشاهين”، في محاولة لتحرير اسمه من وصمة “خفافيش الظلام”.
من الصالحة إلى القيادة
في المقابل، لم يتأخر الطرف الآخر. صفحات عديدة استرجعت الفيديو الشهير الذي ظهر فيه أحمد بعد فض الاعتصام، وهو يعترف بانتمائه للمؤتمر الوطني وكتائب الظل، بل ويسخر من الشهداء والثوار.
وجاءت واحدة من أكثر الشهادات تداولًا، من أحد جيرانه في حي “الصالحة” بأم درمان، حيث كتب منشورًا قال فيه إن “أحمد” كان مسؤولًا عن تصفية بعض أعضاء لجان المقاومة بعد أن دخل الجيش إلى الحي، وإنه هدده شخصيًا بمصير مماثل. شهادة لم تُوثّق رسميًا، لكنها وجدت صدىً عميقًا، في ظل صمت “مجموعة البراءة” التي قاتل خفاش تحت لوائها، التي لم تنعه في أي منصة.
بين دعاء له… والدعاء عليه
في مشهد غير مألوف على السودانيين، الذين اعتادوا أن يترحموا على كل من يفارق الحياة، حتى الخصوم، خرجت دعوات علنية عليه، تتمنى له “جهنم وبئس المصير”.
تلك الدعوات لم تكن تعبيرًا عن قسوة، بل عن شعور بعدم العدالة، بعدم القصاص، عن دماء نزفت دون حساب، في القيادة العامة، وفي أحياء الثورة، وفي السجون، وعلى الأرصفة.
ويقول المحامي والقانوني المعز حضرة لـ” افق جديد” كثيرون يرونه شاربًا من الكأس التي صنعها بيديه، فصمتت ألسنتهم عن الترحم، وعلت دعواتهم لعدالة السماء، حين فشلت عدالة الأرض، مؤكدًا أن غياب العدالة وحكم القانون نتائجه دائمًا تكون إحساس بالمرارة، والقهر الذي يخرج في مثل هكذا مواقف.
طريق ثالث
وسط العاصفة، كتب القيادي في حزب البعث محمد ضياء الدين على صفحته في فيسبوك:
“”من مات قد صار أمره إلى الله، فلنترك الأمر لله، فهو الحكم العدل، وهو القادر على إنصاف المظلوم من الظالم. من مات فقد أفضى لما قدم، وإن حسابه على ربه… أتركوه إلى ربه، فهو أحق به وأقدر عليه”.
كانت محاولة لتهدئة الجدال، لفصل الدم عن الجدل السياسي، لكنها ضاعت وسط صخب الاتهامات والانقسام الحاد بين طريقين: أحدهما يقدّس القتيل، والآخر يلعنه دون تردد.
قاتل أم شهيد؟
في رواية الإسلاميين، هو “شهيد”، رفض منحة دراسية في تركيا ليستكمل دراسته بجامعة النيلين، مفضّلًا القتال “في سبيل المشروع الإسلامي”.
في نظر خصومهم، هو أحد منفذي ابشع مجزرة في تاريخ السودان، اعترف وسخر واختفى، ثم عاد ببندقية ووجه جديد، حتى لقي مصيره في رمال كردفان.
بين النقيضين، وقف سودانيون في المنتصف، حائرين، هل يُنسى التاريخ بمجرد أن يسقط أحد رموزه في المعركة؟
هل تكفي البندقية لتطهر الدم؟ وهل يجوز منح الشهادة لمن اعترف بيده على من سُفكت دماؤهم بغير حق؟
حين لا تموت الأسئلة في سودان غارق في الحرب، لم يعد الموت لحظة ختام، بل بداية لمعركة ذاكرة. أحمد خفاش، وإن دُفن في صمت، أعاد إلى الواجهة كل جراح القيادة العامة، وكل القضايا المفتوحة منذ أن صمتت البنادق، وامتلأت الشوارع بالكفن بدل الزينة.