عثمان فضل الله
قبل أن تبزغ الشمس بلحظات، وفيما كانت الرياح الباردة تهبّ من جهة الغرب حاملةً غباراً كثيفاً من الصحراء، انطلقت الشاحنة ذات الهيكل الرمادي المتهالك من قلب مدينة الدبة، تتهادى بثقل غامض على غير العادة. كان السائق، رجل في أواخر الأربعينيات، يُعرف في الأوساط الضيقة بـ”الظل”، يطوي الطريق بعينين يقظتين وذهن مشغول، يعلم أنه في مهمة ليست كسائر المهام.
الشاحنة التي خرجت قبل الفجر، لم تمر على نقاط التفتيش الروتينية، ولم يُطلب من سائقها إبراز تصريح أو كشف حمولة. لم يكن ذلك صدفة، بل امتيازٌ خاصٌ لا يُمنح إلا لمن يعمل تحت عباءة أحد “أساطين” الولاية الشمالية —الشاذلي الإدريسي، الاسم الذي يُقال إنه لا يُذكر على طريق إلا فُتحت له الحواجز، ولا يُطلب عند المعابر إلا ويُكتفى بهمهمة احترام وتحيّة
خلف مقود الشاحنة، لم يكن السائق يقود فقط حمولة، بل يسير وسط حقل ألغام من التناقضات: مهمة تُصوَّر على أنها “تجارة”، لكنها تتستر بغطاء من البلح والتموين، وتُخفي تحت ذلك شحنة من الوقود والذخائر. تتجه غربًا، نحو دارفور، عبر طرق غير مأهولة ونقاط ارتكاز تابعة لمليشيات قبلية مسلحة، حيث تُشترى السلامة بأموال تُسلَّم يدًا بيد، وحيث لا تسأل البنادق عن وجهتك إن دفعت الثمن.
لكن في مكان ما، قرب مشارف مناطق نفوذ قبيلة “الهواوير”، خانهم الحساب. الحمولة كانت زائدة، والطريق كان رمليًا وموحلًا بفعل عاصفة الليلة السابقة. انزلقت الشاحنة فجأة وانقلبت بجسمها الثقيل. ارتفع عمود من الغبار، وتحطمت الصناديق، وظهرت محتويات لم تكن معدّة للعيون: براميل وقود مهرب، وصناديق اسبيرات سيارات مغطاة بالخيش، وأكياس بلح كانت موضوعة بعناية في الأعلى لتخفي ما تحتها.
وصل السكان المحليون أولاً، تلتهمهم الدهشة، ثم جاءت وحدات مستنفري القبيلة لم تكن تعلم شيئًا عن هذه الرحلة. بدأت الأسئلة تتناسل والهواتف ترن حاملة أصواتا مختلفة تطالب بانهاء الامر في مكانه ودفن الخبر في رمال الصحراء، غير ان شابا صغيرا تمسك بموقفه رافضا كل الاغراءات فالشحنة خطيرة وقود واسبيرات والوجهة دارفور فيجب ان تعلم السلطات بمايجري خلفها ومايحاك ضدها. تم التحفظ على السائق ، وبدأت الألسنة تتلعثم في دواوين الحكومة المحلية. من أرسل هذه الشحنة؟ ولصالح من؟ وما هو دور الإدريسي في كل ذلك؟ وهل كان الحادث عرضياً أم أن جهة ما قررت أن تكسر الحصانة الصامتة؟
هذه ليست قصة شاحنة انقلبت فحسب. إنها نقطة البداية لتحقيق يمتد من ممرات التهريب في الشمال، إلى الأسواق السوداء في الغرب، مرورًا بعلاقات متشابكة بين نافذين في السلطة وتجار حرب وعناصر داخل أجهزة الدولة. في هذا المقال، نكشف خيوط شبكةٍ تتغذى على الفوضى، وتحوّل الولاية الشمالية إلى ممرٍ لكل شيء عدا صوت السلام… تحت لافتة البلح، والضحايا هم المواطنين البسطاء.
هل تنتهِ قصة الشاحنة هنا؟، بالطبع لا
نُقل السائق إلى مدينة الدبة مكبّل اليدين، وهناك ــ في مبنى الشرطة الذي تحاصره الإشاعات أكثر من الأسوار ــ جلس وحيدًا، يتصبب عرقًا تحت وهج الاعترافات، قال بحسب الرواية إن الإدريسي لا علم له بما فعل، وإنه وحده من حاول تهريب الوقود والذخائر. بدا كمن يحاول النجاة بنفسه في بحرٍ تتقاذفه التيارات من موت محقق إن ربط سيده بالواقعة، او فعلا نطق لسانه بالصدق، انه كان يستغل اسم الادريسي ليغتني وحده الذي يعلم الحقيقة.
ولان الأمور في عالم المليشيات لا تُترك للعدالة وحدها. فحين تتشابك المصالح وتتحرك الأوامر من خلف الستار، يُكتب الرد بالرصاص لا بالكلمات. جاءه الرد سريعًا: خُطف الشاب ــالذي رفض دفن قضية الشاحنة في رمال الصحراء ــ في وضح النهار، كمن يُقتاد إلى ثأر قديم لا ناقة له فيه ولا جمل. فزعت قبيلته، هجمت كالعاصفة، استخرجوه من أيدي خاطفيه، وخطفوا آخر لكنهم لم يعلموا أن فصلاً جديدًا يُكتب. أعيد اختطافه مرة أخرى، وكأن الانتقام يأبى إلا أن يُسدد الثمن مضاعفًا
وفي الثالث من يوليو، انفجر المشهد. كانت الدبة قد استيقظت على همسات الغضب، لكنها ما كانت تتخيل أن يتحول سوقها إلى ساحة معركة، رصاص يتطاير، محال تُغلق، نساء تصرخ، وأطفال يحتمون خلف كل مايظنون انه سيحميهم من نيران اشتعلت فجأة على رؤسهم ، يومان من الرعب لم تعرف المدينة مثلهما في تاريخها. يومان حملت فيهما الشوارع أصداء المعركة التي تناقلتها المواقع الإخبارية على استحياء، وسمّتها صراعًا قبليًا بين الكبابيش والهواوير دون ان تثبر غورها، خوفا،من بعضها وطمعا من أخرى وكسلا من الكثير.
الحقيقة ــ التي تحاول الألسن كتمها والبيانات الرسمية تجاهلها ــ تقول شيئًا آخر: لم تكن حرب قبائل، بل مواجهة بين مليشيات ارتدت عباءة القبيلة، واستنجدت بالدم والانتماء لتغطي على جريمة العصابات، معركة صغيرة بحجمها، خطيرة بما فتحت من أبواب جهنم على استقرار المنطقة.
الرواية:
في يناير الماضي، لم يكن الخبر الذي تناقلته بعض المنصات الإخبارية مجرّد “عاجل عابر”، بل كان الشرارة الأولى التي فتحت أمامي بابًا واسعًا على جحيم مستتر.
عاجل: “حرس والدة قائد (الأسود الحرة) بالشمالية يعتدي على الطبيب المناوب بمستشفى الغابة”
عنوان صادم، لكنه، كما هو الحال دومًا، لم يقل كل شيء
كانت القصة تخبئ في جوفها مأساة أكبر بكثير من اعتداء على طبيب
تتبعت الخيوط، وسرعان ما تكشفت أمامي أهوالٌ يعيشها إنسان الولاية الشمالية كل يوم. أهوال تُخفيها الأسوار، وتكممها الخشية، ولا يسمع صداها الإعلام الذي قرر أن يشيح بوجهه عن الشمالية، ويتركها تنزف في صمت.
الشمالية: معركتها الخاصة
في الدبة وكريمة وكرم كول، ومروي ودنقلا لا يعلو إلا صوت المليشيات. مدن كانت هادئة كصفحات النخيل، صارت اليوم مرمى لعبث السلاح ومستنقعًا للفوضى المنظّمة.
قال لي أحدهم، ولم أشأ ذكر اسمه – لا خوفًا او تخاذلا منه، بل خوفًا عليه
“والله لم أتمنّ أن أرى الدبة كما أراها اليوم… كلمة واحدة قد تجرّك إلى الزنازين، ليس هناك قانون يحكم، بل غرٌ مغرور بسلاح على ظهره، بلا عقل ولا تربية، يمكنه أن يفعل فيك مايشاء”
في تلك البقاع، لم تعد الكتائب أدوات لحماية الأرض أو عرض ولاحتى الدولة، بل تحوّلت إلى غطاء لمافيات المخدرات وفلول السجون والمجرمين، الذين وجدوا في الحرب عباءة تشرعن لهم كل ما كان محرّمًا
السلاح… لمن يصرخ أكثر
في الشمالية، لم تعد حيازة السلاح مرتبطة بتأهيل أو انضباط. الأمر بسيط: اصرخ بأعلى صوتك دعمًا للجيش، واذكر “الغحاطة” بسوء، وستُمنح بندقية وربما سيارة دفع رباعي. لا أحد سيسألك عن سوابقك أو نواياك
بهذا الشرط الوحيد، انخرط في ما يُسمى بـ”الاستنفار الشعبي” كل من أراد حماية نشاطه المشبوه: تجار مخدرات، مهربون، لصوص، وحتى من اعتادوا الاقتيات على الفوضى.
بناءً على إفادات ضباط في الشرطة، ووجهاء إدارات أهلية، وعدد من المواطنين، تتوزع المجموعات المسلحة في الولاية الشمالية إلى خمس تشكيلات رئيسية، أبرزها.
صغار المستنفرين
وتضم شبابًا حديثي التجربة، يُديرهم جهاز الأمن مباشرة، ويوكل لهم مهام الحراسة الليلية في الأسواق والمرافق الحيوية. يُنظر إليهم على أنهم الأقل خطرًا، رغم أن بعضهم لا يخلو من طيش.
مجموعة “البراؤون”
أكثر عنفًا من الأولى، وتضم عناصر من الحركة الإسلامية، إلى جانب معتادي الإجرام ومتعاطي المخدرات. تتخذ من نادي البركل العريق مقرًا، وتسيطر على عدد من المرافق الحكومية، تستهدف الناشطين والسياسيين الرافضين للحرب بشكل مباشر، ونفوذها آخذ في التمدد
مجموعة “أولاد قَمَري” (بفتح الراء)
منها وفيها تبدأ القصة الأخطر، مجموعة لم تولد من رحم الحرب، بل من باطن الجريمة
قبل الحرب، كانت “أولاد قمري” شبكة تهريب محترفة تعمل في تجارة السلاح والمخدرات، متغلغلة في الصحراء بين دنقلا والحدود الليبية. ومع اندلاع الحرب، طُلب ودّهم، جلس وفد من السلطات للتفاوض معهم، ووفق شاهد حضر الجلسة، اشترطت المجموعة إسقاط ملاحقاتها الجنائية، مقابل تأمين طرق الصحراء. وافقت القوات المسلحة، على مضض، واشترطت فقط التوقف عن التهريب.
لكن من يراقبهم؟ لا أحد.!!
تحولت “أولاد قمري” إلى مليشيا بمقام سلطة موازية. تملك السلاح، ولديها غطاء سياسي، وتسيطر اليوم على مدن بأكملها: القولد، دنقلا، بل وحتى أطراف الدبة.
في سوق دنقلا، لا أحد يصرّح. لكن الجميع يعرف
يقول تاجر ــ بصوت خافت وجسد متلفت ــ إن أفراد “أولاد قمري” يفرضون إتاوات على كل شاحنة تدخل المدينة أو تغادرها، تتراوح ما بين مليون إلى خمسة ملايين جنيه، بحسب الشحنة ووجهتها.
“إنهم ليسوا مقاومة شعبية”، يهمس الرجل، “إنهم مافيا تنشط في تجارة الذهب، والوقود، والمخدرات… تحت سمع الحكومة وبصرها.”
فوضى بمباركة الدولة؟
السؤال الذي يتردّد في أزقة دنقلا وحارات الدبة: هل ما يحدث محض فوضى؟ أم هو نظام غير مُعلن، حيث يُسمح للجريمة بأن تحكم طالما رفعت شعار الجيش؟
المعارك التي نُقلت للإعلام على أنها “اشتباكات قبلية” ــ كهذه التي دارت بين “الهواوير، والكبابيش” في سوق الدبة ــ ليست كذلك، إنها انفجارات مؤجّلة لصراعات مافيوية تُدار تحت لافتات زائفة، بينما الحقيقة تُخنق في صمت
وهكذا، تستمر الشمالية في معركتها الخاصة، بعيدًا عن الكاميرات
تبكي المدن في صمت، يُذلّ المواطن في وضح النهار
أما العدو الحقيقي، فهو من يحتمي بالسلاح ليُفسد في الأرض باسم الوطن
الأسود الحرة/ اخوان الشاذلي
كان فبراير من العام 2022 هو التاريخ الذي خرج فيه اسم “الشاذلي الإدريسي” إلى العلن لأول مرة، وسط دوّي الرصاص وصفير العربات المسلحة. عشرون مركبة رباعية الدفع، تحمل رجالاً مدججين بالسلاح، مزقت الهدوء الذي يلف تلك المناطق، اتجهت العربات وسط دهشة ورعب المواطنين صوب منزل أسرته في بلدة الغابة، لا لشيء سوى المطالبة بتسليمه. الحدث الذي تناقلته وسائل الإعلام في حينه اكتفى بالإشارة إلى أن المهاجمين يتبعون لقوات الدعم السريع، دون الخوض في التفاصيل.
غير أن خلف الكواليس، كانت الحقيقة أكثر تعقيداً وتشعباً، فمجالس قرى الشمالية اشارت الى جهة أخرى جهة عابرة للحدود، انها مليشيا ليبية هكذا كانوا يقولون،وبالتقصي قادتنا المعلومات إلى مصادر مقربة من قبيلة “التبو”—وهي مجموعة عرقية منتشرة في حزام الصحراء الكبرى، من شمال تشاد إلى جنوب ليبيا وشمال النيجر، وصولاً إلى أقصى شمال غرب السودان. أحد أبناء التبو الذين تحدثنا إليهم أكد لنا وقوع الهجوم، مرجحاً أن تكون دوافعه مالية، تتعلق بخلاف بين الشاذلي الإدريسي وقائد مليشيا تبوية كان يرتبط معه بعلاقات تجارية قديمة. وأوضح المصدر أن تلك الخلافات، وإن كانت عنيفة في مظهرها، إلا أنها في الغالب سويت لاحقاً بعيداً عن الأضواء.
شبكة علاقات
اللافت أن الهجوم لم يكن حدثاً معزولاً، بل فتح نافذة على شبكة العلاقات الغامضة والمعقدة التي تحيط بالإدريسي، الرجل الذي لا يعرف له تاريخ واضح في مجال المال والاعمال، ورغم ان تقريرا أمنيا رسميا حصلنا عليه يصف مليشيا ” اخوان الشاذلي بانها الأقل عددا وعدة اللا ان الواقع يكشف أن رجاله يتنقلون الان بين القرى والمدن بلا هوية واضحة، أحياناً راجلين، وأحياناً أخرى على ظهور مركبات رباعية الدفع من نوع ” تندرا”. مجموعة “الأسود الحرة” كما يُطلق عليها، أو “إخوان الشاذلي” كما يفضل أنصارها تسميتها، باتت عنواناً للغموض والخطر في شمال السودان، تتقاطع مع الدعم السريع، وتتماوج علاقتها مع مليشيات “أولاد قمري”، وتتوغل في مفاصل المقاومة الشعبية والقبلية كما تتوغل الرمال في أقدام العابرين.
في الأسابيع الأخيرة، بدا أن العلاقة بين “الأسود الحرة” والجيش السوداني تجاوزت مستوى التنسيق الميداني العابر إلى ما يشبه الشراكة الميدانية على الأرض، وإن ظلّت دون غطاء رسمي معلن اذ، شوهد مقاتلو “الأسود” يقاتلون جنبًا إلى جنب مع وحدات من القوات الخاصة في بعض المعارك الصغيرة في الصحراء، وقد حمل بعضهم أجهزة اتصال عسكرية تُوزّع عادة على الوحدات النظامية، وارتدوا صدريات واقية شبيهة بتلك التي يحملها الجنود النظاميون، في مشهد أربك المراقبين.. رغم ان ذات التقرير الي اشرنا اليه سابقا صنفهم كمجموعة منفلتة تصعب السيطرة عليها.
أحد الضباط، الذي شارك في قيادة محور عمليات، أخبرنا أن المجموعة تلعب “دورًا نوعيًا في تأمين المحيط الريفي” لما يصفه بـ”مثلث الخطر”، الممتد بين الكاسنجر، الزومة، وشمال القولد. “هم يعرفون الأرض أكثر من أي أحد، ويمتلكون شبكة علاقات تجعلهم فاعلين، ويتفق مع التقيم الرسمي بقوله:” لكنهم أيضًا ليسوا منضبطين، ولا يمكن السيطرة عليهم بالكامل” ـ ، قبل أن يُنهي المكالمة فجأة حين سألناه عن التنسيق الاستخباري معهم.
ورغم هذا الحضور شبه الفعّال ميدانيًا، لم تُدرج وزارة الدفاع السودانية اسم “الأسود الحرة” في أي بيان رسمي، ولم يُعترف بهم كمجموعة داعمة للجيش ضمن المبادرات القبلية أو بيانات التعبئة، وهو ما يثير أسئلة حول النوايا المتبادلة وحدود الثقة. “ربما الجيش يستخدمهم الآن، لكنه لن يثق بهم مستقبلاً”، يعلّق ناشط سياسي محلي في دنقلا، مضيفًا: “هؤلاء مرنون بدرجة خطرة… سيتحولون مع الريح إذا ما بدأت الكفة تميل من جديد لصالح الدعم السريع.”
الأخطر، بحسب تقصينا، أن بعض قادة “الأسود” لا يزالون يتنقلون في مناطق يُعرف أن الدعم السريع يحتفظ فيها بخلايا نائمة، خصوصًا على تخوم الصحراء والمناطق غير المأهولة ، وسط تقارير عن عمليات تهريب للوقود وقطع غيار السيارات، لا يُعرف على وجه الدقة إن كانت موجهة لدعم لوجستي مباشر لقوات الدعم السريع أم لصفقات سماسرة في سوق الحرب.
وفيما يتزايد اعتماد الجيش على هذه التشكيلات الهجينة كحلّ مرحلي، تحذّر أصوات داخلية من أن السماح لمجموعات مثل “الأسود الحرة” بتعزيز موقعها قد يُفضي إلى مشهد ما بعد الحرب أكثر تعقيدًا، حيث يصعب ضبط السلاح، ويستحيل رسم خطوط واضحة بين الدولة واللا دولة.
“حماة السودان” :
في بلاد تتقاسمها البنادق والمشاريع الصغيرة للحكم، يطلّ محمد سيد أحمد سر الختم، المعروف بـ”الجاكومي”، كواحد من أولئك الذين لم يرضوا بدور المتفرج. رجلٌ تشكّل من طينتين: جذوره ممتدة في الشمال، وجسده تربى وتشكل في مدن الجزيرة، لكنه الآن يرفع راية “كيان الشمال” في وجه المتنفذين الجدد، كمن يريد أن ينتقم من مشهد لفظه طويلًا.
ليس الجاكومي وحده من يحاول تحويل الولاية الشمالية من ساحة عبور إلى مسرح نفوذ، لكنه الأكثر صخبًا بينها، والأكثر مجاهرة بنواياه، حين أعلن عزمه إرسال خمسين ألف شاب شمالي إلى معسكرات التدريب في إرتريا، تحت مسمى “قوة حماة السودان”، ضحك البعض، وسخر منه آخرون، مدعين جهله الجغرافي بالشمال وهله واوغلوا في السخرية قائلين ان الجاكومي لايستطيع التفريق بين “العفاض” و”حلة يونس”. لكن الرجل لم يكن يمزح، ولم يكن وحيدًا، ودافع كثيرا عن فكرته ولايزال عليها مصر وما انفك يسعى جاهدا لتحقيقها.
الأربعاء الماضي، ظهر من جديد، وهذه المرة وهو يوقّع اتفاقًا سياسيًا عسكريًا مع “درع السودان”، وهي مجموعة مسلحة يقودها المتمرّد السابق أبوعاقلة كيكل، والمعروفة بتحركاتها الغامضة وعلاقاتها الأكثر غموضا. بنود الاتفاق كانت عائمة، لكنها حملت عناوين كبرى: “إعادة تعريف المركز”، “التنسيق المشترك”، و”توحيد المواقف”. بدا الأمر كما لو أن الجاكومي ورفاقه قرروا كتابة دستور جديد من خارج الخرطوم، من الأطراف التي كانت صامتة طويلاً، ثم قررت أن تصرخ.
ما يحدث في الشمالية يتجاوز حدود النكتة السياسية أو طموحات فردية. ما بدا مشهدًا عبثيًا لرجل يتقن الظهور الإعلامي، صار فجأة مرآة لفوضى تضرب قلب الدولة. فالجاكومي، وإن لم يكن البطل المركزي في هذه الحكاية، إلا أنه تجسيد صارخ لحالة اللادولة: حين تغيب المؤسسات، وتتمدد الكيانات، وتتقافز البنادق في فضاء السياسة بلا كوابح.
الشمالية، تلك الأرض التي طالما قُدمت بوصفها ملحقًا للمركز أو ظهيره المطيع، باتت اليوم ساحة مفتوحة لصعود اللاعبين الجدد، بين مشروع جيش ومشروع مليشيا، بين أمل في حكم ذاتي وخطر في تشظٍّ قادم. وهنا، في هذه الفجوة، تتموضع قصتنا.
لعبة المال والنفوذ
في زوايا المشهد الشمالي المتشظي، لا يمرّ اسم قائد المقاومة الشعبية أزهري مبارك خافتًا. رجل الأعمال المتنفذ، المعروف بعلاقاته الوثيقة بدوائر الجيش، بات رقماً صعبًا في معادلة المال والسلاح، مستندًا إلى خيوط خفية نسجها خلال سنوات، قبل أن تكشف الحرب عن وجهه الأكثر وضوحًا، وهو الان يجلس على راس جبل هذه الفوضى فقواته التي تعرف بكتيبة ” نادوس” يمكن وصفها بين تلك المجموعات بانها الأكثر انضباطا بالنظرة العامة ولكنها الأكثر نفوذا.. فالرجل الذي يجمع المتناقضات تحت عباءته، الخير، والشر، القانون، واللا قانون، الانضباط والفوضى لايستطيع أحدا ان يمسك عليه شيئا بينما تمتد الأصابع ناحيته في كل شيء.
وبين قوافل الشاحنات وممرات التهريب، ترددت روايات عن صفقات تسليح غامضة، قيل إن مبارك كان أحد مموليها الكبار. واليوم، ومع تسارع الانهيار، يقف الرجل كتوأم سياسي للجاكومي، يشاركه الرهان ذاته: “من يملك السلاح يملك القرار.”
ليست القضية مجرد طموح شخصي أو جنوح نحو التفرد، بل مشروع متكامل لصناعة فراغ أمني في ولايات الشمال، فراغٌ يمكن تعبئته بقوة السلاح والمال، ولو على حساب سلامة المجتمعات الريفية واستقرار المدن الممتدة على طول النيل.
صمت البرهان: غياب أم تواطؤ؟
وسط هذه التفاعلات المشحونة، يبدو الصمت المطبق من الفريق أول عبد الفتاح البرهان مدوّيًا. فالرجل الذي بسط سلطته على مفاصل الدولة منذ سنوات، واختبر الحرب في أقسى تجلياتها، يراقب بصمت تصاعد نشاط الميليشيات في الشمال، وكأن الأمر لا يعنيه.
لم تصدر توجيهات، لم تتحرك استخبارات، لم تُفعّل سلطات الوالي. وحتى عندما تسربت تقارير عن تنسيق بين قادة هذه الجماعات وبعض شخصيات في الدولة، لم يُحرّك المركز ساكنًا.
في الشارع، يتداول البعض همسًا مشوبًا بالريبة: “هل ترك البرهان الحبل على الغارب عمدًا؟ أم أن بعض هذه الكيانات تخدم لعبة أكبر لا يُراد الكشف عنها بعد.”؟
في كل الحالات، فإن هذا الغياب – أكان تواطؤًا أم حسابات سياسية – يعمّق مأزق الدولة، ويمنح الميليشيات هامشاً أوسع للتوسع، بلا ضابط ولا رادع، بالنظر الى أن التشكيلات المسلحة في الشمال لم تعد تُشبه تلك الجماعات الهامشية التي لطالما نظر إليها المركز بازدراء. لقد تغيّرت المعادلة. الآن، تُدار هذه الكيانات من صالونات السياسة ومكاتب رجال الأعمال، وتُنفق عليها الأموال بلا حساب.. في أقصى الشمال،حيث لم يكن احد يتوقع خرجت هذه المليشيات من العتمة إلى الضوء، وسط صمت رسمي وتحركات مثيرة للقلق. هذه الميليشيات، وغيرها مما لم يُكشف عنه بعد، تُمثل قمة جبل الجليد لمرحلة سياسية شديدة الخطورة.
فإن استمر هذا الانفلات، وتحول الشمال إلى ساحة تنازع بين الطامحين والمتربصين، فإن البلاد مقبلة على جبهة جديدة لن تقل اشتعالًا عن جبهات دارفور أو الخرطوم. وما لم يتحرك المركز اليوم، فقد لا يكون هناك “مركز” غدًا.