أديس أبابا – صيف 2025
بين جدران ضيقة في أطراف العاصمة الإثيوبية، ينبض قلبه المكسوّ بالألوان. في مرسمه البسيط، الذي يفيض برائحة الحنين للوطن وموسيقى بعيدة تختلط بأنين الصمت، يجلس عبد الرحمن شنقل، اللاجئ والفنان، ابن الحرب والوطن المفقود، ليحكي قصة لا يتسع لها الكلام.
شنقل المعروف بأنه لا يتحدث كثيرًا ويترك لفرشاته أن تقول ما تعجز عنه الكلمات، انتزعناه من صمته أو انتزعنا الصمت منه، لم نجرِ معه حوارًا على الطريقة التقليدية، أدرنا جهاز التسجيل وجلسنا ثلاثتنا صامتين، أنا وصديقي شهاب إبراهيم ورماح، تركنا في يده ريشة وأمامه لوحة، وبالقرب منه مجموعة من الألوان يرسم ويتحدث هكذا كان الطقس.
كل لوحة على جدران مرسمه تشبه صرخة مكتومة من قلب يحترق، وكل ضربة لون تحفر في الذاكرة مجرى للدمع أو للأمل. هنا، لا تُعلّق اللوحات لتُعرض، بل لتُشفى.
حين تهمس له بسؤالك عن عمله الأخير، لا يجيبك بالكلمات. فقط يشيح بنظره نحو لوحة يكسوها الأحمر الداكن، كأنها نزفت، ثم يغمض عينيه قليلًا قبل أن يقول: “أنا لا أرسم.. أنا أتنفّس”.
في هذا المرسم، لا يوجد شيءٌ عادي. حتى الضوء يتسلل من النافذة الوحيدة كأنه خائف، يتوقف على نصف لوحة، ويترك النصف الآخر غارقًا في ظلمة خفيفة. وكأنها استعارة بصرية لحياة الفنان – نصفها حاضر، والنصف الآخر ضاع في بلده المشتعل بالحرب.
على أحد الجدران، لوحة يتوسطها رأس بشري دون ملامح، تحيط به دوائر خضراء وزرقاء تنكسر عند الحواف. يقول عنها شنقل:
“هذا ليس شخصًا واحدًا، هذا نحن.. كلنا الذين افترستنا الحرب، ونحاول أن نعيد تشكيل أنفسنا دون أن نعرف كيف كنا”.
الأحمر في لوحات شنقل ليس مجرد دم. إنه صرخة. إنه عنف الذاكرة حين تتسلل ليلًا وتعيد مشاهد القصف والفرار والحزن المتراكم. الأزرق ليس فقط سماءً أو بحيرة، بل هو سؤال: “أين الهدوء؟ أين الوطن؟”. أما الأخضر، فهو الأمل الذي لا يُقتل، حتى لو خُنق ألف مرة.
مرسم المنفى.. وطن بديل
كل ركن في مرسم شنقل يحكي عن الغربة. الكتب، صوت الراديو الذي يأتي من بعيد حاملًا أنغامًا أظنها إثيوبية، على الرف الخشبي، كوب شاي لم يُكمل منذ البارحة، وقلم فحمي رسم به آخر ما تبقى من مشاعر قبل أن ينام من التعب أو هكذا خيل لي.
ربما لا. لكنه أقرب ما يملكه شنقل الآن من معنى “البيت”. هنا يمكنه أن يبكي دون أن يُسأل، أن يحلم دون أن يُسخر منه أحد، أن يتذكر دون أن ينهار.
رغم بساطة المكان، إلا أن بعض أعمال شنقل التي أنجزها فيه وصلت إلى نيروبي وجوهانسبرغ، وحتى إلى بروكسل عبر شبكة من المتطوعين الداعمين للفن في المنفى. لكن الفنان لا يكترث كثيرًا للعرض. ما يعنيه حقًا هو أن تصل اللوحة إلى أحد ما، في بلد بعيد، وتجعله يتوقف لحظة ويفكر: “كيف يعيش اللاجئون؟ كيف يصمد الفن في حضن المأساة؟”.
ما قبل الانفجار
يواصل الفنان والأكاديمي د. عبد الرحمن شنقل سرده الحي للحرب والسلام، مستعيدًا لحظات ما قبل الانفجار الكبير، قائلاً :
“كانت العلامات كلها تشير إلى أن شيئًا كارثيًا يقترب. لم تكن مؤشرات الحرب خفية، بل كانت تتكاثف أمام كل عين ترى بعقل نقدي. الصورة كانت واضحة، حدّ الوجع، لكننا كنا نُكابر بالأمل. نزيح عن وعينا ذاك الاستنتاج المُرّ، نؤجله، ندفنه، ربما لأننا كنا عاجزين عن مواجهة ما هو قادم، أو لأننا كنا نحلم بوطن لا يخذل أبناءه بهذا الشكل”.
لكن الحرب جاءت، رغم كل ما فينا من رجاء. وحين اندلعت، في لحظاتها الأولى، كان في داخله، كما في داخل كثيرين، ظنّ بأنها ستمضي بسرعة، كحريق صغير يُطفأ بعد قليل. يوم أو يومان، ثم تهدأ البنادق. ولكن ما حدث كان شيئًا آخر. حدث ما لا يُحتمل.
في تلك الأيام المبكرة، جاءه ضوء خافت من بعيد – رسالة قصيرة من صديق إثيوبي تشكيلي، الرسالة حملت سؤالًا دافئًا عن سلامته، ودعوة صادقة لمغادرة الخراب، والمجيء إلى إثيوبيا، حيث ينتظره الأصدقاء والسكن والمعينات، ويقول شنقل بعد أن أخرج زفرة حرى:
“لم أدرك حينها عمق تلك الرسالة. كانت نبوءة مبطّنة، إشارة أن الحرب هذه ليست نوبة غضب عابرة، بل لعنة طويلة النفس. لم أغادر وقتها. ظللت أراوغ واقعي لثلاثة أشهر، إلى أن صار الخروج ضرورة لا مناص منها، لا بحثًا عن ملاذ فقط، بل هربًا من جحيم يتنكر في هيئة وطن”.
في الثالث من يوليو 2023، شدّ شنقل الرحيل مع صديقه الباحث والتشكيلي د. تاج الدين، عبروا إلى قندر، ثم إلى أديس أبابا. وهناك، على ضفاف الغربة، بدأت رحلته الأخرى: رحلة المنفى بحسب تداعيه.
استقبله الفنانون التشكيليون الإثيوبيون بما يشبه الحضن الكبير. لم يكن وحده، ولم يكن ضيفًا، بل كان فنانًا جريحًا جاء ليحتمي بالفن مما رآه. وجد مرسمًا وسكنًا وبعض المال، واشترى أدواته الأولى، ثم انكفأ على الرسم كما لو أنه يتنفس به.
ويردف:
“لم أكن أرسم لوحات، بل كنت أحفر جرحًا على القماش، وأحاول أن أطهره باللون. كانت داخلي حشود من الصور والمشاهد والروائح والأصوات. لم يكن لدي مشروع فني ولا خطة. كان الرسم فعل نجاة. كنت أرسم لأشفى. أرسم لأصرخ. لأُعرّي ما رأيت. لأهزم وحشية العنف الذي يسكننا، نحن الذين كنا نحسب أنفسنا شعب الطيبة والتسامح”.
أربعون يومًا، لم تطأ قدمه الشارع. أربعون يومًا كان فيها الرسم هو طقسه الوحيد. لوحة تتبع أخرى، بلا توقف، بلا حساب للزمن، كل ضربة فرشاة كانت صفعة ضد الحرب، كل لون كان صرخة في وجه الخراب.
“دموع سوداء”.. حين يتحول الألم إلى لُغة
“خرجت من تلك الأربعين يومًا – والقول هنا لشنقل – وأنا أحمل معرضًا كاملًا. أكثر من 140 لوحة. كلها عن الحرب، كلها عن الدمار. كلها عن الدم. عن السودان الذي صار يُرسم لا يُعاش”.
في 16 أغسطس 2023، أقام شنقل معرضه الأول في “فنديكا” في أديس أبابا. كان ذلك، كما يقول، أول معرض عن الحرب السودانية، وثيقة فنية صادقة، أنجزتها اليد المرتجفة للروح، المتعطشة للسلام الطامحة للاستقرار، لا يد المحترف البارد.
“ما فعلته لم يكن توثيقًا فحسب. كان مقاومة. كان وقوفًا في وجه النسيان. أن ترسم في زمن الخراب، يعني أن تقول: أنا ما زلت إنسانًا، وما زلت أرفض هذا الانهيار والدمار”.
لم يكن “دموع سوداء” مجرد معرض فني، بل كان، كما يقول د. عبد الرحمن شنقل، نداءً صامتًا يصرخ في وجه العالم، ليرى، بوضوح لا التباس فيه، ما جرى ويجري في السودان. كان المعرض بمثابة مرآة مضرّجة باللون والدمع، وضعت فيها صورة المأساة أمام الناس، لا ليشفقوا، بل ليشعروا. ليشاهدوا ما تُخبّئه العناوين الإخبارية خلف جدران البيوت المنكوبة، وفي ظلال الأحياء المطموسة بالرعب. ويضيف:
“وجد المعرض تفاعلًا واسعًا، تناقلته القنوات الفضائية، وكتبت عنه الصحف الإثيوبية، وأجريت حوله حوارات ولقاءات عديدة. شعرت حينها أن الرسالة بدأت تتحرك، وأن الصمت الذي خنقنا طيلة شهور بدأ يتشقق”.
لم يكن معرض ” فنديكا” فعلًا فنيًا عابرًا، بل صرخة مكتومة تحوّلت إلى لون. أراد أن يوصل الصوت، وأن يقول، بالريشة لا بالهتاف: إن ما يحدث هناك، في السودان، ليس مجرد صراع على السلطة، بل تمزق في جسد شعب، وامتحان لإنسانية الإنسانية”.
حياد الفن أمام الدمار
ينقلنا شنقل إلى نقطة أخرى قائلًا:
الفن، في جوهره، ليس حياديًا أمام الدمار. هو بطبيعته ضد الحرب، ضد القبح، ضد كل ما يُفسد روح الإنسان. الفن نداء دائم نحو الخير والجمال والعدل. لذلك لم يكن ممكنًا أن أقف متفرجًا. كنت أرسم لأقاوم، لأشهد، لأقول: ما زلنا هنا، رغم كل شيء.”
بالنسبة لشنقل، الفنان الحقيقي لا يمكنه التعايش مع الخراب، الجمال يسكن فطرة الإنسان، والفن هو تجلٍّ لتلك الفطرة حين تُلهبها التجربة ويعصرها الألم.
“الإنسان السوي يكره القبح بطبعه، يكره رائحة الدم، وخراب المدن، وصرخات الأطفال في الظلام، فما بالك بالفنان؟ لا يمكن للفنان أن يعتاد على مشهد الموت، أو يتصالح مع القبح. إن فعل، فقدَ شيئًا جوهريًا من إنسانيته ومن رسالته.” بهذه العبارة كان شنقل حاسمًا تجاه الموجة التي أخذت في جوفها العديد من يسمون أنفسهم فنانين، ويرى أن مسؤولية الفنان اليوم لم تعد جمالية فحسب، بل أخلاقية وتاريخية. “مهمة الفنان لا أن يُمتع العين فقط، بل أن يُوقظ الضمير، أن يُذكّر بالقيم التي كادت تُمحى تحت سنابك الحرب. السلام، التعايش، التكافل، كلها ليست شعارات طوباوية، بل هي ضرورات إنسانية حملتها كل الرسالات السماوية، ونادى بها الأنبياء والمصلحون، وتشترك فيها ضمائر البشر السليمة في كل مكان”.
ويضيف: “غض النظر عن أين تقف أنت يمينًا أو يسارًا فأنت تشترك في الإنسانية وفي القيم الأخلاقية”. ويردف: “أنا لا أنتمي إلى أيديولوجيا مغلقة. قيمي التي أؤمن بها وأحملها في لوحاتي هي القيم الإنسانية الكبرى. تلك التي تدعو للخير، للسلام، للتعايش، للتسامح. نرسم لنُضيء، لنُداوي، لنعبر إلى ضفة أهدأ”.
وبحسب شنقل أن ما تمر به الشعوب، مهما اشتد، سيمضي. لكن المشكلة، كما يقول، أننا نعيش الحدث الآن، وسط ألمه ومخاوفه، فلا نستطيع رؤيته بحكمة التاريخ. لكنه يؤمن أن كل جيل يجب أن يعمل من أجل ما بعده، أن يزرع ولو لم يأكل من الثمر. أن يحفر مجرى للمستقبل، ولو لم يمر فيه هو..
“علينا أن نكف عن النظر تحت أقدامنا. مشكلتنا في السودان أننا أسرى اللحظة. لا نرفع أعيننا لنرى الأفق. المستقبل ليس ترفًا، بل ضرورة. يجب أن نعمل لصناعة مجتمع متصالح مع ذاته، يدير اختلافاته بسلم، ويؤمن بالحق، ويعرف كيف ينهض من رماده”.
“أؤمن أن الفن يمكن أن يكون جسرًا، لا مجرد مرآة. وأن الفنان، حين يحمل هم الناس في قلبه، يصبح أكثر من رسام: يصبح شاهدًا، ومبشرًا، وصوتًا للذين خُذلوا في الزحام”.
جائزة مسحقة
وبينما كانت لوحات “دموع سوداء” تتنقل من جدران المعرض إلى أعين الزوار، كانت الرسائل تتكاثر في بريد شنقل، بعضها يشكره، وبعضها يبكي، وبعضها يهمس له: “لقد قلتَ ما عجزنا عن قوله”، إذ أنه وفي مساءٍ إيطاليٍّ مائلٍ إلى البرودة، داخل قاعة عالية السقف، تتدلى منها أضواء خافتة كأنها خيوط من الحلم، صعد اسم السودان عاليًا على منصة الفن العالمي.
ضمن فعاليات النسخة السابعة من الجائزة الدولية التي احتضنتها مدينة ميلانو، وفي لحظة مشبعة بالرهبة والامتنان، نُودي باسم: عبد الرحمن شنقل. الفنان والنحّات السوداني، ابن الحروب والمنفى، ورافع لواء الجمال في وجه الركام، كفائز بجائزة المتحف الوطني الإيطالي للعلوم والتكنولوجيا – “ليوناردو دافنشي”، إحدى أرفع الجوائز التي تُمنح لأعمال تمزج بين الإبداع الفني والبعد الإنساني العميق.
فوز شنقل بالجائزة، لا كفنان لاجئ فقط، بل كصوت قارة، وذاكرة وطن، وامتداد لحلم ظل يتعثر تحت أقدام الحرب. حمل لوحاته كما يحمل المرء أطفاله. حمل وجع الخراب، ونبل الإبداع، وانحيازه الفطري للحق، تردد اسمه هناك، أمام جمهور لا يعرف الخرطوم لكنه أحس بها، وشعر بأنينها يتسلل من بين ضربات الفرشاة والنصوص اللونية التي قدّمها شنقل بجرأة وحب.
“هذا الفوز، ليس تتويجًا لشخصي، بل شهادة بأن الفن، حتى في أقسى الظروف، لا يموت… وأن ما نفعله في عتمة الاستوديوهات الصغيرة، قد يجد يومًا ما طريقه إلى نور العالم”.
في ميلانو، حيث تتقاطع حضارات، وتلتقي الذاكرة بالحداثة، لم يكن فوز شنقل مجرد إنجاز فردي، بل إعلانٌ بأن السودان، رغم العتمة، لا يزال يُنجب ضوءًا… وأن المنفى، مهما اشتد، لا يمكنه أن يُطفئ جذوة الفن حين تكون صادقة وجذرية.
وما بين فنديكا في أديس أبابا، ومنصات ميلانو، تتسع المسافة بين الألم والانتصار. وبينهما يقف شنقل، الفنان الذي لا يرسم فقط، بل يشهد، ويوثق، ويقاوم.
ورغم كل تلك الانتصارات والاجابات يظل الداخل ظل مضطربًا، فما يزال هناك الكثير مما لم يُقله ولا تزال الأسئلة شاخصة تتراكم: ما معنى أن تكون فنانًا منفيًا؟ وهل للغربة أن تُنضج التعبير أم تقتله؟ كيف للفرشاة أن تواجه المدافع، وكيف للمراسم أن تُجبر الذاكرة على الشفاء؟ وما الذي تبقى من الوطن داخل المنفى؟ وهل يكفي اللون كي يحمل عبء الحنين؟
أسئلة، تتسرب من ضوء المرسم في أديس أبابا، ومن دفاتر الكرّاسات، ومن جدران لا تزال تُخفي دمعة، وتنتظر الجواب.
في الحلقة الثالثة والأخيرة من هذا الحوار التي سننشرها في أعدادنا المقبلة، نذهب مع د. عبد الرحمن شنقل إلى عمق المنفى… إلى المساحات التي تُرسم بلا وطن، ونكتشف كيف يحوّل الفنان حنينه إلى مشروع فني، وخرابه إلى يقين جديد… كيف يبني مرسمه فوق ركام، ويغزل من الذاكرة مستقبلًا يتسع للحياة، رغم كل شيء.