من العدس إلى الذهب: جنرالات في ثكنات الاقتصاد!

حيدر المكاشفي

في خطوة بدت أقرب إلى حملة علاقات عامة منها إلى إصلاح اقتصادي حقيقي، أعلن الجيش السوداني تعليق أنشطة عدد من شركاته العاملة في قطاعات مثل التعدين والإنشاءات والطباعة. القرار شمل كيانات تابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية والمخابرات والشرطة، وهو ما فُسر على نطاق واسع كاستجابة لضغوط داخلية ودولية متزايدة تطالب المؤسسة العسكرية بالخروج من السوق. الجيش السوداني، وبحسب تقارير رسمية، يدير عبر منظومة الصناعات الدفاعية نحو 300  شركة، تُدر أكثر من ملياري دولار سنويًا. ومع أن جزءًا كبيرًا منها يعمل في مجالات مدنية بحتة مثل التعدين والطباعة والاستيراد والإنشاءات، إلا أن قرار تعليق النشاط الأخير لا يعني بالضرورة التخلي عن هذه الإمبراطورية الاقتصادية، بقدر ما هو إعادة تموضع أو محاولة امتصاص للضغوط الدولية والمحلية. فالخبراء يرون أن القرار يفتقر إلى الجدية طالما لم يتبعه تصفية حقيقية أو طرح للأسهم في البورصة، وتحويل الشركات إلى مساهمة عامة خاضعة لوزارة المالية. ما حدث حتى الآن لا يعدو كونه تعليقًا مؤقتًا، يُبقي الموظفين في مواقعهم، ويواصل دفع المرتبات، وكأن شيئًا لم يكن.. لكن، وكما هو الحال دائمًا في المشهد السوداني، فإن الشيطان يكمن في التفاصيل، أو بالأحرى في غيابها. إذ لا تزال الوحدات الهندسية للجيش تمارس نشاطها في مشروعات البنية التحتية، ولا يزال الحديث عن تحويل تبعية هذه الشركات لوزارة المالية أقرب إلى حلم يقظة منه إلى خطة إصلاح واضحة. فما الذي يدفع جيشًا يفترض أن مهمته حماية الحدود وحراسة الدستور الى ممارسة نشاط اقتصادي معيب ومضر بالاقتصاد الوطني، حيث يستثمرون في العدس والزيت والعمل في مجالات مدنية حيوية مثل طحن الدقيق والتنقيب عن الذهب وتصنيع الأحذية والأدوات الكهربائية والمنزلية، وتصدير اللحوم والصمغ العربي والسمسم وإنشاء وإدارة المستشفيات الخاصة، وهلمجرا من استثمارات يزاحمون فيها القطاع الخاص، بل ويضربونه بما ينالونه من امتيازات وإعفاءات، ما يحول السوق إلى ساحة منافسة غير عادلة. والنتيجة تدمير ممنهج للقطاع المدني، وتحويل الاقتصاد إلى مزرعة خفية لا يعرف أحد حجم إنتاجها الحقيقي ولا كيف تُدار. الإجابة ببساطة أن الجنرالات وجدوا في الاقتصاد المدني منجم ذهب لا يحتاج إلى ذخيرة، بل إلى إعفاءات وامتيازات.

السودان الآن لا يملك فقط (اقتصاد ظل)، بل (جمهورية ظل اقتصادية) تديرها المؤسسات العسكرية. رئيس الوزراء المستقيل عبدالله حمدوك سبق أن كشف أن الحكومة المدنية لم تكن تسيطر سوى على 18% فقط من إيرادات الدولة، بينما ظلت النسبة الأكبر – 82% – خارج نطاق وزارة المالية، وتحت قبضة الجنرالات. هذا التغلغل العسكري في الاقتصاد لا يضر فقط بالقطاع الخاص، بل يشوّه مفهوم المنافسة ويقوض إمكانات التنمية. كيف يمكن لرجل أعمال شريف أن ينافس شركة يملكها الجيش ويديرها ضابط، معفية من الضرائب، وتتمتع بامتيازات الدولة، وربما حتى بالحراسة المجانية، أما قرار تعليق أنشطة بعض الشركات، فبدا كمن يسحب عربة غاطسة في الطين، لكنه يترك العجلات (تلف على الفاضي) تدور في المكان نفسه. دون نقل فعلي لملكية هذه الشركات للسلطة المدنية، ووضعها تحت رقابة مالية ومحاسبية صارمة، فإن كل هذه التصريحات تبقى أقرب إلى مسرحية هزلية، أبطالها جنرالات يحسنون لعب أدوار (رأس المال الوطني(. لقد آن الأوان لأن يعود الجيش إلى ثكناته وإلى حدوده، لا إلى أسواق الخضار وأسهم الذهب. فالدولة لا تبنى بالبزنس العسكري، بل بمؤسسات مدنية شفافة ومساءلة حقيقية.. صحيح أن كل جيوش العالم لديها علاقة بالاستثمار، لكن استثمارهم متعلق بميزتهم التفضيلية مثل الاستثمار في الصناعات الدفاعية، فمثل هذا الاستثمار إذا ما انخرط فيه الجيش يكون استثمارًا مهمًا ومشروعًا بل ومطلوبًا، أما أن يدخل في أية استثمارات أخرى خلاف ذلك، فهذا يعني مضايقتها ومزاحمتها ومنافستها للقطاع الخاص والعمل على إزاحته.. الحاجة ضرورية جدًا اليوم قبل الغد لعملية الإصلاح، حتى يعود الجيش والقوى الأمنية الأخرى سيرتها الأولى قبل الأدلجة والتمكين، قومية ومهنية وبعقيدة وطنية، وتتمتع بمستوى عالٍ من الانضباط والتنظيم والتفوق الاستراتيجي، ولها عقيدة قتالية تقوم على أساس الدفاع عن الوطن والحفاظ على سيادته ووحدته الوطنية، ونظام انضباط عسكري صارم، وتقوم ببعض المهام المدنية المتمثلة في تقديم المساعدات أثناء الكوارث الطبيعية وحفظ الأمن في حالة الأوضاع الأمنية المضطربة، كما يجب أن تعود إلى سابق عهدها مؤسسات قومية ووطنية، ويعود الجيش إلى ما اشتهر به عبر الأزمان من بسالة ومهابة شهدت بها الكثير من الجولات والصولات والبطولات، والمشاركات في العديد من الجبهات الخارجية، مثل حرب المكسيك وشرق أفريقيا ومعركة العلمين ومعارك شمال أفريقيا، حتى قيل عنه يومها (إن أفريقيا أصبحت مدينة بحصولها على حريتها للجيش السوداني)..

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى