حول عرض مسرحية طائر الصدى المفقود 

السر السيد

 

قبل رفع الستار:

مرت قبل أيام الذكرى الخامسة لرحيل الفنان الكبير بروفسيور عثمان جمال الدين، الذي غادرنا إلى دار البقاء في ٣٠ يوليو ٢٠٢٠.

عثمان جمال الدين من الأسماء الكبيرة في مجالات المسرح/الدراما، فقد كان حاضرًا تمثيلًا وتأليفًا وإخراجًا في أعمال تعد نوعية في مسيرة المسرح ودراما الراديو والتلفزيون، إضافة إلى مساهماته النقدية الكثيرة.

عبر هذا المقال الذي نشرته في العام  ٢٠١٣، أقول له: ما نسيناك فأنت قد علمتنا.

مسرحية طائر الصدى المفقود من تأليف بروفيسور عثمان جمال الدين وإخراج الأستاذ عادل حربي، سبق وأن عرضت فى عام 2009 على مسرح الفنون الشعبية، كما شاركت في مهرجان المسرح الحر بالجزائر عام 2010، ثم أخيرًا شاركت في مهرجان المسرح العربي في دورته الثالثة الذي أقامته الهيئة العربية في يناير 2011 بالعاصمة اللبنانية بيروت.طائر الصدى المفقود.. ملاحظات أولية:

ندخل العرض مع الموسيقى الشفيفة ذات الملمح الصوفي، فنرى على خشبة المسرح حبالًا مدلاة من السقف وشخصيات على وجوهها أقنعة ومرتفع خشبي من ثلاث درجات، لنجد أنفسنا مباشرة في فضاء العرض أو مكان العرض، وبدخول المؤثر الموسيقي الذي هو عبارة عن أصوات متداخلة تشبه (الكشكشة) يتأسس زمن العرض الذي هو زمن الحكاية، الذي يبدأ بجملة استفهامية تستخدم صيغتي الفعل المضارع والفعل الماضي (والهنا والآن) يقولها أحد الممثلين :

كيف يحدث هذا؟

كيف حدث هذا؟

وعندها يبدأ تورطنا في العرض، وأثناء سيرورة المشاهدة تحضر عنوة كلمة المخرج: (إنه في مواجهة الصور الخفية التي أتت من تناثر ذكريات الماضي وتلاطم مفاهيم الحاضر، فالاختفاء صورة من الصور الخفية الظاهرة للمستقبل…. إنه العرض). ويأتى عنوان العرض – طائر الصدى المفقود – ولا شعوريًا يبدآن في الاختفاء بسبب جاذبية العرض وأسئلته المتلاحقة ومتعته التي تقوم على السباق المحموم بين حيل العرض وحيل النص، ففي هذا العرض يتبدى حضور النص قويًا، فهو ينهض بداية على أسلوب بديع ولغة عالية المجاز، مفرداتها وجملها البسيطة المركبة محملة بالكثير من المفاهيم الفلسفية والفكرية والسياسية المفتوحة على إمكانيات أكثر من تأويل، ويقدم حكاية تنهض على تقنيات متعددة للحكي، فهو أي النص يستخدم تقنية الحوار وتقنية المنولوج وتقنية الارتداد “الفلاش باك”. الحوار كالذي يدور من كلام بين شخصية وأخرى والمنولوج لحظة أن تحكي شخصية عن نفسها بالتداعي الحر وهي تقدم بعضًا من سيرتها، أو عندما يأتي في حالة الحكي الجماعي الذي يوحي وكأن كل الشخصيات شخصية واحدة، والفلاش باك عندما تتذكر الشخصية حدثًا حدث لها أو حدثًا كانت هي شاهدة عليه… هذه الرؤية السردية التي قامت على التقنيات آنفة الذكر استخدمت تقنيات أخرى ذات علاقة بتطور الحكاية من حيث التسريع والإبطاء، كاستخدام تقنيتي التلخيص وأنسنة الأشياء (الأكسسوار)، فتقنية التلخيص تبدت في ذكر بعض الأعلام والمعالم (الحجاج بن يوسف/هتلر/النفري/ الدفتردار/ الجامعة العربية)، فكلنا يعلم ما يمكن أن تحمله هذه الأسماء وهذه المعالم من معاني وإيحاءات تشكل دلالة وعلامة أو قل شفرة تساهم في الكشف عن المقولة الكلية للعرض، أما تقنية ما يمكن أن نسميه بأنسنة الأشياء فقد تبدت في مشهد الدمية المرأة أو المرأة الدمية التي عنت في سياق العرض بين قوسين “حضور المرأة”، وإمعانًا في جعل هذا الحضور بين قوسين جاء الحوار مع المرأة/الدمية باللغة النوبية التي لا يفهمها غالبية الحضور، بل لا يفهمها حتى غالبية الممثلين لتشكل بدورها دلالة أو علامة أو شفرة تساهم بدورها في المقولة الكلية للعرض، ومن التقنيات المتعددة للحكي نجد أيضًا تقنية الوصف كما في (كان هناك جامع وكنيسة بها أجراس)، ومن التقنيات كذلك استخدام بعض ما اصطلح عليه بالظواهر السردية كالتناص كمثال (عنقاء مغرب في إشارة إلى الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي وما يمكن أن يحيل إليه من عوالم وإشكالات أقلها الحوار الحضاري، وما يثيره من أسئلة وإشكاليات/قصيدة الخليج للسياب/ خرج ولم يعد)، ومن التقنيات كذلك التغريب وتبدى هذا فيما يعرف بالتمثيل داخل التمثيل من خلال الفرقة المسرحية التي تبحث فى العرض عن المسرحية، كما تثير تساؤلات عديدة تتعلق بفن المسرح، بينما العرض ككل يثير تساؤلات تتعلق بالإنسان والمكان والتاريخ والثقافة، فالعرض في مجمله يثير أسئلة ذات طابع سسيووجودي مجاله ما يمكن أن نطلق عليه الزمن الكولونيالي، حيث تتهدد الهويات ويصبح الآن معلقًا على حبال بين السماء والأرض، لذلك كان من حيل المخرج المبدعة والبديعة وهو يعالج نصًا بهذا التعقيد وبهذا المجاز العالي العمل على صناعة فضاء للعب قادر على إدارة تحولات النص الزمانية والمكانية بالقدر الذى يمكنه من تغطية ملامح جغرافية فضاء اللعب وطمس معالمه وتدمير حدوده، فالأزياء والموسيقى والمؤثرات الصوتية والديكور والإضاءة، بل حتى حركة الممثلين وتعبيرية أجسادهم؛ كلها تآزرت لصناعة هذا الإخفاء والطمس المتعمد، فالمخرج وهو يعالج نصًا بديع الأسلوب يتحرك في أكثر من مستوى تعمّد أن يطمس معالم الزمان والمكان والتاريخ لتتبدى الهويات تائهة معلقة في كونيتها الممسوخة المستعصية.

شارك بالتمثيل فى هذا العرض موسى الأمير وعبدالحكيم الطاهر وطارق علي وأبوبكر الشيخ وحسن عثمان، وساعد في الإخراج عادل فطر، وفي التنفيذ عماد قريب الله

Exit mobile version