the new humanitarian- عمار حسن
ملاحظة المحرر:
غادر عمار ياسر الخرطوم في أعقاب اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل/نيسان 2023. يوثق هذا المقال المصور رحلته الطويلة في البحث عن مأوى آمن، بينما يتأمل في مفهوم الوطن، ويتساءل عمّا إذا كان سيجده يومًا. وقد أسفرت هذه الحرب عن تهجير أكثر من 12 مليون شخص من منازلهم.
———-
الخرطوم، جوبا، كمبالا
وُلدت في أم درمان، المدينة التوأم للعاصمة السودانية الخرطوم، عام 2005. وبعد عام من ولادتي، انتقل والداي إلى قطر، حيث نشأتُ مع إخوتي الستة، خمسة منهم وُلدوا خارج السودان.
في قطر، واجهتُ العنصرية منذ صغري. كان من الصعب عليّ أن أفهم لماذا يُعاملني زملائي في المدرسة بهذه القسوة فقط لأنني “لست قطريًا”. وعندما سعيت لطلب المساعدة من المعلمين، لم ألقَ سوى التجاهل أو عدم التصديق. كنتُ أظن أن والديّ سيكونان سندي، لكنني تلقيت منهما جملة لن أنساها ما حييت: “إذا لم تُحسن التصرف، فسوف نعيدك إلى السودان.”
لم أرد الذهاب إلى السودان – لا بهذه الطريقة. ولهذا، كانت قطر بالنسبة لي مكانًا مزدوجًا: عشتُ فيها حياة مستقرة من ناحية، لكنني عانيت من شعور عميق بالغربة والانفصال.
في عام 2016، قرر والدي العودة إلى السودان بعد أن ترك عمله. بدأنا حياة جديدة، ومدارس جديدة، وبيئة مختلفة تمامًا. لكن حتى هنا، لم يختفِ التنمر؛ هذه المرة، كنتُ “الطفل القطري” في نظر الآخرين. افترض زملائي أنني ضعيف، ولن أقدر على حماية نفسي. لكنني أخيرًا شعرت أنني أستطيع الرد والدفاع عن نفسي، دون خوف من الترحيل أو التمييز العنصري. كنا جميعًا متساوين، وهذا منحني شيئًا من الثبات والطمأنينة.
مرّت السنوات، وتغيّر السودان، وتغيّرتُ معه. في عام 2022 التحقتُ بالجامعة، وبدأت أتنقل في شوارع الخرطوم، أتعرف عليها وأتوثق بها أكثر. أصبح التصوير أداتي لفهم هذا التغير، وللتعبير عن رحلتي الداخلية. يمكنني القول إن 2022 كان العام الذي بدأت فيه أخيرًا أرى الخرطوم كموطن حقيقي.
لكن ذلك تغيّر فجأة في 15 أبريل 2023، حين اندلعت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. توقفت الكهرباء، ندر الغذاء، وبدأنا نعيش تحت تهديد القصف والرصاص. هكذا بدأت رحلة النزوح: من الخرطوم إلى مدن متفرقة داخل السودان، ثم إلى جنوب السودان، وأخيرًا إلى أوغندا.
الخريطة المرافقة تُظهر خط النزوح من الخرطوم إلى كمبالا، مرورًا بأم روابة، ود مدني، ربك، الرنك، وجوبا، قبل الوصول إلى العاصمة الأوغندية. المسار مميز بأسهم متقطعة، وتُشير الخريطة أيضًا إلى دول الجوار مثل تشاد وإثيوبيا وكينيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
الصور التي ستشاهدونها توثق هذه الرحلة، وتحاول أن تُجيب عن سؤال ظل يلازمني طيلة حياتي: ما هو الوطن؟ وهل يمكنني أن أجده فعلاً؟
معظم الصور التُقطت في أماكن نزحتُ إليها، أو لي ولأفراد أسرتي. في بعضها، استخدمت تقنية التعريض المزدوج، لدمج لقطات من الماضي – بعضها من أرشيف والدي الرقمي – مع الحاضر، في محاولة لاستعادة مشاعر الانتماء وتأمل الحياة قبل اندلاع الحرب.
بعد أكثر من عامين من العمل على هذا المشروع، وصلتُ إلى قناعة: ربما لن أجد وطنًا أبدًا، وربما لم أعد أعرف ما تعنيه هذه الكلمة حقًا. ومع ذلك، لم أتوقف عن البحث عنه – في أفكاري، في عائلتي، في وجوه الأصدقاء النازحين، وفي قصص اللاجئين من حولي.
————
1
والدي بطلي
“تُظهر هذه الصورة، التي التُقطت في 31 مايو 2023، والدي ياسر محمد صالح وهو يتحاور مع أعمامي وجدي داخل منزل العائلة في أم روابة – المكان الذي لجأنا إليه بعد أن قضينا شهراً تحت وابل القصف في الخرطوم. تجمعنا هناك، كعائلة كبيرة، بحثًا عن الأمان. على الحائط خلفه، تظهر نسخة مكبرة من اقتباس خطّه في كتاب تخرجه أواخر التسعينيات: ‘أيها الإخوة والأخوات، حتى لو مزقتنا الأيام، فسوف نلتقي في النهاية على طرق السعادة والأمل.’ هذا الاقتباس هزني بعمقه، إذ ربط بين زمنه وزمني، بين أحلامه وواقعي. رغم أن والدي فقد كل شيء في هذه الحرب، فإنه ظل متشبثاً بالأمل، مؤمناً بأن الفرج قادم بإذن الله. هو رجل لا تفيه الكلمات حقه – بطلي الذي لن أنساه. يظهر في الصورة في البيت الذي ترعرع فيه، في المدينة التي تشكّل له الوطن. أما بالنسبة لي، فأم روابة ليست كذلك.”
======
2
نفس البيت، وقت مختلف
“تُظهر هذه الصورة جدار الحديقة الأمامية لمنزلنا في أم روابة. على اليمين، يظهر كرسي جدي، وحذاؤه إلى جواره، والمقعد الذي اعتاد الجلوس عليه. على الجدار، قمت بدمج صورة أخرى – التقطها والدي عام 2014 لصالون المنزل ذاته، حين كان يعجّ بالزوار، بأحاديثهم وضحكاتهم ورائحة القهوة.
الصورتان تعكسان المكان نفسه، البيت نفسه، لكن بينهما زمنان مختلفان تمامًا. تظهران بوضوح كيف تبدّلت روح المنزل؛ كيف انطفأت الحركة وتراجعت الحياة فيه، رغم أن الوجوه لم تتغير.
العائلة رابطة من الحب، لكن في مساحات ضيقة وظروف ضاغطة، قد تطفو التوترات على السطح. حدثت مشادات، واحتدمت الخلافات، وزاد التوتر من صعوبة الشعور بالراحة. في تلك اللحظة، لم أشعر أن هذا المكان هو بيتي.”
==========
3
“ما هي قبيلتك؟”
التقطتُ هذه الصورة لمنزل مهجور أثناء طريقي إلى سوق أم روابة. حاولتُ أن أسأل المارة عمّا حدث، لكن الجميع آثر الصمت – ربما لأن الجميع يعرف، دون أن يبوح، أن قوات الدعم السريع هي من فعلت ذلك. دخلت تلك القوات إلى أم روابة في يوليو/تموز 2023، وقلبت ملاذنا الآمن إلى بؤرة من الخوف والرعب.
رغم أنها صوّرت نفسها كقوة منقذة جاءت لسد فراغ الشرطة والجيش، سرعان ما تحوّل ذلك الادعاء إلى سرقة وقتل، ومعه تحوّلت أم روابة من مجتمع مترابط ينبض بالحياة، إلى مكان غريب، خافت، ومُثقَل بالانكسار.
بدأ السوق يخلو شيئًا فشيئًا، وهو ما أثر عليّ شخصيًا. كنت أعمل هناك مع أخي وأبناء عمومتي، نبيع الصابون لنكسب قوت يومنا ونساعد عائلتنا على الاستمرار. وبوصفي الأكبر سنًا في العائلة، كان العبء دائمًا على كاهلي.
في 23 سبتمبر 2023، اتخذت القرار الأصعب: أن أغادر أم روابة. بعت كل معدات التصوير التي أملكها لأشتري تذكرة إلى ود مدني، المدينة التي قصدها كثيرون من الخرطوم بحثًا عن عمل أو أمل في بداية جديدة.
لكن مغادرة المدينة لم تكن سهلة. كانت نقاط التفتيش تقف بيننا وبين الطريق، بأسئلتها الثقيلة: “ما هي قبيلتك؟”، “سلّم هاتفك”. ثم يأتي التفتيش، وأحيانًا العنف، من مقاتلين لا يعرفون الرحمة.
رأيت بعيني كيف تعرضت النساء للتفتيش والإهانة والتحرش، ولم أكن قادرًا على فعل شيء. شعرت بالعجز، والضعف، وأحيانًا بالذنب لأنني لم أتكلم. لكنني حين أسترجع تلك اللحظات، أُدرك أنني لم أكن أملك أي خيار.
======
4
سنعود حتمًا”
هذه لقطة شاشة من مقطع فيديو التقطته في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بعد قرابة شهرين من وجودي في ود مدني. على مركبة التوك توك الذي مرّ أمامي كُتب: “سنعود حتمًا” – شعار تردده كثير من الأسر السودانية، تعبيرًا عن الأمل في الرجوع إلى الديار التي هجّرتهم منها الحرب.
لكن حين جلست لاحقًا لتحرير الصورة – التي التقطتها من داخل توك توك، بينما كنت أقف على جانب الطريق أبيع رصيد الهاتف – أدركت كم أن تلك العبارة كانت بعيدة عن إحساسي الحقيقي في تلك اللحظة.
في بدايات الحرب، كنت أُقنع نفسي: “سنعود قريبًا، أسبوعان بالكثير وسينتهي كل شيء”. لم نحمل معنا إلا القليل من الملابس حين تركنا الخرطوم، فقد بدا الأمر مؤقتًا. لكن مع اقتراب نهاية عام 2023، بدأت أنظر إلى الخرطوم كذكرى بعيدة، كمدينة ربما لن أراها مجددًا.
كانت العبارة على التوك توك تحمل أملاً، نعم، لكنها كُتبت على مركبة تمضي إلى الأمام… ولا تعود. في تلك اللحظة، بدت لي وكأنها تعكس نقيض ما تقوله. الرسالة تقول: “سنعود”، لكن الواقع كان يقول: “لن أعود قريبًا… وربما أبدًا”.
==========
5
الخرطوم الجديدة
التُقطت هذه الصورة بعد نحو شهر من وصولي إلى ود مدني. كانت مناسبة استثنائية؛ التقيت فيها بأصدقاء لم أرهم منذ شهور. كنا جميعًا قد هربنا من ولايات مختلفة، وجمعتنا تلك الليلة حول طاولة لعب الورق، تحت ضوء مصباح معلّق في مؤخرة شاحنة.
كانت لحظة مؤثرة للغاية. شعرت خلالها بتعلّق متزايد بهذه المدينة الجديدة. فقد استقبلت ود مدني مئات الآلاف من النازحين من الخرطوم، وكانت مدينةً دافئة ومرحّبة. بدأت أتعرف على أشخاص يُشبهونني، يحملون ذات الاهتمامات، ويبحثون مثلي عن المعرفة والعمل والطمأنينة. بدا وكأن “خرطومًا” جديدة تتكوّن هناك – أكثر هدوءًا، لكنها لا تزال نابضة بالأمل.
رغم هذا، لم أشعر تمامًا بأنني في منزلي. كنت أقيم مع قريب بعيد – ابن عم لوالدي – ورغم حسن استقباله، إلا أن بعض تعليقاته تركت أثرًا مؤلمًا. سألني ما إذا كنت قد فكرت في الانتقال إلى ربك، على بُعد ثلاث ساعات جنوبًا، أو الأبيض، ثماني ساعات إلى الغرب. لم يكن يطردني، لكن طريقته في طرح الموضوع أوحت لي بأن إقامتي غير مرغوب في أن تطول. وهكذا، بينما بدت لي ود مدني كأنها وطن مؤقت، فإن البيت الذي كنت أسكنه ومن أعيش معهم جعلوني أشعر بالغربة.
في ديسمبر، تلقيتُ اتصالًا من والدي، دعاني فيه للحاق به في ربك، حتى نسافر معًا إلى مدينة الرنك في جنوب السودان لتقديم طلب لجوء. كانت لديه أسباب كثيرة للمغادرة، أبرزها توقف إخوتي عن الذهاب إلى المدرسة. رفضتُ في البداية، واحتدّ النقاش بيننا. لكن في صباح اليوم المقرر لسفري، غيّرت رأيي وقررت الذهاب.
لاحقًا، بدا ذلك القرار وكأنه أنقذني. بعد أيام فقط من مغادرتي، اقتحمت قوات الدعم السريع مدينة ود مدني، وخلفت وراءها دمارًا وفوضى.
==========
6
رحلة إلى المجهول
أطلقتُ على هذه الصورة الذاتية عنوان “رحلة عائلية إلى المجهول”. التقطتها في مدينة ربك، بينما كنا نستعد للانطلاق بسيارتنا نحو مدينة الرنك.
في ربك، شعرت بوحدة طاغية. الحياة اليومية فيها صعبة، والبيئة من حولي بدت بلا ملامح واضحة، وكأنها لا تعرف تمامًا ما هي: مدينة أم قرية متوسعة؟ كان المكان غريبًا إلى درجة أنني لم أتمكن حتى من وصفه أو الشعور بأي انتماء إليه – وربما لهذا السبب لم أحبه أبدًا.
لا أميل عادةً إلى التقاط الصور الجماعية، لذلك اخترت أن ألتقط هذه الصورة العفوية – كأنها طريقة لأشارك اللحظة دون أن أكون فيها تمامًا. كانت والدتي، الجالسة على اليسار، تتجادل مع أخي الأصغر الواقف، بينما بدا التوتر واضحًا على وجوه الجميع. كنا جميعًا مرهقين، مشوشين، لا نعلم ما الذي ينتظرنا، ومع ذلك، كان هناك شعور خفي بالأمل… وأنا، من مكاني في الخارج، كنت أراقب بصمت.
الرنك، المدينة الحدودية الواقعة شمال جنوب السودان، تُعد محطة عبور أكثر منها وجهة. مكان يتوقف فيه الناس مؤقتًا، هاربين أو عائدين، في طريقهم إلى ما يظنونه حياة أكثر استقرارًا. لم أتصور أبدًا أنني سأبقى هناك طويلًا.
طوال الرحلة، كانت الأسئلة تتزاحم في رأسي: ماذا بعد؟ هل أواصل نحو جوبا؟ هل أعود إلى السودان؟ أم أن مصر خيار أكثر أمانًا؟ لم تكن هناك إجابات واضحة، فقط طريق طويل ومفتوح على احتمالات مجهولة.
======
7
التفكير في كل شيء في وقت واحد
في اليوم التالي لوصولنا إلى مدينة الرنك، جلسنا ننتظر تسجيلنا كلاجئين – وهي اللحظة التي توثقها هذه الصورة.
في الخلفية، يظهر رجل لا أعرفه، لكن تعبير وجهه كان كافيًا ليقول الكثير: كأنه يفكر في كل شيء دفعةً واحدة – في الخسائر، والتعب، والمجهول القادم.
في المقدمة، يجلس أخي مجتبى، الذي يصغرني بعامين، وقد بدت عليه علامات الإنهاك بوضوح. نظراته كانت شاردة، متعبة من الوقوف تحت الشمس طوال اليوم. ظلّ الخيمة في تلك اللحظة كان بمثابة نجاة. كان من المفترض أن يكون مجتبى في تلك الأثناء يتقدّم بطلب الالتحاق بالجامعة، لكن بدلاً من ذلك، بدأ يبيع الأكياس البلاستيكية ليكسب قوت يومه. قبل أيام فقط، أنهى أخيرًا امتحانات الشهادة الثانوية – الامتحانات التي كان من المفترض أن يجتازها قبل عامين.
معظم الصور التي التقطتها في الرنك كانت باستخدام هاتفي، بهدوء وحذر. كنت أضع سماعات الأذن وأتظاهر بأنني في مكالمة، حتى لا أُلفت الانتباه. في تلك الظروف، كنت لاجئًا، لا صحفيًا. مجرد حمل دفتر ملاحظات أو طرح سؤال قد يكون كافيًا ليُبلغ عنك أحدهم إلى الأمن.
======
8
منزلي
عشتُ مع عائلتي في هذه الخيمة الصغيرة ثلاثة أيام في مدينة الرنك، بانتظار استكمال إجراءات طلب اللجوء. والمفارقة أنني شعرت فيها بقرب من الوطن أكثر من أي وقت مضى منذ اندلاع الحرب. فقد كان من حولي فقط أحبائي – دون غرباء أو مجاملات أو توترات – وهذا وحده كان كافيًا ليوقظ في داخلي شيئًا من الدفء الذي افتقدته. ذكّرني الحديث المستمر، والمشاحنات الصغيرة، وحتى لحظات الصمت، بالحياة التي كانت لنا في الوطن.
لهذا السبب، قررت أن أدمج في هذه الصورة مشهدًا آخر – صورة من أرشيف والدي لمنزل عائلتنا القديم في أم درمان، حيث عشنا بعد عودتنا من قطر. أردت أن أجمع بين مكانين: خيمتنا المؤقتة في الرنك، ومنزل الذكريات في الخرطوم. ومع ذلك، كنتُ أعلم في أعماقي أن لا هذا المكان ولا ذاك هو الوطن الحقيقي الذي أبحث عنه.
لاحقًا، أخبرتنا السلطات أن علينا مغادرة الرنك إلى مخيم لاجئين ناءٍ في ريف جنوب السودان. لم ترغب عائلتي في العيش هناك، فاختاروا العودة إلى ربك. أما أنا، فقررت أن أواصل الرحلة وحدي نحو جوبا.
في ذلك الوقت، كانت قوات الدعم السريع قد دخلت ود مدني. كل ما تبقى لي من ممتلكات فُقد أو نُهب، ولم يعد هناك ما يمكن أن أعود إليه. كنت بحاجة إلى بداية جديدة، إلى مساحة أتنفس فيها من جديد. علّ جوبا تكون تلك المساحة – بداية مختلفة، وظيفة جديدة، وربما حياة أهدأ مما خلفته الحرب.
==========
9
متضارب
التُقطت هذه الصورة في جوبا، وأطلقتُ عليها عنوان “متضارب” لأنها عبّرت عن حالة من التشتت العاطفي العميق. كنت أرغب في العودة إلى السودان، لأن جوبا لم تشعرني بالانتماء. لكنها، في الوقت ذاته، منحتني ما لم يعد ممكنًا في بلدي: شيئًا من الأمان، ومساحة للهدوء الشخصي.
استأجرت غرفة بسيطة مع ابن عم والدي مقابل عشرة دولارات شهريًا. وبعد فترة، بدأت أعمل كمصور فيديو ومصور فوتوغرافي في إحدى شركات الإنتاج. لكنها سرعان ما تحولت إلى أسوأ تجربة مهنية مررت بها. كانت الأجور تُدفع على أساس كل مشروع، وليس هناك راتب شهري ثابت. بعض الأسابيع كانت تمر دون أي عمل، وأحيانًا كنت أقضي شهورًا دون دخل. كانت الحياة شديدة القسوة.
لم أجد في جوبا ما يمكنني التعلق به حقًا. لم تكن المدينة نفسها ما شدني، بل الأشخاص الذين أحاطوا بي – زملائي في العمل، وأصدقائي الذين بقوا إلى جانبي. كانت المدينة صعبة، خانقة أحيانًا. كنت أقطع المسافات سيرًا على الأقدام لأصل إلى العمل، ثم أعود في وقت متأخر. وغالبًا، لم يكن لديّ ما أفعله سوى الغرق في تحرير هذا المشروع – وكأنني أتشبث به كي لا أضيع تمامًا.
=======
10
مرآة اسمها موهي
هذه صورة لصديقي محيي، الذي عشت معه خلال فترة وجودي في جوبا. تعارفنا لأول مرة في أم روابة، وكانت صداقتنا انعكاسًا لرحلتين متشابهتين في قلب الفوضى. قصته تجسد ما مرّ به الكثيرون من معاناة في ظل الحرب والنزوح.
قبل اندلاع الصراع، كان محيي طالبًا في كلية الطب بجامعة الخرطوم. وبعد أن تعذّر عليه مواصلة دراسته هناك، سافر إلى جوبا، على أمل الانتقال إلى جامعة في تركيا. لكن طلب تأشيرته رُفض. حاول أن يبدأ من جديد، فاستثمر مبلغًا كبيرًا في افتتاح صيدلية، لكنه لم يحصل على التراخيص اللازمة. ومع تلاشي فرص النجاح، قرر استخدام ما تبقى من أمواله لدفع تكاليف الدراسة في روسيا. غير أن الحظ خانه مجددًا: فقد جواز سفره في اليوم الذي كان من المفترض أن يسافر فيه.
حينها، لم يجد خيارًا سوى الرحيل. انطلق شمالًا في رحلة محفوفة بالمخاطر، مرورًا بأعالي النيل، ثم برًا عبر تشاد والنيجر والمغرب، حتى وصل في نهاية المطاف إلى أوروبا. اليوم، يعيش كلاجئ في فرنسا، لا يزال يبحث عن الاستقرار وعن وطن يمكنه أن يسميه وطنًا بالفعل.
رأيت نفسي في محيي. التقينا في أم روابة، لكن لم يشعر أحدنا بالانتماء هناك. ثم انتقلنا إلى جوبا، لكن الغربة لم تغادرنا. في أواخر عام 2024، قال لي محيي جملة لا أنساها: “لا أعرف حتى لماذا جئت إلى هذا المكان. أتمنى لو لم أفعل، وأعلم أنني لو كنت في وطني، لما وصلت إلى ما أنا عليه الآن.”
======
11
عالم مقلوب
يجمع هذا التعريض المزدوج بين آخر صورة التقطتها للمناظر الطبيعية في الخرطوم (في الأسفل)، وصورة لمدينة جوبا التقطتها في أغسطس 2024، ووضعتها مقلوبة في الأعلى. أردتُ من خلال هذه المفارقة البصرية أن أُجسّد التباعد الكامل بين العالمين، والانفصال الذي شعرتُ به داخليًا.
بحلول ذلك الوقت، كنت قد أمضيت سبعة أشهر في جوبا، ومع ذلك لم أشعر أنني أنتمي إليها. المدينة لم تعرفني، ولم أتعرف عليها. حتى الشوارع بدت غريبة عني، كأنها لا تتحدث لغتي. كنتُ أفقد علاقتي بالكاميرا – شغفي الأول – بسبب القيود الصارمة المفروضة على التصوير، وكنت أفتقد عائلتي أكثر مما أستطيع التعبير.
كنتُ أبحث عن مساحة، عن فرصة أتنفس فيها بحرية، عن طريقةٍ أعبّر بها عن أفكاري، وأتصل بذاتي من جديد. شعرتُ كأنني سجين داخل زنزانة مفتوحة، أحمل مفتاح الخروج، لكنني لا أعرف أين الباب.
هذه الصورة محاولة بصرية لقول كل ذلك – لقول إن جوبا كانت عالمًا مقلوبًا بالنسبة لي، غريبًا، بعيدًا كل البعد عن الخرطوم وأم درمان، حيث تشكّل وعيي، وحيث لا يزال قلبي معلّقًا.
===========
12
ذكريات مشوشة
في 13 سبتمبر 2024، غادرتُ جوبا متجهًا إلى كمبالا، عاصمة أوغندا. كان شعور الغرابة يرافقني طوال الطريق – فقد أمضيت ثمانية أشهر في هذه المدينة، وهي أطول فترة أقضيها في مكان واحد منذ أن تركتُ الخرطوم. ورغم أن جوبا لم تشعرني يومًا بأنها موطني، فإن الادعاء بأنها لم تعنِ لي شيئًا سيكون إنكارًا للحقيقة. كانت تجربةً ثقيلة ومهمة في آنٍ معًا، لكنني كنت أعلم أن وقت الرحيل قد حان.
التقطتُ هذه الصورة من نافذة الحافلة أثناء مغادرتنا المدينة. يظهر فيها نهر النيل تحت المطر المتساقط. كانت لحظة صامتة، مشبعة بالحيرة، وكأن السماء تمسح المكان من ذاكرتي تدريجيًا. لم أعد أحتفظ بالكثير من التفاصيل عن حياتي هناك، وكأن قطرات المطر التي انسابت على زجاج النافذة كانت تحجب ملامح المدينة كما تحجب الذاكرة الهشة.
أصبحت هذه الصورة، لاحقًا، بمثابة اعتراف – أن جوبا بدأت تتلاشى من ذهني، شيئًا فشيئًا. ورغم ذلك، لا يمكنني إنكار أنني شعرت بشيءٍ ما لحظة مغادرتي… شيء يصعب تسميته، لكنه كان هناك.
=========
13
بلا مأوى/طفولة ضائعة
أطلقتُ على هذه الصورة الذاتية عنوان “بلا مأوى”، لأنها التُقطت بعد فترة وجيزة من مغادرتي المنزل الذي كنت أعيش فيه في كمبالا. استخدمتُ تعريضًا مزدوجًا، جمع بين ملامحي اليوم وصورة لي من طفولتي في قطر عام 2013 — صورتان من زمنين متباعدين، يختزلان ما بينهما من تبدلات جذرية في معنى “الوطن”.
في طفولتي، لم يكن الوطن معنيًا بالإيجار، أو القلق، أو أعباء الإعالة. كان ببساطة مساحة للأمان، ملاذًا من دون شروط. أما اليوم، فلم يعد لهذا المفهوم القديم وجود في حياتي. أصبح الوطن شيئًا لا يُعرَّف، لا يُمسَك، وربما لا يُستعاد.
صحيح أن كمبالا كانت أكثر رحمة من جوبا — ربما بسبب وجود جالية سودانية أوسع، أو لأنني شعرت بحرية أكبر في ممارسة التصوير، أو لأن الفرص المهنية كانت أوضح. لكنها لم تكن “بيتًا”. كانت مجرد مرحلة — محطة للتأمل، للتعلّم، وللوقوف أمام نفسي ومحاولة فهم ما أريده لاحقًا.
ورغم كل ما حاولت أن أبنيه هنا، كانت الطفولة تطاردني — تلك الأيام التي لم أعرف فيها الشك، أو المسؤولية، أو الخوف من الغد.
ثم جاء ذلك الحدث الذي غيّر كل شيء: رحيل أختي الصغيرة، ربى ياسر، في 16 ديسمبر 2024، عن عمر لم يتجاوز الخامسة عشرة. كانت خسارتها كالسقوط في فراغ. لا يزال شعور الذنب يثقلني، لأني لم أستطع فعل ما يكفي، لم أستطع شفاء ألمها. لا أعلم إن كنت سأغفر لنفسي يومًا.
ما مررتُ به ليس سوى خيط صغير من نسيج الحكاية السودانية الأكبر — ملايين الأرواح المقتَلَعة، العائلات المشتتة، الجياع، والمرضى الذين لم يجدوا من يداويهم. الحرب لا تزال مشتعلة، تتسع وتستنزف، ولا أملك سوى الأمل بانتهائها.
أما “الوطن”، فقد توقفتُ عن استخدام الكلمة منذ زمن. صارت غريبة على لساني. نسيت معناها، أو ربما أتظاهَر بذلك. واليوم، أستعيض عنها بكلمات أبسط: “غرفة”، “بيت مؤقت”، “مكان أنام فيه”. ومع أنني أدرك أن العثور على وطن حقيقي بات حلمًا بعيدًا، إلا أنني، رغم كل شيء، سأواصل البحث.